رياضة

هونج كونج: قصة استعارة متبادلة بين الهوية وكرة القدم

كيف تتشابك كرة القدم إلى حد التماهي مع الحياة، حتى إنها صارت بمرور الزمان ظاهرة اجتماعية متكاملة الأركان تعبر عن سيكولوجية الشعوب؟

future صورة تعبيرية: الهوية وكرة القدم في هونج كونج

«أنا ألعب؛ إذاً أنا موجود، أسلوب اللعب هو طريقة وجود تكشف لمحة فريدة عن كل المجتمعات، وتؤكد حقها في الاختلاف.»

الأديب الأوروجوياني إدوارد جوليانو عن كرة القدم

بكل هذه البساطة يشرح لنا جوليانو كيف تتشابك كرة القدم إلى حد التماهي مع الحياة، حتى إنها صارت بمرور الزمان ظاهرة اجتماعية متكاملة الأركان تعبر عن سيكولوجية الشعوب.

يتساءل جوليانو الذي تعامل مع كرة القدم على أنها مرآه للعالم، تحمل في طياتها ألف حكاية وحكاية عن معاني الحب والبؤس والمجد والاستقلال، أهي أفيون الشعوب؟

في هونج كونج تكمن الإجابة. صحيح أننا لم نسمع هناك عن لاعب فذ صال وجال في ملاعب أوروبا، أو عن معجزة حققها منتخب بلادهم في إحدى بطولات كأس العالم، لكن كرة القدم تخطت بالنسبة لهم كونها لعبة، فصارت هوية ثقافية واجتماعية وقصة تحكي حكاية الأرض والشعب، فكيف عبرت لنا كرة القدم في هونج كونج عن الاستعارة المتبادلة بينها وبين الهوية؟

بموجب عقدي إيجار

تبدأ حكاية كرة القدم في هونج كونج بعقدي إيجار وقعت عليهما الصين لصالح بريطانيا. الأول في العام 1841 حين تخلت عن جزيرة هونج كونج لصالح بريطانيا فيما يعرف باتفاقية تشونبي، والتي أتت بعد عامين من تدخل بريطانيا عسكرياً في الصين لإيقاف الحرب القبلية المندلعة هناك، والتي أطلق عليها حرب الأفيون، بزعم حماية مصالحها التجارية.

الاتفاقية الثانية كانت في العام 1898 عقب الخسارة المذلة للصين في الحرب اليابانية الصينية عام 1895، حيث أجبرت بريطانيا الصين بموجبها على السماح لها بتأجير الأراضي الواقعة بين ما يعرف بالشارع الحدودي وجنوب نهر تشوم، وضم كل ذلك إلى مستعمرة هونج كونج، بعقدٍ يمتد لمدة 99 عاماً.

لم يكن هدف بريطانيا منذ البداية هو الاستعمار العسكري فحسب، ولكنها سعت إلى فرض نموذج ثقافي واحد بين جميع مستعمراتها، وكانت كرة القدم هي أحد أهم أسلحتها في ذلك، لكن في هونج كونج لم يدُم ذلك طويلاً، ففجأة انقلب السحر على الساحر.

هوية وليدة المعاناة ومداعبة الكرة

في كتابه «الإمبريالية والهوية الثقافية وكرة القدم»  يتحدث الكاتب الأمريكي كريستوفر فيرارو عن أن كرة القدم كانت بمثابة السلاح الذي شهرته بريطانيا في وجه نفسها، حيث ساعدت من - وجهة نظره - الشعوب التي احتلتها لإيجاد هوية شخصية وجماعية لنفسها؛ مما أدى نهايةً إلى تهاوي الإمبراطورية التي اُعتقد لعقود أن شمسها ستسطع إلى الأبد.

عرف سكان هونج كونج كرة القدم على يد الجنود الإنجليز، والتي كانت عند ظهورها شأناً بريطانياً حصرياً، حيث مُنع الصينيون من ممارستها علناً، لكن سرعان ما تعلمها السكان المحليون، وتحولت من مجرد لعبة إلى أداة من أدوات التغيير السياسي، وذراع في نمو الحركات القومية المنددة بالاحتلال، وهو نموذج سيتكرر في غالبية المستعمرات البريطانية.

ساعدت كرة القدم مجموعات التحرير في مساعيها لتوحيد سكان الصين قبل الشروع في مجابهة الاستعمار، حيث تأسس أول نادٍ لكرة القدم في جنوب الصين عام 1904، كفكرة سياسية في المقام الأول، هدفها حشد أكبر قدر من الصينين حول هوية مشتركة.

سعى فريق الصين الجنوبي- الذي عُرف ضمنياً بفريق هونج كونج - للتفوق على المستعمر البريطاني في ساحات كرة القدم، واتخذت حركات التحرير من المباريات فرصاً للتنديد أو الحشد ضد الاستعمار.

استحوذ سكان هونج كونج على الفريق، سواء كلاعبين أو كمشجعين، لدرجة أن الكاتب الأمريكي كريستوفر فيرارو يعتبر أن هونج كونج تدين بكل الفضل لإرثها وهويتها لبريطانيا هناك.

أثار ذلك الضغائن بين أهل الشمال والجنوب الصيني، وهو ما سيسفر عن صراع سيستمر إلى يومنا هذا، وهنا حكاية أخرى ترويها قصة هونج كونج عن علاقة كرة القدم بالهوية.

باسم الصين عنوةً

عنوان هذا الفصل من القصة، والذي ترويه كرة القدم أيضاً، هو الصراع الداخلي والسياسي والثقافي بين الصين وهونج كونج.

لطالما اعتبرت الصين أن هونج كونج وسكانها ما هم إلا توابع لها بإشراف بريطاني لحين انتهاء مدة الاتفاقية الثانية، لكن المجابهة المنفردة على الساحات السياسية والرياضية من سكان هونج كونج ضد بريطانيا إبان الاحتلال أخلَّت بتلك العلاقة، على حد وصف توبياس زوسر، محاضر وباحث رياضي في جامعة هارفارد.

 شارك فريق هونج كونج باسم الصين في دورات الألعاب الآسيوية في مطلع القرن العشرين، وحصل 6 مرات على بطولة الشرق الأقصى المؤهلة للبطولة، معلناً أن الصين هي ملكة كرة القدم الآسيوية، لكن لاعبي هونج كونج كانوا يتحينون الفرصة للعودة للعب باسم بلادهم.

ومع إعلان الزعيم ماو سي تونج قيام جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر 1949، وأثناء الحرب الأهلية التي تعرضت لها الصين، نقلت العديد من الشركات الصينية مقرها إلى هونج كونج، لتتحول إلى منطقة صناعية واقتصادية مهمة، كانت المصدر الأول للاستثمار الأجنبي في الصين.

دفعت تلك الأهمية النظام الصيني الجديد لمناهضة أي دعوات لانفصال هونج كونج عن الصين، وكالعادة كانت كرة القدم هي الأداة لذلك، فأُجبر لاعبوها على استمرارهم في تمثيل الصين، وهو ما أسفر عن فوز الصين مرتين بدورة الألعاب الآسيوية في الخمسينيات.

لكن مع ضعف الجمهورية الصينية في سبعينيات القرن المنصرم، وجد لاعبو هونج كونج الفرصة مواتية للعودة لتمثيل بلدهم.

دولة واحدة ونظامان مختلفان

مع انتصاف ثمانينيات القرن الماضي بدأت الصين في السعي لعودة ملكية هونج كونج لها، وفي 19 ديسمبر 1984 وقع رئيس الوزاء الصيني زاو زيانغ مع رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر في بكين الإعلان الصيني البريطاني المشترك، حيث وعدت الحكومة البريطانية بتسليم هونج كونج، ووعدت الصين ببقاء النظام الرأسمالي هناك على الأقل لمدة 50 عاماً، مع تمتعها بحكم ذاتي، تحت ما سمي بدولة واحدة ونظامين مختلفين.

بالنظر لكرة القدم كانت الرواية مختلفة. عداء يبرز يوماً تلو الآخر، ومباريات تجمع المنتخبين، وكل مرة تزداد الندية بين اللاعبين والجماهير، ومدرجات تندد بسيطرة الصين على الجزيرة.

كان من الطبيعي أن تتفوق الصين كروياً على هونج كونج نظراً لوفرة قاعدة اللاعبين التي تنتقي منها، لكنه كان هناك لحظات تجلٍ لمنتخب هونج كونج، أبرزها كان التفوق في المباراة الفاصلة المؤهلة لكأس العالم 1986 في المكسيك، وهو ما يعتبر إنجازاً يحتفل به سكان هونج كونج إلى اليوم.

في الأول من يوليو 1997 أعلنت الصين استئناف ممارسة سيادتها على هونج كونج، ووسط الضغط الدولي أتاحت الصين لها استقلالية واسعة النطاق وحرية تعبير وقضاء مستقل، وفي الفترة نفسها قلت أهمية كرة القدم - أو لنقل أهميتها السياسية - بالنسبة لشعب هونج كونج؛ نظراً لما تمتعوا به من حريات.

نهاية سعيدة بكل تأكيد، لكن مهلاً فلا يزال للقصة بقية.

عودة إلى الملعب

في نهاية تسعينيات القرن الماضي، ومطلع الألفية الجديدة، شاب دوري هونج كونج المحلي العديد من المشاكل، مثل التلاعب بنتائج المباريات، كما لم تعد هونج كونج على المستوى الدولي كما كانت من قبل، وسط توغل صيني اقتصادي وسياسي وثقافي يهدف إلى تجديد الهوية الصينية داخل الجزيرة، مع تقليص مساحة الحريات.

في عام 2002 اقترحت إدارة هونج كونج قانوناً يجرم التظاهر والدعوات المنددة بالانفصال، كما يخول للحكومة تفتيش واعتقال المشتبه فيهم؛ إذاً حان وقت العودة للملعب.

خرجت مظاهرات منددة بالقانون مما أدى إلى إلغائه، لكن مع تحجيم العمل العام، عادت الجماهير إلى ملاعب كرة القدم، مما أعاد للعبة رونقها من جديد. ميدالية ذهبية في ألعاب شرق آسيا عام 2009، أعادت هونج كونج إلى الواجهة، لكن عودة الصراع المتزايد بين هونج كونج والصين، هو ما أعاد اللعبة حقاً.

مرة أخرى وفرت كرة القدم منصة لعرض المدينة وتقديم رواية بديلة لمجتمع هونج كونج أمام العالم غير التي ترويها الصين عنه. كانت ملاعب كرة القدم هي المحرك الرئيسي في كل مرة خرجت فيها مظاهرات كبرى تدعو للانفصال أو تندد بتوغل الصين في حكم البلاد.

في مارس 2023 سُطر المشهد الأخير من الحكاية، حين جمعت مباراة ودية بين هونج كونج وسنغافورة، حيث امتلأ الملعب تماماً، ليس لأهمية اللقاء ولكن كونه عُد اللقاء الأخير الذي تلعب فيه هونج كونج باسمها ذاك، حيث وافق اتحاد هونج كونج مسبقاً على تغيير اسم المنتخب إلى هونج كونج الصيني، مع تغيير قميص الفريق والشعار.

نفدت كل التذاكر، وبيعت جميع القمصان، ولُعب اللقاء وسط صافرات استهجان الجماهير. مرة أخرى كانت كرة القدم شاهداً على حكاية شعب، ومن عندها ستستكمل الحكاية إن كان لشعب هونج كونج رأي آخر.

نهايةً، كانت حكاية هونج كونج وكرة القدم أكبر من كونها قصة شعب يقع في جزيرة معزولة في الصين، وإنما شاهد وموثق لعلاقة كرة القدم التي تمتد جذورها إلى هويات الشعوب، تشاركهم حكايتهم، ثم ترويها لنا عنهم فيما بعد ذلك.

# علم نفس # كرة القدم العالمية # الصين

المعادن الحرجة: عودة إلى ساحة الصراع في ظل هيمنة التنين
هانزي فليك: شراسة العالم خلف هدوء حي ماكينلوش
الطابق المسحور: أين اختفى جيل منتصف التسعينيات؟

رياضة