أهلاً بك في أرض الغموض، حيث كل شيء مستتر، وكل الروايات تحتمل التأويل. أهلاً بك في المكان الذي لن تنصحك شركات السياحة لزيارته حتى وإن كنت من عشاق الغموض والإثارة. كوريا الشمالية حيث المؤكد الوحيد لنا عنها؛ أنها تحت إمرة الزعيم كيم جونغ أون.
لا مجال للاختيار، تحركات مرصودة، وأسقف طموحات محدودة، واختيارات شخصية شبه منعدمة. يدين الكل بالولاء التام للزعيم.
هذا كان وصف المصور الفرنسي إريك لافورغ لشعب كوريا الشمالية التي زارها ست مرات آخرها عام 2012 قبل منعه من دخولها لاحقًا. الأنكى أنه وصفهم بأنه الشعب الذي قد يحمل أطفاله على حقائبهم دمية ديزني الشهيرة ميكي ماوس، لكنهم لا يعرفونها.
قصتنا عن رحلة هان كوانج سونج الكوري الشمالي الوحيد -سعيد الحظ- الذي عرف ميكي ماوس ثم ذاب كالملح، فكيف حدث ذلك؟
ليس لدينا أي معلومة مؤكدة عن نشأة هان الأولى سوى أنه مواليد عام 1998 في العاصمة الكورية الشمالية بيونغ يانغ، ولا يُعرف سوى القليل عن حياته باستثناء التحاقه بمدرسة بيونغ يانغ الدولية لكرة القدم، التي ستُأسس لاحقًا بسبب ولع كيم بالرياضة.
يمكننا أن نعتبر أن الميلاد الحقيقي لهان هو عام 2012 عندما تولى كيم مقاليد الحكم بصفة رسمية، وقرر حينها أن الرياضة ستكون نافذة تطل بها كوريا الشمالية على العالم، ووسيلة من وسائل القوة الناعمة التي ستروج لها في الخارج، وفقًا لما أعلنته حينها وزارة التوحيد، التي اختتمت بيانها بجملة «هكذا أراد الزعيم».
وعندما يريد الزعيم أمرًا فلا بد أن تُسخر كافة الجهود من أجل تحقيقه. شاركت كوريا في الأولمبياد الصيفية عام 2012 في لندن، ثم في الأولمبياد الشتوية في أرض الجار غير المرغوب فيه -كوريا الجنوبية- عام 2018.
بدا انفتاح كوريا على الرياضة وكأنه باب لن يغلق في أي وقتٍ قريب، شغف الكوريون بكرة القدم، فسمح الزعيم أحيانًا للقنوات المحلية ببث بعض المباريات الأوروبية شريطة عدم بثها مباشرةً، ثم كانت الخطوة الأكبر عام 2013 عندما أسس كيم مدرسة بيونغ يانغ الدولية لكرة القدم في العاصمة، لتعزيز الاستثمار في مواهب كرة القدم، هناك خطا هان أولى خطواته ليس في كرة القدم فقط، ولكن نحو الحياة بأكملها.
في عام 2014 تمت دعوة ممثلين عن الاتحاد الدولي لكرة القدم لزيارة مدرسة «بيونغ يانغ»، للمساعدة في تثقيف المدربين واللاعبين المحليين. أعدت المدرسة مشروعًا واعدًا لرعاية المواهب المحلية، حيث عملت وفقًا لخطة مدروسة وإمكانيات مالية وتقنية عالية، فكانت خطوتها التالية هي إرسال 14 لاعبًا إلى إسبانيا، و15 آخرين إلى إيطاليا للتعلم من أندية كرة القدم هناك على نفقة الدولة تحت مسمى برنامج النخبة المرموقة.
وفقًا لوكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية، كان هان كوانج سونج هو الأكثر تميزًا من بينهم جميعًا. بدأت القصة تأخذ منحنى آخر عندما نُشر مقطع فيديو لهان على إحدى قنوات يوتيوب تُدعى YuMi، يُعتقد أنها تتبع مسؤولين رفيعي المستوى في كوريا الشمالية، وهو ما عُدَّ إيذانًا بتلميعه كجزء من حملة دعائية تهدف إلى تغيير الصورة الدولية للبلاد.
أصبح هان أكبر قصة نجاح من جهود كيم لتحويل البلاد إلى قوة رياضية، لمع نجم هان في سماء كوريا، ثم جاء دور الخطوة التالية وكأنها الحلم، بل ربما لم يداعب حلم كذلك مخيلة هان منذ مولده، حاله كحال بقية شعبه التي تُرسم وتؤطر لهم حتى أحلامهم.
في عام 2015 وبمرسوم رئاسي؛ حزم المراهق الطموح حقائبه إلى أكاديمية بيروجيا والتي تقع على بعد 105 ميلات شمال العاصمة الإيطالية روما، حيث المئات من الشباب الحالمين حول العالم باجتياز المسار التنافسي للعبة، والخطو قدمًا نحو واحد من أفضل دوريات العالم.
لم يكن الطريق ممهدًا للكوري الشمالي، لكنه «ذاق طعم الحياة لأول مرة» كما يقول ماكس كانزي مدرب فريق كالياري للشباب، الذي سيلتحق به هان بعد عام في أكاديمية بيروجيا، أثبت خلاله أنه يستحق فرصة للوجود ضمن النخبة.
تخطى هان حاجز اللغة والثقافة الإيطالية، التي لم يسمع بهما قبيل أن تخطو قدماه أرض إيطاليا، والأهم أنه نجح في كل اختبار وُضع فيه على أرض الملعب. هدف في أولى مبارياته رفقة فريق الشباب في كالياري في مارس 2017، ثم ترقية فورية للفريق الأول المشارك في الكالتشيو، وبعدها بأسبوع واحد فقط، كان هان الكوري الشمالي الأول في التاريخ الذي يسجل هدفًا في الدوري الإيطالي.
في كالياري الجميع يحبني، أشعر وكأني في منزلي.
فتحت إيطاليا أحضانها لفتى كوريا الواعد، إعارة لفريق شباب يوفنتوس، كانت بمثابة خطوة على الطريق الصحيح بالنسبة لهان، ثم صفقة شراء لعقده كاملاً من قِبل السيدة العجوز عام 2020، بمبلغ 3.5 مليون يورو وفقًا لموقع Transfer Market، كانت وكأن الفتى وكالياري ربحا اليانصيب، ضمن هان حياة جديدة وفي أكبر فرق إيطاليا، وحصل كالياري على مبلغ انتقاله لهم من الهواء. لكن فجأة تبخر الحلم.
لم يدم حلم هان بتمثيل البيانكونيري سوى أسبوع واحد فقط، حيث باعه يوفنتوس إلى الدحيل القطري مقابل 7.7 مليون دولار، وفقًا لتقرير مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
نعم لم نخطئ المصدر، انعقد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة خصيصًا لمناقشة عقد الكوري، بعدما أجرت بلاده التجربة النووية السادسة الناجحة، من خلال اختبار ما زعمت أنه الصاروخ الباليستي الأول العابر للقارات، وهو الأمر الذي دفع مجلس الأمن بفرض مجموعة من العقوبات بسبب مخاوفه من الأنشطة النووية والبالستية في الدول المنعزلة.
تطلبت هذه العقوبات من جميع الدول الأعضاء وقف تصاريح العمل للكوريين الشماليين، وبعدها بثلاثة أشهر قرر المجلس بأن جميع المواطنين الكوريين يجب عودتهم إلى بلادهم بموعد أقصاه 22 ديسمبر 2019، وذلك لأنهم يدرون عائدات بالعملات الأجنبية لبلادهم تُستخدم في تمويل البرامج النووية.
لكن هان أتمَّ انتقاله إلى الدحيل في عام 2020، بعدما تعهّد بعدم إرساله أية أموال إلى بلاده وفقًا لوثائق الأمم المتحدة، مما سمح له بالمشاركة في دوري نجوم قطر، ولعب دورًا مهمًا في تتويج فريقه بلقب الدوري، ووقع عقد مدته خمس سنوات بقيمة 4.6 مليون دولار، لكنه فجأة وبعد آخر مباراة له مع الدحيل أمام الأهلي القطري في 21 أغسطس 2020، خرج ولم يعد.
مرت عدة أشهر دون أن يعلم أي شخص مكان هان، المعلومة المؤكدة حينها أن الدحيل قد فسخ تعاقده معه، وتم ترحيله من قطر يوم 26 يناير 2021 بحسب تقارير مجلس الأمن.
ثلاث سنوات ونصف لم يكن هناك أي تقارير مؤكدة عما حدث له، وهل عاد إلى كوريا الشمالية، أم إنه احتجز في إحدى سفاراتها، بحسب ما يتوقع محررو موقع ذا أثليتيك، الأكيد أن هان بعدما كان الفتى المدلل للنظام الكوري وقائده، صار بين عشيةٍ وضحاها من المغضوب عليهم، ونترك البقية لخيالك.
تضفي قصة هان المزيد والمزيد من الغموض حول بلد لا يعرف الجميع كيف يدار داخليًا ولا خارجيًا، وحول شعب غير مسموح له سوى بالطاعة التامة أو الموت، وحول مستقبل لملايين البشر متعلق بكلمة من شخص واحد فقط.
عاش هان في الحلم، تخطى الحواجز، وترك لشعبه قصة رجل من كوريا الشمالية، أضفى خيوطًا جديدة في أحلام شعبه لم تكن موجوده قبله، ترك في مخيلتهم أبعادًا أكثر تشعبًا للحلم، حلم الحرية، وحلم النجاة من وطأة الطغاة، حتى ولو كانت تلك القصة قد سُطرت بفضل كيم ونظامه أنفسهم، فقد يكون هان ذات يومٍ الرجل الذي ألهم شعبًا كاملاً للحرية، وكم من قشة قسمت ظهر بعير على مدار التاريخ.
في النهاية، نود أن نخبرك أنه من دون سابق إنذار وبعد ثلاث سنوات ونصف، ظهر هان مرةً أخرى رفقة منتخب بلاده في تصفيات كأس العالم أمام منتخب سوريا في نوفمبر الماضي، ثم ظهر بعدها بخمسة أيام أمام منتخب ميانمار، وهو ما قد يجيب عمن كان السبب في اختفائه.