فن

مهرجان الجونة- «مجرد حادث» لجعفر بناهي.. لغز السعفة الذهبية

جدل في «الجونة» حول «مجرد حادث» هل هو إنجاز فني يستحق التتويج أم حكاية ترضي الغرب؟ .. إليك كيف تحدى جعفر بناهي النظام الإيراني على السجادة الحمراء في «كان»؟

future المخرج الإيراني جعفر بناهي بعد فوزه بجائزة السعفة الذهبية عن فيلم «مجرد حادث»

في أجواء مهرجان الجونة الممتعة، وبين الحضور الكبير من صناع السينما والنقاد ومحبي الفن السابع، عرض مساء أمس 17 أكتوبر فيلم «مجرد حادث» للمخرج الإيراني جعفر بناهي، أحد أبرز الأسماء التي ارتبطت في السنوات الأخيرة بالسينما الإيرانية ذات الطابع الواقعي والرمزي في آنٍ واحد.

وكالعادة، أثار الفيلم بعد عرضه جدلًا واسعًا بين من يراه إنجازًا فنيًا يستحق التتويج، ومن يراه عملًا جيدًا لكنه لا يرقى لأن يكون صاحب السعفة الذهبية. ومن وجهة نظر نقدية أنتمي إلى الفئة الثانية.

جعفر بناهي، تاريخ من النضال.

يعد جعفر بناهي واحدًا من أكثر المخرجين الإيرانيين جرأةً وإصرارًا على ممارسة الفن بوصفه فعل مقاومة. فبعد مشاركته في الانتفاضة الخضراء عام 2009، جاء الحكم الصادر بحقه قاسيًا وغير مسبوق: ست سنوات من السجن، وعشرون عامًا من المنع من السفر، ومن صناعة الأفلام، ومن ممارسة أي نشاط سياسي. ومع ذلك، لم يخضع بناهي، بل بدأ إضرابًا عن الطعام داخل محبسه، في إشارة رمزية إلى تمسكه بحقه في التعبير.

وعلى الرغم من قسوة الظرف، فإن السينما الإيرانية — تلك التي صنع مجدها تحت قيود المنع ومحدودية التمويل — لم تتخل عنه؛ إذ توالت الدعوات الفنية والحقوقية الدولية للإفراج عنه، حتى أطلق سراحه بعد شهور قليلة. خرج بناهي ليعلن بصراحة، في تصريح شهير له:

«أريدكم أن تضعوا أنفسكم مكان صانع أفلام لا يجيد سوى صناعتها، ولا يحب سواها. كم عشرين عامًا لدي لأضيعها؟ هذا ليس إفراجًا، لقد خرجت من سجنٍ صغير لأُحبس في آخر أكبر».

كلمات كشفت عن وعيه بأن الحرية في إيران ليست قرارًا قضائيًا بل معركة مستمرة.

لم يمض سوى عامين على الإفراج عنه حتى عاد متحديًا المنع بفيلمه «هذا ليس فيلمًا»، الذي صوره داخل شقته وهو تحت الإقامة الجبرية، مستخدمًا كاميرا صغيرة وزواره العاديين، دون تصاريح أو ممثلين محترفين. اختار له اسمًا ساخرًا يؤكد المفارقة: «هذا ليس فيلمًا»، مضيفًا في نهايته جملة طريفة تفيد بأن ما «ليس فيلمًا» تم تهريبه خارج إيران في قرصٍ مخبأ داخل كعكة عيد ميلاد. بهذا الفعل الإبداعي المتمرد، رسخ بناهي صورته كفنان لا يستسلم للمنع، بل يحوله إلى مادة للخلق والتجريب.

يعد بناهي اليوم أحد رواد الموجة الجديدة في السينما الإيرانية، تلك المدرسة التي أنجبت أسماء كبرى مثل عباس كيارستمي ومجيد مجيدي وأصغر فرهادي، والتي تميزت بخصائصها الإنسانية العميقة: الكتابة الشاعرية، وكثرة المجازات، والواقعية المكثفة، والانحياز للفئات المهمشة. وربما كانت القيود التي واجهتها السينما الإيرانية هي العامل الأهم في صياغة ملامح هذه المدرسة، التي حولت القمع إلى شعرٍ بصري، والمنع إلى دافعٍ للإبداع.

«مجرد حادث» = It was just an accident

تدور قصة فيلم «مجرد حادث» حول يومٍ عادي في حياة عائلةٍ إيرانية يتحول تدريجيًا إلى لحظة فاصلة تكشف هشاشة العلاقات الإنسانية تحت ضغط القهر الاجتماعي والسياسي.

تبدأ الحكاية من مشهد بسيط — حادث سير يبدو عرضيًا — لكنه يفتح سلسلة من الأحداث التي تجر الشخصيات إلى مواجهة مع ذواتها قبل أن تكون مواجهة مع المجتمع. من خلال هذا الحادث «العابر»، ينسج جعفر بناهي شبكة من التفاصيل الصغيرة التي تُظهر الواقع القاسي والمرير الذي يعيشه المجتمع الإيراني.

دراما فكاهية!

بدا جعفر بناهي، من خلال اختياراته الإخراجية، حريصًا على أن يبقي المشاهد في حالة انتباهٍ دائم، وأن يقدم حكايته بطريقة غير مألوفة؛ فحاول أن يخفف من قتامة الموضوع الدرامي بتقديمه في صيغةٍ فكاهيةٍ ساخرة، تفتح مساحة للتأمل دون أن تغرق المشاهد في الكآبة المعتادة لأفلام هذا النوع. في نصفه الأول، يأسر «مجرد حادث» المشاهد بسرده المتماسك وإيقاعه الهادئ المتوتر في الوقت نفسه. يمتلك بناهي قدرة لافتة على بناء المشهد من خلال المونتاج المتقن والتمثيل الصادق الذي يمنح الشخصيات عمقًا إنسانيًا حقيقيًا.

بدا السرد في البداية كأنه رحلة داخل النفس الإيرانية الممزقة بين الواقع والقمع، بين الرغبة في الحياة والخضوع للقدر. كان المونتاج هو العمود الفقري للفيلم، يربط المشاهد في خيط سردي محكم دون أن يفقد توازنه، كما أن الأداء التمثيلي من طاقم العمل جاء متقنًا، طبيعيًا، غير متكلف. ومع ذلك، فإن العامل الجاذب الأكبر كان طريقة السرد التي مزجت بين الواقعية والتأمل الفلسفي.

لكن كل هذا الزخم يتراجع تدريجيًا مع دخولنا الثلث الأخير، حيث ينهار البناء الذي شيّده المخرج بعناية. يتحول الفيلم من سردٍ محمل بالرموز والدلالات إلى حوارات مباشرة فجة، تكاد تقتل الغموض والتأمل اللذين بنى عليهما العمل منذ البداية. بدا وكأن المخرج تخلى عن لغة السينما ليمسك بميكروفون الخطابة، فصار الفيلم يلقي مواعظ سياسية واجتماعية بدلًا من أن يستدرجنا إلى تأملها عبر الصورة.

بين السياسة والفن

لا يمكن إنكار أن موضوع الفيلم — عن حياة الإنسان الإيراني في ظل مجتمع مغلق — أصبح اليوم تقليديًا ومتكررًا في السينما الإيرانية المعاصرة، لكن المعالجة في «مجرد حادث» جاءت جيدة إلى حد كبير، استطاعت أن تمنح هذا الموضوع القديم بعض الحيوية من خلال بناء درامي داخلي متماسك، على الأقل حتى اللحظة التي قرر فيها بناهي أن يشرح أكثر مما يصور، وأن يقول ما كان يمكن أن يفهم دون أن يقال.

وأعتقد أن الفيلم لو كان احتفظ بنفس الإيقاع والبنية السردية التي بدأ بها، لكان واحدًا من أفضل أفلام بناهي وأكثرها اتزانًا. لكنه خسر تماسكه في النهاية، فاقدًا بذلك جزءًا من تأثيره الجمالي والمعنوي.

لغز السعفة الذهبية

يبقى السؤال الأهم: لماذا فاز فيلم «مجرد حادث» بالسعفة الذهبية؟ الإجابة، في رأيي، ليست فنية بقدر ما هي سياسية وثقافية.

فالغرب — وتحديدًا لجان التحكيم في المهرجانات الكبرى — يحب أن يسمع ما يؤكد له الصورة النمطية التي كونها عن إيران: بلد منغلق، محكوم بالسلطة، يعيش فيه الفنانون والمفكرون في قيد دائم، يصرخون بالحرية ولا يجدون من يصغي إليهم.

«مجرد حادث» قدم هذه الصورة بشكل مباشر جدًا، وربما لهذا السبب نال إعجاب التحكيم. ليس لأن الفيلم عمل استثنائي من حيث اللغة السينمائية أو التجديد البصري، بل لأنه يحكي ما يريد الغرب سماعه عن إيران، بلغة فنية قوية إلى حد كبير، ومضمون سياسي «آمن» بالنسبة للمهرجانات.

وبينما يمكن تفهم هذا التقدير في سياق الإعجاب الغربي بقدرة الفن الإيراني على التعبير عن القمع من الداخل، إلا أنه من الظلم — فنيًا — أن نقيم الفيلم من هذه الزاوية وحدها. نحن هنا لا نحاكم شجاعة المخرج، ولا ننتقص من رمزيته، بل نحاكم الفيلم كعمل سينمائي يجب أن يقاس بمعايير الصورة، والبناء، والإيقاع، والتماسك، لا بمعايير السياسة والبيانات المضمرة في الحوار.

الخاتمة

في الأخير، تجربة مشاهدة الفيلم تجربة ممتعة على أي حال، والسينما الإيرانية لا تكف عن إبهارنا بكل جديد، سينما تتقدم إلى العالمية بتقديم أعمال أصيلة غير متأثرة بالأفلام الغربية، فالسينما الإيرانية تغرّد منفردة في سياق آخر عن الجميع، وعلى عكس ما يفعله كثير من صناع الأفلام العرب الذين يقدمون أفلامًا مسخًا لا روح فيها، نجح جعفر في أن يحصد جائزة كبيرة مثل السعفة الذهبية من مهرجان كان بفيلم يحكي ألمه الخاص جدًا.

# سينما عالمية # سينما إيرانية # مهرجان كان # مهرجان الجونة

البحث عن شكسبير في سينما فوزي بنسعيدي
The Father: الخرف كهاوية سقوط
بين البندقية وتورنتو: أين يختبئ الفائز بالأوسكار؟

فن