مجتمع

من فيتنام إلى غزة: كيف ألهم طلاب أمريكا العالم؟

كيف وضع حراك طلاب الجامعات الأمريكية إسرائيل في ضائقة دولية، وجعلت سمعتها أكثر سوءًا، وهو الأمر الذي ربما تحتاج إلى سنوات – بعد الحرب - لمعالجته؟

future اعتصام طلاب جامعة كولومبيا في نيويورك للمطالبة بوقف الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني

بينما يستغيث قطاع غزة بالعالم الذي يقف موقف المتفرج على ما تقوم به إسرائيل من فظائع ضد الإنسانية، جاءت صرخة طلاب الجامعات الأمريكية لمحاولة إيقاف سيل الدماء المنهمر من جراح هذا القطاع الصامد، الذي طالما عانى من ويلات الحروب الإسرائيلية عليه، وما زال يئن ويعاني من الطعنة التي تلقاها منذ عدة أشهر.

فمنذ عدة أسابيع استيقظ العالم على شرارة احتجاج طلاب الجامعات الأمريكية ضد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي أخذت تنتشر بين الجامعات كالنار في الهشيم لتشمل عدة جامعات، بدأت بجامعة كولومبيا وامتدت لجامعات أخرى مثل تكساس وأوهايو وهارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وبيركلي وميشيغن وبوسطن، وغيرها من الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة، وليس الولايات المتحدة فحسب بل امتدت إلى الخارج في بريطانيا وفرنسا وهولندا وكندا وأستراليا.

وعلى الرغم مما يتعرض له الطلاب من قمع وتنكيل ومحاولات لفض اعتصاماتهم ومظاهراتهم بالقوة، فإن هذا الأمر زادهم قوة وصمودًا، فقد ملأت الخيام الساحات في الجامعات، وردد المحتجون هتافات مثل «فلسطين حرة»، وطالبوا بوقف دائم لإطلاق النار في غزة، ووقف المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، وسحب استثمارات الجامعات مع الشركات الداعمة لإسرائيل، ووقف التعاون الأكاديمي مع الجامعات الإسرائيلية، والتراجع عن الإجراءات القمعية التي واكبت الحراك. بالإضافة إلى الامتناع عن إنفاق أصول الجامعات الكبرى في شركات تصنيع الأسلحة أو غيرها من الصناعات التي تدعم حرب إسرائيل على قطاع غزة.

أعادت هذه الاحتجاجات الحاشدة إلى الأذهان الحراك الطلابي الضخم الذي اجتاح الولايات المتحدة الأمريكية، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إبان حرب فيتنام، والذي أثر من خلال أكثر من مسار على مصير الحرب والسياسة في واشنطن.

محطات من النضال

أثناء حرب فيتنام في ستينيات وبداية سبعينيات القرن العشرين، كان للاحتجاجات الطلابية الأمريكية ضد الحرب أثر كبير على مسارها، فقد شهدت الجامعات الأمريكية في مختلف أنحاء الولايات المتحدة احتجاجات واسعة ضد حرب فيتنام من قبل الطلاب والأساتذة شملت مظاهرات وإضرابات واعتصامات للاحتجاج على استمرار الحرب.

 وكانت هذه الاحتجاجات جزءًا رئيسًا من الحركة الأمريكية الشعبية المضادة للحرب التي ساهمت بشكل كبير في تكوين الرأي العام الأمريكي، وفي التأثير على قرارات الإدارات الأمريكية المتعلقة بتلك الحرب.

حدثت أول مظاهرة كبيرة من قِبل الطلاب في أكتوبر 1963، عندما لم يكن هناك سوى مستشارين عسكريين أمريكيين في فيتنام، وقد عارضت هذه المظاهرة دعم الحكومة الأمريكية لـنغو دينه ديم، الرئيس القمعي لفيتنام الجنوبية، كما نُظمت بعض الأحداث المناهضة للحرب مثل مسيرة الـ15 ألف شخص من جامعة كاليفورنيا في بيركلي باتجاه محطة جيش أوكلاند، وكان ذلك في أكتوبر 1965.

وازدادت المظاهرات في عام 1966 لتغيير سياسة نظام الخدمة الانتقائية التي عرّضت الطلاب في النصف الأخير من فصولهم الدراسية لاحتمال إلغاء تأجيلاتهم في التجنيد، وبالتالي تجنيدهم، وتحولت المحاضرات إلى اعتصامات، واستولى الطلاب على المكاتب الإدارية، واحتل طلاب جامعة ويسكونسن مبنى إداري في مايو 1966، وسيطر طلاب جامعة كولومبيا على عدة مبانٍ وطالبوا بإلغاء العقود مع مراكز أبحاث الأسلحة المرتبطة بالحرب.

مع بداية عام 1967، واصل العديد من الطلاب المناهضين للحرب الأشكال التقليدية للمعارضة، فنشروا إعلانات مناهضة للحرب في الحرم الجامعي، وبحلول عام 1968 بدأ النشاط الاحتجاجي يتغير. وأصبح الخطاب أكثر حدة، وأصبح المتظاهرون أكثر استعدادًا للانخراط في المواجهة.

نظم الطلاب دورات تعليمية مناهضة للحرب، وقاموا بمهاجمة مراكز تدريب ضباط الاحتياط في الحرم الجامعي، واحتجوا على علاقات الجامعات بصناعات مثل شركة داو كيميكال، منتجة النابالم، الذي استخدمته القوات الأمريكية في فيتنام.

وخلال عام 1968، وهو أحد أكثر سنوات الحرب دموية، كانت الصور البيانية ولقطات الفيديو التي تُظهِر العنف يشاهدها الناس في منازلهم. فتصاعدت الاحتجاجات في الجامعات وفي المجتمع الأمريكي ككل. وفي مختلف أنحاء العالم؛ حيث خرج معارضو الحرب إلى شوارع باريس وبرلين في فبراير 1968، وفي مارس خرجت تظاهرت حاشدة من جانب الحركة الطلابية المكسيكية.

استمرت الاحتجاجات الطلابية بفرنسا في ذات الشهر، حين نظم طلاب جامعة نانتير احتجاجًا على قمع مظاهرة بباريس مناهضة لحرب فيتنام، وأُلقي فيها القبض على عدد منهم. وعلى إثر الاحتجاجات، أُغلقت الجامعة، وتطور الأمر في مايو إلى احتجاجات أخرى اجتاحت جامعة السوربون رفضًا للقرارات القمعية بحق جامعة نانتير واحتجاجًا على أحداث العنف والقمع ضد الطلاب، وتصدت الشرطة للحراك الطلابي بالسوربون وحاولت فض المظاهرات واعتدت على الطلاب.

اتسع نطاق الاحتجاجات في فرنسا، وخرجت مظاهرة ضخمة شارك فيها أكثر من مائتي ألف من الطلاب والأساتذة والنخب المثقفة، واشتبكوا مع الشرطة، وازداد الحراك بانضمام النقابات العمالية من معظم القطاعات الخدمية والصناعية، وأُعلن إضراب عام استمر 24 ساعة، أدى إلى شلل شبه كامل في البلاد، مما دفع الحكومة إلى حافة الانهيار.

شغب القبعات الصلبة

وصلت الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية ذروتها عام 1970، ففي ربيع هذا العام تغيرت الأمور بشكل كبير؛ إذ أدى الغزو الأمريكي لكمبوديا إلى تصاعد الاحتجاجات بشكل غير مسبوق، مما أدى إلى إطلاق الحرس الوطني الأمريكي للنار على الطلاب في جامعة ولاية كينت، في الرابع من مايو 1970، حيث قُتل 13 طالبًا.

بعدها مباشرةً دعا الطلاب إلى إضراب، وفي اليوم التالي (الخامس من مايو 1970) حضر ستة آلاف طالب مسيرة إضرابية، ثم خرجوا بمسيرة خارج الحرم الجامعي، وتوجهوا إلى الطريق السريع، وأعاقوا حركة المرور لساعات أثناء سيرهم في وسط المدينة، وعلى مدى الأسبوعين التاليين، استمر الإضراب والمسيرات على الطرق السريعة.

وبينما الطلاب على هذا الحال من الغضب والغليان، إذ ببعض عمال البناء يحملون الأعلام الأمريكية ويهتفون: «أمريكا … أحبها أو اتركها». وعلى الجانب الآخر يهتف المتظاهرون المناهضون للحرب: «السلام الآن».

وفي مشهد درامي فوضوي يقوم 400 عامل بناء و800 من القائمين بأعمال مكتبية بمهاجمة نحو ألف محتج في مدينة نيويورك، فيما أُطلق عليه شغب القبعات الصلبة؛ حيث قام عمال البناء بضرب المتظاهرين بالخوذات لتفريقهم وردعهم عن تلك الاحتجاجات. واندلعت أعمال الشغب لأكثر من ثلاث ساعات مما أدى في النهاية إلى حصار قاعة مدينة نيويورك، وأصيب نحو مائة شخص، بينهم سبعة من رجال الشرطة، فيما أصبح يعرف باسم الجمعة الدامية.

كان لتلك الحادثة وحادثة إطلاق النار في جامعة ولاية كينت أثر كبير لدى الرأي العام، ما أسهم في النهاية في إنهاء الحرب؛ حيث أشار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لاحقًا إلى أن الاعتصامات كانت أحد أسباب انسحاب القوات الأمريكية من فيتنام عام 1973، كما كانت أحداث جامعة كينت بداية الطريق نحو الكشف عن فضيحة التجسس المعروفة بووترغيت التي أدت إلى تنحي الرئيس.

فيتنام بايدن

يبدو أن الولايات المتحدة ما زالت تستخدم النهج نفسه في التعامل مع مثل هذه الاحتجاجات والمظاهرات الطلابية؛ حيث تقوم الشرطة الأمريكية باعتقال المئات من الطلاب وتفض الاعتصامات بالقوة، لكن ذلك لم يخمد أو يضعف من قوة الاحتجاجات، بل ازدادت وتأججت كالنار في الهشيم، واتسعت رقعة التظاهرات الداعمة لوقف العدوان على غزة في غالبية الجامعات الأمريكية في الساحل الشمالي والجنوبي، وفي كل أرجاء الولايات المتحدة.

وقد أثار قمع احتجاجات طلاب الجامعات الأمريكية، مقارنات مع الاحتجاجات ضد حرب فيتنام، التي أضرت بمؤتمر الحزب الديمقراطي في عام 1968، عندما أسقط الرئيس ليندون جونسون حملة إعادة انتخابه في مواجهة الاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام، وساعد ذلك في تمهيد الطريق لانتصار الجمهوري ريتشارد نيكسون، على هيوبرت همفري في السباق إلى البيت الأبيض في وقت لاحق من ذلك العام.

وقد صرح السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز، لشبكة CNN، أن الاحتجاجات المعارضة للحرب الإسرائيلية على غزة، التي تشهدها الجامعات الأمريكية، قد تكون «فيتنام بايدن»، محذرًا من أن موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن بشأن الحرب ربما يؤدي إلى نفور الناخبين الشباب. وقارن ساندرز بين الاحتجاجات الحالية، وتلك التي حدثت خلال رئاسة ليندون جونسون في أواخر الستينيات عندما احتج الطلاب الأمريكيون ضد حرب فيتنام؛ حيث قال:

كان ليندون جونسون رئيسًا جيدًا جدًا جدًا، في كثير من النواحي، واختار عدم الترشح في 1968 بسبب معارضة آرائه بشأن فيتنام.

وأردف ساندرز:

أشعر بقلق شديد من أن الرئيس بايدن يضع نفسه في موقف يؤدي فيه إلى نفور ليس الشباب فحسب، بل الكثير من القاعدة الديمقراطية فيما يتعلق بآرائه بشأن إسرائيل وهذه الحرب.

ويرى محللون أن نشاط الجامعات والطلاب كان ولا يزال أحد أهم العوامل المؤثرة على السياسة الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة، وإن كان تأثير هذا الحراك الطلابي قد يستغرق بعض الوقت ليؤتي ثماره، وفي الوقت نفسه، ليس هناك شك في أن هذه الاحتجاجات تؤرق صناع السياسات والمشرعين في الولايات المتحدة وإسرائيل، فنشاط الطلاب يضر بالقادة السياسيين من بايدن إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

فها هو نتنياهو يُصرّح أنه «يتعين بذل المزيد للتصدي للاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين التي انتشرت في الجامعات الأمريكية» في الأسابيع القليلة الماضية، ويؤكد أن «ما يحدث في الجامعات الأمريكية مروع».

إجمالًا، ربما لا تنجح الاحتجاجات الطلابية حول العالم في تغيير مسار الحرب الإسرائيلية الدائرة حاليًا في غزة، كما فعلت سابقًا في حرب فيتنام، ولكن من المؤكد أنها وضعت إسرائيل في ضائقة دولية، وجعلت سمعتها أكثر سوءًا، وهو الأمر الذي ربما تحتاج إسرائيل إلى سنوات – بعد الحرب - لمعالجته.

# الولايات المتحدة # غزة # طوفان الأقصى # الجامعات الأمريكية # إسرائيل # احتجاجات الجامعات الأمريكية

«معركة خلدة»: عن الهزائم التي تلد انتصارات
من هو ماركو روبيو المرشح لمنصب وزير الخارجية الأمريكي؟
هيجسيث: وزير دفاع يكره المرأة في الجيش الأمريكي

مجتمع