يستهل جمال حمدان تحليله لحرب أكتوبر بعبارة بليغة في اللغة، فياضة في العواطف والمشاعر، تعكس بوضوح اللحظة الفارقة لاسترداد الكرامة من بئر الانكسار، يقول حمدان:
«لقد عدنا يا دايان: نعم، عدنا إلى سيناء لا بشروط صهيون المهينة والحلول الاستسلامية — كما ظل سنوات يتبجح بكل غرور الحقود وصلف المتحكم القميء — ولكن على أشلائه وفوق جثته عدنا، عدنا بقوة الحديد والنار بعد أن أنفق العدو ست سنوات يصور وجوده في سيناء المحتلة قلعة صماء غير منفذة للغزو، مستحيل اقتحامها». تستمر اللغة الخطابية العاطفية في مقدمة التحليل، فنقرأ حمدان يقول: «وعدونا خبيث أكثر مما هو ذكي، حاقد أكثر منه قادر».
وفي المقال الحالي سننتخب من تحليل حمدان للمعركة خمسة أفكار كبرى كافية بأن تعرض لنا المعركة، الحرب، في تحليل جغرافي وسياسي وعسكري.
الحرب النفسية
واحدة من أهم تحليلات حمدان في كتابه «6 أكتوبر في الاستراتيجية» التوكيد على مسألة الحرب النفسية، وقد جمع فيها معلومات من مصادر متعددة ترسم ملامح تلك الحرب لكي تثني العرب عن الدخول في أي معركة قادمة. فلقد أنفق العدو ست سنوات لكي يكسب المعركة المنتظرة بغير رصاصة على الإطلاق أو قبل إطلاق الرصاصة الأولى، كان العدو يعرف أن هناك معركة رابعة أو بالأحرى يخطط لأن لا تكون هناك معركة رابعة على الإطلاق.
كرس العدو أسطورة خرافية بناها عن جيش الدفاع الذي لا يقهر وبزعامة قادته «آلهة الحرب الجدد» معتمدًا على التفوق التكنولوجي والجوي الطاغي والحرب الإلكترونية. وقد استخدم العدو هذه التقنيات في استعراض عضلات لإرهاب العرب بالأسلحة المتطورة والسرية، ولا سيما طائرات الميراج والفانتوم.
والهدف «إرهابنا نفسيًا لنرتعد… فنرتدع… فنتقاعس عن المواجهة». وكما يلاحظ حمدان وأبناء جيله فإن إسرائيل خلقت الأسطورة وضخمتها ونشرتها وأشاعتها، ثم عاشت فيها حتى صدقتها. وينقل حمدان عن بعض المصادر إن إسرائيل صدقت الأسطورة حتى هزمتها. لكنه سرعان ما يستدرك كلماته ويؤكد «كلا، بل نحن الذين هزمناها».
وهذا الاستدراك التحذيري سببه تخوف حمدان من أن يتسرب إلى نفوسنا خداع جديد بعد أن انتشرت في الإعلان الغربي نظرية تبريرية تقول إن إسرائيل إنما هُزمت لأنها صدقت أسطورة تفوقها وعاشت في أوهام استعلائها. لا ينكر حمدان هذه النظرية ويتفق في أن الغرور الاسرائيلي الوقح وجنون العظمة كانا سببين قاتلين لإسرائيل في الحرب، لكنه يشدد على أن الضربة الموجعة القاضية أنما أتت من القدرة العربية الذاتية، المفترى عليها طويلًا، ومن التخطيط والتصميم والإرادة العربية. يخلص حمدان إلى مقولته المعبرة هنا
«نحن لم نسرق نصرًا سهلًا هشًا من وراء ظهر العدو، وانما انتزعناه من بين أسنانه بجدارة واقتدار».
يستعين حمدان بكتاب ألفه العسكري السوري القدير هيثم الأيوبي صدر فور حرب أكتوبر، ويستشهد منه بأكثر من مرة، وفي مسألة التحليل النفسي ينقل عنه هذه الفكرة:
«إن انتصار اسرائيل السهل في عام 1967 كان أكبر أعدائها، وأخطر ما تعرضت له في حياتها، وأن هزيمة 1967 علمت العرب دروسا كثيرة وكانت أفضل حلفائهم في الحرب الرابعة».
أي أن القاعدة التاريخية كررت نفسها هنا أيضًا حيث «يندر أن يتعلم المنتصر الكثير من انتصاره، أما المهزوم فهو أكبر المتعلمين من الهزيمة».
من هزيمة يونيو إلى معركة أكتوبر
المبادأة والمفاجأة
هذا عنوان فرعي في الفصل الثاني للكتاب يقصد به حمدان المبادأة بالهجوم. يمضي حمدان فيوضح أن استراتيجية العدو كانت دومًا هجومية، تحرص فيها إسرائيل ألا تترك لنا زمام المبادأة أو المبادرة. وينقل حمدان عن المراجع أن دايان كان يردد متفاخرًا أنه «لم يحدث قط أن كان جيش إسرائيل في وضع دفاعي».
ويفسر حمدان ذلك بأن هذا النهج هو في حقيقته «حرب وقائية مكذوبة ملفقة المنطق، سياسة شل الأعصاب وتدمير قوة الخصم غدرًا على الأرض قبل أن يتحرك». وكما يقول أحد قادة أركان العدو «ما من شيء أخطر على وجود إسرائيل من الروح الهجومية عند العرب».
من هنا يأتي الاحتفاء بأكتوبر، فهي أول حرب — بعد ثلاثة حروب — كان العرب فيها في موقف الدفاع السلبي الثابت، فإذا بهم يمتلكون زمام المبادأة والمبادرة والحركة والهجوم استراتيجيًا وتكتيكيًا في ظل استراتيجية عظمى وروح سائدة وعقيدة قتالية هجومية في المقام الأول، وكقاعدة شهيرة في الحرب:
«المهاجم والباديء بالهجوم هو الأقدر والأقوى على فرض إرادته، وهو الأقرب إلى احتمالات النصر، والأكثر تدميرًا للعدو حتى إن لم ينتصر».
ويخرج حمدان من هذه القاعدة بحكمة للغد «لا ينبغي للعرب أن يكونوا بعد اليوم على الدفاع، الهجوم أولًا، الهجوم أولى، الهجوم وإلا فلا». يلاحظ حمدان أن معاركنا مع إسرائيل تتسم بالقصر مهما طالت، تُعدّ باليوم أو على الأكثر بالأسبوع. ومرد ذلك أن العدو هو الذي حدد وقتها من خلال منهجه في الحرب الخاطفة.
ومن هنا فإن أكتوبر تُعد حربًا طويلة مقارنة بالحروب الثلاثة السابقة. كما يلاحظ في نفس الوقت تعدد جبهات القتال واتساعها على الجبهتين: سيناء والجولان. وقد جاء تعدد الجبهات هذا مع تنسيق دقيق بارع بين الجبهتين السورية والمصرية، توقيتًا وهجومًا وتفاعلًا.
ويضيف حمدان عنصر المفاجأة باعتباره مكملًا وامتدادًا جوهريًا لعنصر المبادأة، إن لم يكونا وجهين لشيء واحد في الحقيقة. وقد عبرت المفاجأة الاستراتيجية عن نفسها لأن المواجهة المباشرة وجهًا لوجه جرت عبر مياه القناة، فسيناء محتلة، وأهداف الجيش المصري في التحرير معلنة غير خافية، والاتجاهات الجغرافية الرئيسية الممكنة للهجوم محددة بالجغرافيا الطبيعية. ومن ثم فالمفاجأة بمعناها الاستراتيجي الجذري والجوهري شبه مستحيلة مع عدو يرصد كل ما تقوم به عبر ضفة القناة.
لاندسكيب المعركة
من ذات المصادر العسكرية التي استعان بها حمدان نتعرف معه على ثبت وتوثيق — بليغ ورشيق في اللغة وانسيابي في الأسلوب — لمراحل العبور الذي وصفه حمدان بـ«اقتحام العقبة»، ففي قفزة كبرى واحدة، وفي مبارزة نارية التحامية بين البر والبحر وبين الأرض والسماء، تم اكتساح أصعب مانع مائي في العالم. وفي تفصيل احتياز العقبات، نتعرّف على أول مانع وهو ساترنا الترابي على الضفة الغربية للقناة، فقد كان لا بد من إعداد فتحات فيه كمنازل أو ساحات إسقاط للكباري، منها يتدفق العبور حين يبدأ. وكان هذا يتم تحت بصر العدو، وهو ما معناه أن يكشف جيشنا له عن نواياه واتجاهاته. ولهذا فقد حُلّت المشكلة بإعداد فتحات خداعية على طول القناة برمتها: فتحة كل ربع كيلومتر، بحيث استحال على العدو أن يعرف أو يحدد أين ومتى سنعبر.
وبمجرد نزول القناة قابل جيشنا سلسلة من ثلاثة موانع تفصيلية: خط أحواض النابالم، خط الأسلاك الشائكة، ثم خط حقول الألغام. والخطوط الثلاثة تتمحور بطبيعة الحال حول خط بارليف، الذي هو العمود الفقري في هذه الثلاثية الكبرى. وخط بارليف يشرف على المسرح كله أرضًا وماءً، ويسيطر على المكان سيطرة كاملة، وهو غير قابل للتدمير بإصابات القنابل المباشرة سواء بالمدفعية الثقيلة أو من الطائرات القاذفة.
وعلى جانبي القناة، في غرب سيناء وشرق الدلتا، تألّف مشهد من مظهر الأرض الحربي، أو ما يمكن تسميته «اللاندسكيب العسكري»، المكوّن من العقبات والطرق والممرات والقنوات والتحصينات والدشم والحصون، وفي الخلفية ترع ومصارف وقنوات ومستنقعات وملاحات وسواتر تراب هائلة وقلاع مشيّدة ومنشآت ومصاطب وقواعد صواريخ ثابتة وأطباق رادار عظيمة الأقطار ومطارات ومهاجع وأبراج مراقبة وترسانات الأسلحة الضخمة، وحقول ألغام شاسعة وأسلاك شائكة، ثم بما حُفر فيها من آلاف الخنادق الملتوية والمخابئ والملاجئ ودشم وأوكار الدبابات وبطاريات المدفعية.
وفي إيجاز بليغ يُلخّص حمدان مشهد «اللاندسكيب الحربي» بقوله:
«أصبحت صفحة الإقليم هنا بما أُقيم عليها من خطوط دفاع مُرصّعة بآلاف الملامح والمعالم والهيئات العسكرية التي قد تتقارب أحيانًا وتتكاثف في تجمعات كالأسراب الحاشدة أو تتباعد هنا وهناك في كوكبات أو تنقطها في وحدات منعزلة، ولكنها تؤلف في مجموعها أرخبيلا هائلًا أشبه بنهر مجرة عسكري يترامى بين البحرين المتوسط والأحمر بطول القناة وعلى جانبيها بعمق عشرات الكيلومترات».
وبهذا الشكل يحدثنا حمدان عن مصطلح جغرافي عسكري وثيق الصلة بـ«بصمة الإنسان الحربية» أو «بصمة أصابع الإنسان المحارب»، ويحمل أيضًا «خاتم الحرب وطابعها أكثر من أي شيء آخر». لقد تحوّل «اللاندسكيب» هنا إلى نوع من المعمار الحربي والهندسة العسكرية حين خلقت الحرب في هذه المنطقة الاستراتيجية نوعًا من الإقليم الجغرافي الخاص — المؤقت أيضًا ربما — وهو «إقليم الحرب». يريد حمدان أن يقول إن المعركة خلقت نوعًا جديدًا من الإقليم الذي بزغت فيه جغرافية تشكيلية جديدة للمنطقة وخلقت شكلًا رابعًا من المادة، شكلًا يتراوح ويتأرجح باستمرار ما بين البناء والهدم والتعمير والتدمير، وهو في النهاية إلى زوال أو تقلّص حين يعود السلام.
الخداع الاستراتيجي
من مصادر عسكرية وإعلامية وبحثية يستجمع حمدان ما أسماه خطة الخداع الاستراتيجي القائمة على ثلاثة أساليب: