يتطلب إنشاء شركة ناشئة ناجحة استخدام مفاهيم وأفكار متنوعة، ومن أهم هذه المفاهيم نموذج العمل، فالنموذج الناجح للشركة هو نقطة انطلاقها الحقيقية للنجاح في عالم الشركات الناشئة. إذاً كيف تطور نموذج العمل المناسب لشركتك الناشئة؟
نموذج العمل ببساطة هو إطار يصف كيفية خلق الشركة الناشئة للقيمة التي تقدمها إلى عملائها، وكيفية تحقيق الأرباح من هذه القيمة. شاع استخدام مصطلح نموذج العمل في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، وهو الأمر الذي يصفه ألكسندر أوسترفالدر المدير التنفيذي لشركة «Strategyzer» بأنه مرتبط بالتآكل السريع للأسعار في صناعة تكنولوجيا المعلومات.
ويفترض أنه بسبب انخفاض أسعار تكلفة عملية معالجة المعلومات وتخزينها ومشاركتها عبر وحدات الأعمال والشركات الأخرى وصولاً إلى العميل، فتح ذلك الباب لظهور عديد من الطرق الجديدة لممارسة الأعمال، وتغيرت شكل سلاسل القيمة وأُعيد تشكيلها، مما ترتب عليه ظهور منتجات جديدة مع قنوات توزيع مختلفة والوصول إلى أعداد أكبر من العملاء.
وبالطبع ترتب على ذلك زيادة في المنافسة بين الشركات، ومع انتشار الإنترنت وما تبعه من انفتاح ووصول إلى أعداد كبيرة من العملاء المحتملين، ساعد ذلك على تطور المنتجات واختلاف آلية عمل الشركات باختلاف نموذج العمل، وبالطبع صاحب ذلك زيادة في عدد الطرق التي تحقق بها الشركات إيراداتها من العملاء.
يشرح ألكسندر هذا الأمر أنه قديماً كان يكفيك فقط ذكر الصناعة التي تعمل بها شركتك، ليفهم الآخرون ما تفعله بسهولة، لأن الجميع تقريباً استخدموا نموذج العمل ذاته. لكن بعد التطور زادت الخيارات ومنهجيات العمل، ومن ثم لم يعد كافياً اختيار صناعة مربحة، بل أصبح من الضروري تصميم نموذج عمل قوي للشركة.
أحياناً لأن الأفكار تستهلك من كثرة استخدامها، يعاملها البعض على أنها لا تستحق فعلاً، فيكون نموذج العمل هو مستند آخر يكتبونه لأنه مطلوب لإنشاء الشركة. لكن الحقيقة نموذج العمل هو أكثر من مجرد مستند، بل هو عقلية يجب على الشركة تبنيها للاستفادة منها.
تتمثل الأهمية الكبرى لنموذج العمل في كونه أداة قوية لاختبار الافتراضات سريعاً دون إهدار للوقت والمجهود في نقاط أخرى لا فائدة لها، حيث تضع الشركة تصوراتها عن الفكرة وآلية تنفيذها، وبعد ذلك تذهب إلى السوق للاختبار والتقييم، وبعدها تعود إلى تطوير وتعديل النموذج، حتى الوصول إلى أفضل نسخة ممكنة.
أما عن أهميته لاستدامة الشركة، فنموذج العمل يتضمن جزءاً رئيساً لعمل أي شركة، وهو ببساطة وصف الطريقة التي يمكن للشركة تحقيق أرباح من خلالها، وذلك لأن معضلة الأفكار المبتكرة أحياناً هي أن أصحابها يركزون على تفاصيل الفكرة، لكن قد ينسون الإجابة على السؤال المهم: كيف سنحقق أموالاً من خلالها؟ فيأتي نموذج العمل لتذكيرهم بإجابة السؤال.
في عام 2010 قدّم ألكساندر أوسترفالدر وإيف بينور أداة مخطط نموذج العمل التجاري Business Model Canvas في كتابهما Business Model Generation، وأصبحت هذه الأداة أهم الأدوات التي تستخدمها الشركات الناشئة لبناء نموذج عملها. تتكون الأداة من 9 أجزاء رئيسية، يركز كل جزء منها على جانب مهم في نموذج عمل الشركة.
مخطط نموذج العمل التجاري BMC - موقع Strategyzer
من أهم فوائد نموذج العمل هي كونه أداة فعلية لاختبار فكرة شركتك في السوق والحكم عليها، لذا ما دمت في بداية عمل شركتك، فعليك تذكر دائماً أن ما تملكه هو مجموعة من الافتراضات عن نجاح فكرتك ترجمتها إلى نموذج عمل تظن أنه سيعمل بالصورة المطلوبة، ولا تزال بحاجة لاختبار كل ذلك. يمكنك اختبار فكرتك بالآلية التالية:
الخطوة الأولى: إعداد نموذج العمل
أيمن رائد أعمال شاب يملك فكرة مبتكرة لتطبيق يساعد الناس على تنظيم وقتهم بشكل أفضل. عمل أيمن على تطوير فكرته، والخطوة الأولى هي إعداد نموذج العمل المناسب للتأكد من إمكانية نجاح الفكرة، وهذه هي تفاصيله:
الخطوة الثانية: تحديد الفرضيات الأساسية لاختبارها
يتضمن نموذج العمل مجموعة من الفرضيات، لذا من المهم تصنيف هذه الفرضيات بحسب أهميتها للبدء في اختبارها، وبالطبع تختلف هذه الافتراضات بحسب طبيعة كل فكرة. هنا سيركز أيمن على اختبار فرضيتين مهمتين:
الخطوة الثالثة: تحديد الآلية المناسبة لاختبار هذه الفرضيات
توجد عديد من الآليات التي يمكن للشركات تطبيقها لاختبار الفرضيات، بدءاً من الأساليب البسيطة مثل الاستبيانات والمقابلات الشخصية مع العملاء المحتملين، وانتهاء بإنتاج منتج بالحد الأدنى من الخصائص Minimum Viable Product.
لذا بحسب الفكرة حدد الآليات المناسبة للاختبار، ويمكنك الاعتماد على أكثر من آلية وتطبيقهم بالتوازي أو التوالي بما يلائم فكرتك ويمنحك نتائج دقيقة. مثلاً هنا قرر أيمن اختبار الفرضيات على مرحلتين، المرحلة الأولى هي البدء بالاستبيانات، وفي المرحلة التالية إنشاء MVP.
الخطوة الرابعة: تطبيق الاختبار الفعلي
بعد تحديد الآليات المناسبة، يمكنك الانتقال إلى الاختبار الفعلي، وهذا يتضمن تحديد الطريقة المناسبة لتنفيذ كل آلية لتحقيق أفضل نتائج. مثلاً الاستبيانات ستُنشر على مواقع التواصل الاجتماعي عبر حملات إعلانية مدفوعة، أو في المجموعات المهتمة بالفكرة، والمنتج بالحد الأدنى سينشر في متجر التطبيقات.
في مثالنا قرر أيمن فعل ذلك، حيث بدأ بحملة إعلانية على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الاستبيان في موقعي «فيسبوك» و«لينكدإن» عبر حملات مدفوعة، ولاحقاً عند تطوير «MVP» قرر نشره في متجر تطبيقات «جوجل».
الخطوة الخامسة: تحليل النتائج
بعد تطبيق الاختبار ستحصل على مجموعة من النتائج التي يجب البدء في تحليلها، وتحديد القرار المناسب لاتخاذه، وغالباً سيكون أحد ثلاثة خيارات أساسية:
مثلاً، هنا اكتشف أيمن بعد نشر الاستبيان أن الفئة العمرية من 18-24 عاماً أظهرت اهتماماً بالتطبيق، لكنهم في الوقت ذاته يفضلون نموذج الدفع لمرة واحدة بدلاً من الاشتراكات الشهرية، لأن هذا يناسب إمكانياتهم المادية التي لا تتيح لهم التزاماً شهرياً ثابتاً.
الخطوة السادسة: تعديل نموذج العمل
بناءً على المعلومات التي حصل عليها أيمن من تحليل النتائج، قرر العودة إلى نموذج العمل مرة أخرى، وتطوير الافتراضات بتضمين الشريحة العمرية الجديدة، وإضافة مصدر إضافي للدخل يتمثل في الدفع مرة واحدة، مع تحديد المميزات التي سيحصل عليها المستخدم عند الدفع لمرة واحدة، وتحديد المميزات التي يحصل عليها المشتركون الشهريون، والحرص على وجود اختلاف حقيقي بينهما.
وبالطبع لأنها عملية تكرارية عاد أيمن مرة أخرى لاختبار الافتراضات الجديدة، لكن هذه المرة بعد تطوير «MVP»، وعند إضافته لمتجر التطبيقات بدأ في تقييم أداء التطبيق والفئات التي اشتركت فعلاً. وهنا إذا حقق التطبيق الأداء المنشود سيستمر أيمن في تطوير المنتج الكامل، وإذا لا سيعود مرة أخرى للخطوة الأولى من الاختبار.
دورة اختبار نموذج العمل - موقع BMI Lab
التمحور Pivoting هو إجراء تغيير محوري في نموذج عمل شركتك الناشئة بعد فترة من استخدامه، ويتضمن هذا التمحور تغيير عنصر أو أكثر في نموذج العمل، ثم إجراء التعديلات اللازمة في بقية عناصر النموذج للاستجابة لهذه التغييرات.
من الأمثلة على التمحور في عالم الشركات الناشئة، ما قامت به «نتفليكس» مرتين، أولاً في عام 1999 عندما بدلت نموذج عملها من إيجار أقراص DVD توصلها بالبريد إلى منزل العميل الذي يدفع مقابل تأجير وتوصيل كل قرص، إلى نموذج الاشتراكات حيث يحصل العميل على ما يريده من الأقراص ويتم توصيلها إليه بالبريد أيضاً لكن في مقابل اشتراك شهري بالمنصة، وثانياً عندما تحولت إلى منصة لبث المحتوى رقمياً في عام 2007.
ليس شرطاً تغيير نموذج عمل شركتك لوجود مشكلات فقط، بل أحياناً يكون التغيير نتيجة لوجود فرصة ما في السوق، المهم في النهاية هو وجود رؤية استباقية أو تحليل منطقي للوضع الحالي يخبرك بضرورة تغيير نموذج عمل شركتك. من الأسباب للتغيير المحوري في نموذج العمل:
يمكن للشركة مواجهة تحديات متنوعة في المنتج أو الخدمة، سواء تعلق ذلك بعدد العملاء الذين يشترون الخدمة، أو ردود أفعال العملاء السلبية وتعليقاتهم على المنتج، أو الحاجة لتطوير الميزة التنافسية للمنتج. وكثيراً ما يكون الحل هو تغيير نموذج العمل.
يشهد السوق تغييرات كثيرة، بعضها يرتبط بالمنافسين الحاليين أو دخول منافسين جدد، أو تغير في تفضيلات العملاء واحتياجاتهم، أو تغير في الصناعة كاملة، وقد يرتبط بظهور تقنيات جديدة تؤثر على فاعلية نموذج عمل الشركة. من ثَم تحتاج الشركة هنا للتكيف مع الوضع الحالي وتغيير نموذج عملها لمواكبة التغيرات وإدارة مخاطر الوضع الحالي أو الاستفادة من فرصه الجديدة.
قد تواجه شركتك أحياناً تحديات مالية نتيجة التكاليف العالية المرتبطة بنموذج العمل الحالي، وعدم قدرتك على تعديل تسعيرك ليناسب هذه التكاليف، فيكون الحل هنا هو تغيير نموذج العمل بحثاً عن وسائل لتقليل التكاليف.
في النهاية الهدف الأساسي لنموذج العمل هو مساعدة شركتك على تقديم قيمة يمكن تحقيق أرباح منها. ماذا لو أنه رغم مجهوداتك لا تزال الربحية ضعيفة على غير المأمول؟ هنا قد يكون الحل هو تغيير نموذج العمل، والبحث عن نموذج آخر لتحقيق الإيرادات.
تغيير نموذج العمل ليس فقط مجرد تعديل في مكونات النموذج وأسلوب كتابتها، لكنه يتضمن مجموعة من الخطوات العملية المختلفة كالآتي:
قبل أي شيء أنت بحاجة للتأكد فعلاً أن نموذج عملك يحتاج إلى التغيير المحوري، وهذا يمكنك فعله بتحليل البيانات والتقارير الداخلية، ومتابعة السوق الخارجي والتغيرات التي تحدث به باستمرار.
عندما تحصل على الإشارات التي تخبرك بضرورة تغيير نموذج عملك، فمن المهم التأكد أولاً من أنك قد بذلت جهداً كافياً مع الخيارات الأخرى المتاحة لديك، خصوصاً إذا كانت إشارات مرتبطة بأمور يمكنك إصلاحها في عمليات الشركة أو خدمة العملاء وخلافه. أي إن التغيير المحوري هو الخيار الأخير بعد نفاد الحلول الأخرى المتاحة لديك.
التمحور لا يعني بالضرورة تغيير جميع العناصر تغييراً جذرياً في مرة واحدة، لأن هذا قد يكون مكلفاً من الناحية المادية ويستغرق وقتاً طويلاً، والأهم أنه يصعب عليك قياس أثر التغيير لكثرة المتغيرات.
لذا، حدد طبيعة التغيير الذي ستجريه على نموذج عملك، هل سيكون تغييراً في القيمة التي تقدمها إلى العملاء، أم في القنوات التي تصل بها إلى العملاء، أم في نموذج الإيرادات الذي تستخدمه، وغيرها من التغييرات الممكنة لبقية عناصر نموذج العمل.
يعتمد الاختيار الأمثل على أهداف شركتك والرؤى التي حصلت عليها من الخطوة السابقة والفرص السانحة لك في السوق، والأهم بالطبع الموارد المتاحة لديك أو التي يمكنك الوصول إليها، لتضمن قدرتك على تنفيذ التمحور بالطريقة المطلوبة.
بعد الانتهاء من تحديد التغييرات المحتملة وإضافتها لنموذج العمل، عد مرة أخرى لتطبيق خطوات اختبار نموذج العمل المذكورة سابقاً، حتى تتأكد في النهاية من وصولك إلى نموذج العمل الأصلح لشركتك بعد اختبار الافتراضات الجديدة.
في بداية عمل شركتك غالباً تكون بمفردك أو مع فريق عمل يعرف الفكرة الأساسية التي تعملون عليها، لكن عندما تحدث تغييراً محورياً في نموذج العمل، فهناك عديد من أصحاب المصلحة المعنيين بهذا التغيير وسيتأثرون به حتماً، وهذا يشمل الشركاء ومجلس الإدارة والمستثمرين وفريق العمل.
من المهم في البداية إقناعهم بالتغيير وأهميته ومشاركة الرؤية والأسباب التي دفعتك إلى اتخاذ القرار، وتفهم أنهم قد يحتاجون إلى الوقت لاستيعابه والعمل به. تحلى بالمرونة والصبر في إدارة هذه المرحلة، وأدِر اعتراضاتهم بطريقة صحيحة وردود مقنعة، وقدم لهم الدعم اللازم مثل تدريب فريق العمل على النموذج الجديد.
أخيراً، تذكر أن جزءاً أساسياً من عمل شركتك الناشئة يعتمد على التعلم والتكرار المستمر، لذا تابع نموذج عمل شركتك وراجع افتراضاتك وأفكارك وحدثها باستمرار لتتواكب مع التغيرات من حولك، فتضمن أنك قادر على تطوير نموذج عملك طوال الوقت، والاستمرار في المنافسة داخل عالم الشركات الناشئة.