فلسطين

كيف أحيت حرب غزة سلاح المقاطعة الاقتصادية؟

هل كان سلاح المقاطعة فعَّالًا في ظل استمرار العدوان على قطاع غزة، وهل من المتوقع أن يكون له أثر أكبر مستقبلًا في ظل انتشار ثقافة المقاطعة عالميًا؟

future شركات أجنبية شملتها حملات المقاطعة

شهدت حملات مقاطعة المنتجات الإسرائيلية ومنتجات الشركات الداعمة للكيان الإسرائيلي تفاعلًا غير مسبوق على مستوى العالم، وما زالت هذه الحملات مستمرة في ظل استمرار العدوان على الأراضي الفلسطينية وأعمال الإبادة الجماعية في قطاع غزة، منذ بدء عملية طوفان الأقصى في أكتوبر 2023.

تعد المقاطعة شكلًا من أشكال التعبير عن الاحتجاج والرفض لسياسات وأعمال الشركات المرتبطة بالكيان الإسرائيلي، وذلك للضغط عليها من أجل وقف الدعم المالي أو أي شكل من أشكال هذا الدعم. كما أن المقاطعة - التي نالت عددًا من الشركات الغربية - اعتبرها البعض نوعًا من أنواع الاعتراض على سياسات الدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل، وعلى أعمال الإبادة الجماعية في غزة.

ورغم أن المقاطعة وسيلة شعبية سلمية للاحتجاج، فإن لها تأثيرًا قويًا على سياسات الشركات، وقد اكتسبت حملات المقاطعة الجارية زخمًا بعد أن أعلنت بعض الشركات بصورة استفزازية دعمها لأعمال القتل والإبادة التي تقوم بها إسرائيل، كإعلان حسابات ماكدونالدز إسرائيل على مواقع التواصل الاجتماعي دعم سلسلة فروعها لجنود الجيش الإسرائيلي وتقديمها أربعة آلاف وجبة مجانية لهم، أو الحملة الإعلانية للعلامة الإسبانية ZARA، والتي قدمت محتوى إعلانيًا يسخر من أعمال القتل ضد المدنيين. كذلك نالت المقاطعة الكثير من العلامات التجارية الكبرى مثل ستاربكس وكوكاكولا وبيبسي، وغيرها من السلع الاستهلاكية المشهورة. وفي المقابل نشطت الدعوة للشراء من علامات محلية موازية لها، بدايةً من المياه الغازية وحتى الملابس.

وقد ساهمت تطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي لمنصات مثل TikTok وInstagram وWhatsApp، وموقع X (تويتر سابقًا)، وكذلك تطبيق Facebook رغم تقييد المحتوى الداعم لفلسطين، في نشر الوعي العالمي بأعمال الإبادة؛ الأمر الذي جعل المقاطعة تمتد ليس فقط للمنتجات، بل للضغط من أجل سحب الاستثمارات، وكذلك فرض العقوبات على إسرائيل.

حملات المقاطعة سلاح متجدد

اكتسبت حملات مقاطعة المنتجات زخمًا على مدى القرن الماضي، وتعد مكافحة سياسات الفصل العنصري في دولة جنوب أفريقيا من أشهر حملات المقاطعة، والتي امتدت بين عامي 1960 و1990، وقد كان لهذه الحملات أثر بعيد المدى ساهم - بجانب عوامل أخرى - في إنهاء سياسات الفصل العنصري.

وفي السياق نفسه، تعرَّضت شركة نايك في التسعينيات من القرن العشرين لحملات مقاطعة على يد مجموعة من نشطاء حقوق الإنسان، اعتراضًا على سياسة الشركة تجاه العمالة، وهو ما ساهم في إنهاء هذه الظاهرة.

وعادةً ما تثير حملات المقاطعة جدلًا واسعًا وتتعرض للانتقاد في بعض الدول، على اعتبار أنها تؤثر على الطلب المحلي وربحية الشركات، وهو ما يفضي إلى تسريح العمالة، سواء بشكل طوعي - توقف مناصري هذه القضايا عن العمل لدى تلك الشركات - أو بشكل إجباري من خلال تسريح العمالة نتيجة لتراجع نشاط تلك الشركات، لكن المقاطعة تظل أداة فعالة لتسليط الضوء على الممارسات غير الأخلاقية، والتي لا تتفق مع حقوق الإنسان أو الممارسات العادلة.

وكان ظهور خطاب عالمي حول مسئولية الشركات في التسعينيات، والذي أكد على الاستدامة البيئية، وممارسات العمل الأخلاقية، واحترام الثقافات المحلية، بمثابة سياق أوسع لمقاطعة المستهلكين، حيث يتوقع المستهلكون بشكل متزايد أن تلتزم الشركات بهذه المعايير، ومن ثَمَّ تكون المقاطعة ردًا على انتهاكات الشركات لهذه المعايير، لتتحول المقاطعة ضد العلامات التجارية الغربية إلى جزء من اتجاه عالمي أكبر؛ حيث يستخدم المستهلكون قوتهم الشرائية للتأثير على سلوك الشركات والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، وحماية البيئة، والسلوك الأخلاقي.

وجدير بالذكر أن سلاح المقاطعة الاقتصادية تستخدمه الدول نفسها، وتعد الأنظمة الغربية الأكثر استخدامًا للمقاطعة الاقتصادية، مثل العقوبات المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، أو كتلك العقوبات التي تفرضها الأنظمة الغربية على روسيا للتأثير على قراراتها فيما يخص الحرب في أوكرانيا.

العالم العربي وتاريخ من المقاطعة

يعود تاريخ المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل ومنتجاتها إلى العام 1945، وذلك حينما اتخذت جامعة الدول العربية قرارات وتوصيات بضرورة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، واعتبرته عملًا دفاعيًا مشروعًا وإحدى الوسائل التي يستخدمها العرب ضد الاعتداءات الواقعة عليهم من إسرائيل ووقاية للأمن القومي العربي.

وواجهت كذلك الشركات الأمريكية مقاطعة بسبب قرارات السياسة الخارجية الأمريكية، مثل غزو العراق وأفغانستان في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كما أدى الدعم الأمريكي لإسرائيل خلال هذه الفترة إلى إطلاق حملات استهدفت شركات كوكاكولا وماكدونالدز وغيرها من العلامات التجارية الأمريكية، التي كان يُنظَر إليها، بحكم أصولها الغربية أو من خلال إجراءات محددة، على أنها متواطئة مع سياسات الحكومة الإسرائيلية.

وفي عام 2005، أدى نشر رسوم كاريكاتورية تُصوِّر النبي محمد ﷺ في إحدى الصحف الدنماركية، إلى إثارة غضب واسع النطاق في العالم الإسلامي، وفي الشرق الأوسط، حيث تمت مقاطعة المنتجات الدنماركية، وهو ما أثر بشكل كبير على الشركات العاملة هناك.

وتهدف حملات المقاطعة الحالية إلى تحقيق تأثير اقتصادي وسياسي على الشركات المستهدفة، من خلال تحريك الرأي العام وتحفيز المستهلكين على عدم شراء منتجاتها أو الانتقال إلى البدائل المحلية.

وتعد حملات المقاطعة الجارية جزءًا من حملة أكبر للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات Boycott, Divestment, and Sanctions BDS، التي تستهدف العلامات التجارية الصديقة لإسرائيل.

وقد نشأت حركة مقاطعة إسرائيل BDS بعد إعلانها الأول عام 2005، وقد أطلقت دعوة عالمية لمقاطعة إسرائيل والضغط على الحكومات لفرض عقوبات عليها حتى إقرار الحقوق الفلسطينية، والتي حدَّدتها في إنهاء الاحتلال وحق العودة.

وحركة BDS هي فلسطينية المنشأ عالمية الامتداد، تسعى لمقاومة الاحتلال والاستعمارالاستيطاني وسياسات الفصل العنصري (الأبارتهايد) الإسرائيلي، وتتبنى الحركة حقوق جميع مكونات الشعب الفلسطيني التاريخية؛ من فلسطينيي أراضي العام 1948 إلى قطاع غزة والضفة الغربية، وكذلك القدس والمخيمات والشتات.

خسائر الشركات الداعمة للحرب على غزة

تعتبر حملات المقاطعة جزءًا من جهود دولية أوسع للضغط على إسرائيل لتغيير سياساتها تجاه الفلسطينيين، وتتعدى آثار حملات المقاطعة على الشركات المستهدفة مجرد توقف الشراء لمنتجاتها. فعندما تواجه الشركات هذه الحملات يمتد تأثيرها لفترة طويلة، وتؤثر على سمعتها في السوق، وتنعكس هذه السمعة السلبية على تراجع ربحية أسهم تلك الشركات، وهذا التراجع في الأرباح يؤدي فيما بعد إلى تقلص الاستثمارات الموجهة لتوسعة أعمالها مستقبلًا.

ببساطة، تتسبب المقاطعة في تدهور سمعة الشركات وتراجع أدائها المالي، مما يُقلِّص فرصها للحصول على استثمارات جديدة وتوسع نشاطها. فعلى سبيل المثال، تكبدت سلسلة مقاهي ستاربكس الأمريكية خسائر بأكثر من 12 مليار دولار في قيمة أسهمها خلال عشرين يومًا فقط، ووفقًا لبيان الشركة الصادر في السادس من ديسمبر 2023، فقد تراجعت أسهم ستاربكس إثر تراجع أرقام المبيعات بأكثر من 1%، وهو ما يمثل أكبر خسارة للشركة منذ الاكتتاب العام عليها في عام 1992.

وقد تأثرت الشركات الكبرى المدافعة عن الاحتلال أو المرتبطة به بشكل ملحوظ، فقد أقرت شركة ماكدونالدز للوجبات السريعة بالأثر الملموس لتراجع مبيعاتها في بعض المناطق في العالم، وخاصةً منطقة الشرق الأوسط وآسيا، ولم تحقق الشركة أهدافها للمبيعات، ويرجع ذلك جزئيًا إلى المقاطعة، إذ أكد مسئولون بالشركة أن الحرب على غزة أثرت بشكل ملموس على الأداء في الربع الأخير من عام 2023 في بعض المناطق، وبلغ نمو المبيعات في الشرق الأوسط والصين والهند 0.7%، وهو أقل كثيرًا من التوقعات السابقة بتحقيق نمو 5.5% للمبيعات، وهذا التراجع في نمو المبيعات مدفوع بالمقاطعة في منطقة الشرق الأوسط.

كذلك أفادت بعض التقارير اعتزام شركة ماكدونالدز استعادة ملكية جميع فروع مطاعمها في إسرائيل، والتي تصل إلى نحو 225 متجرًا بقوى عاملة تبلغ خمسة آلاف موظف، بعد مقاطعة العلامة التجارية على خلفية الحرب في قطاع غزة.

وقد أعلنت شركات أخرى عدم ارتباطها بالاحتلال الإسرائيلي خوفًا من حملات المقاطعة؛ حيث أصبح سلاح المقاطعة فعالًا في ظل استمرار العدوان على قطاع غزة، ومن المتوقع أن يكون له أثر أكبر مستقبلًا في ظل انتشار ثقافة المقاطعة عالميًا وتأكيد محكمة استئناف باريس على مشروعية مقاطعة البضائع الإسرائيلية، علاوة على وصف العديد من خبراء الأمم المتحدة للأنشطة الإسرائيلية في غزة بأنها «إبادة جماعية»، والذي يساعد بالتأكيد على استمرار حملات المقاطعة.

وفي بعض الدول بمنطقة الشرق الأوسط وآسيا، شهد عدد من العلامات التجارية الكبرى آثارًا سلبية كبيرة، جرَّاء حملات المقاطعة؛ ففي الأردن ساهمت حملة المقاطعة الوطنية للبضائع الداعمة لإسرائيل في إغلاق أربعة فروع لسلسلة متاجر كارفور الفرنسية، وهي إحدى العلامات التجارية المشمولة بالمقاطعة.

وقد أفادت بعض التقارير إلى أن العلامات التجارية الغربية تأثرت سلبًيا بشكل أكبر في مصر والأردن، وهناك دلائل على انتشار الحملة في بعض الدول العربية الأخرى، بما في ذلك الكويت والمغرب.

كما تلقت الشركة الكويتية للأغذية أمريكانا المالكة لامتيازات عديدة أبرزها دجاج كنتاكي وبيتزا هت وهارديز وكوستا كوفي وباسكن روبنز، ضربة قاسية في نتائجها للربع الرابع من 2023؛ إذ تراجع صافي أرباحها بنسبة 48.3% مقارنة بالربع الرابع من 2022. وفي ماليزيا، أغلقت العلامة التجارية الشهيرة للوجبات السريعة كنتاكي فرايد تشيكن ما يقرب من مائة من فروعها.

مستقبل حملات المقاطعة

أسهمت عملية طوفان الأقصى – بلا شك - في زيادة الوعي العالمي بما يعانيه الفلسطينيون من تضييقات في جميع مناحي حياتهم، ومن سلوك عدواني سواء في غزة أو الضفة الغربية أو القدس، لذلك اكتسبت حركة المقاطعة في الفترة الأخيرة زخمًا عالميًا غير مسبوق، وقد ظهر ذلك جليًّا في الحراك الكبير للطلاب في الجامعات الأمريكية، والذي شهد تواجدًا لجنسيات وتوجهات فكرية مختلفة، كلها أجمعت على الحق الفلسطيني، وطالبت بسحب الاستثمارات ووقف الشراكات مع إسرائيل.

أظهرت إحصاءات صادرة عن مشروع بيانات مواقع وأحداث النزاع المسلح ACLED، وهي منظمة غير حكومية متخصصة في جمع بيانات الصراع، أن نحو 85% من حركات الاحتجاجات بعد عملية طوفان الأقصى كانت لصالح دعم فلطسين، وذلك خلال الفترة من السابع من أكتوبر إلى 24 نوفمبر 2023؛ حيث كان هناك ما لا يقل عن 7283 احتجاجًا مؤيدًا لفلسطين في أكثر من 118 دولة ومنطقة بالعالم، وقد جاءت معظم المظاهرات التي سجلها ACLED في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، خاصة في اليمن وإيران وتركيا والمغرب.

ولعل الحراك في الجامعات الأمريكية والأوروبية من السمات المميزة لنداءات المقاطعة عقب السابع من أكتوبر، فقد أظهر وعيًا كبيرًا متزايدًا بالحقوق الفلسطينية المشروعة. كما جاء قرار بعض دول أمريكا اللاتينية بسحب سفرائها من إسرائيل، والتحرك الأقوى في توجه جنوب أفريقيا لمحكمة العدل الدولية، وتزايد الأصوات المطالبة بضرورة قيام دولة فلسطينية، واتجاه بعض الدول الأوروبية للاعتراف بالدولة الفلسطينية بشكل مستقل - كان آخرها اعتراف إيرلندا والنرويج وإسبانيا - بمثابة تتويج لتضحيات الشعب الفلسطيني، وتجسيد لتعالي الأصوات الرافضة لأعمال الإبادة حول العالم.

كل تلك الجوانب تؤكد أن حراك المقاطعة يتزايد، وقد بدأت إسرائيل في إدراك ذلك، وأنها تواجه عزلة دولية وإدراكًا شعبيًا كبيرًا للحقوق الفلسطينية، وقد تواجه إسرائيل المزيد من العزلة الاقتصادية إذا ما اتخذت المزيد من الدول قرارات لمقاطعة إسرائيل، كما فعلت تركيا التي اتخذت قرارات بوقف جميع أشكال التجارة مع تل أبيب، في الوقت الذي تستورد فيه إسرائيل ما قيمته  خمسة مليارات دولار سنويًا من تركيا؛ حيث تعد أنقرة المُورِّد الرابع لإسرائيل تجاريًا، بعد الصين والولايات المتحدة وألمانيا.

من جهة أخرى، لاقت علامات تجارية محلية رواجًا بالشرق الأوسط نتيجة حملات المقاطعة والبحث عن علامات تجارية بديلة، وهو ما يعزز صمود المقاطعة واستمرار أثرها على المدى البعيد. فعلى سبيل المثال أدت مقاطعة المشروبات الغازية الأمريكية إلى إحياء علامة تجارية محلية للصودا يجاوز عمرها 100 عام، مثل سبيرو سباتِس، في مصر، والتي شهدت ارتفاعًا كبيرًا في مبيعاتها.

وختامًا، تظل مقاطعة منتجات الشركات التي تدعم أعمال الإبادة هي الحد الأدنى من العمل الأخلاقي اللازم لرفع الظلم عن شعب أعزل، يعاني من كل ويلات الاحتلال، ففي الوقت الذي ينادي فيه العالم الغربي بحقوق الإنسان، يقف العالم عاجزًا عن وقف انتهاك حقوق الآلاف من الأبرياء من النساء والأطفال في غزة.

# طوفان الأقصى # فلسطين # غزة # إسرائيل # المقاطعة # سبيرو سباتس # ماكدونالدز # ستاربكس

هاشم صفي الدين: القائد المنتظر الذي يخشى حزب الله غيابه
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
جولات بلينكن في المنطقة ولعبة سياسة الهندسة

فلسطين