ليلة الثالث عشر من فبراير 2025، افتتح مهرجان برلين السينمائي الدولي دورته الـ75، والتي تأتي بإدارة جديدة لتريشيا تاتل بعد فترة إدارة مزدوجة لكارلو شاتريان ومارييت ريسينبيك، ومع كل إدارة جديدة، يتساءل الحضور عن ما الذي سيضاف جديدًا إلى المهرجان وما هي أهم التغييرات التي ستحدث.
تريشيا تاتل، مديرة مهرجان برلين السينمائي
يمكننا رؤية بعض التغييرات متمثلة في إلغاء مسابقة إنكاونترز «لقاءات» وإضافة مسابقة شبيهة هي بريسبيكتيفز «وجهات نظر»، وفتح مسرح جديد قريب جدًا من قصر المهرجان، لم يستخدم أبدًا لعروض المهرجان إلا هذا العام، وتغيير السيارة الراعية للمهرجان من أودي لتكون كوبرا أو سوبرا، إحدى سيارات مجموعة فولكس فاجن والنسخة الفخمة سابقًا من علامة سيات الإسبانية، وهو اختيار ربما يعبر عن شباب وطموح وتمسك بالتجديد، فهي ليست سيارة فخمة لكنها بالتأكيد، وخاصة نسختها الإلكترونية، سيارة ذات تصميم فريد وسرعة وكفاءة ممتازين.
لا تنكر تاتل وفريقها أن برلين مهرجان سياسي في أولى صفحات مطبوعة برنامج المهرجان، بل تؤكد ذلك وتؤكد اعتزازها بكونها تعمل على مهرجان ذو طابع سياسي، وتقول إن المهرجان هو المهرجان الكبير الوحيد الذي يقام في مدينة كبيرة ذات تعداد ضخم وقضايا سياسية واجتماعية تشغل سكان تلك المدينة. اختيار تاتل لقول ذلك في افتتاحية مطبوعة برنامج المهرجان، يؤكد أنها قرأت وعرفت منذ اللحظة الأولى أكبر انتقاد يتلقاه المهرجان باستمرار، وحولت تلك التهمة – إن جاز قول ذلك – إلى ميزة لعملها، وأكدت على وجود السياسة في الحمض الجيني للمهرجان وواصلت كلامها معددة أهمية ذلك، ومشيرة إلى أن السينما هي أداة تواصل ترينا العالم بعيون الآخرين.
فيلم متنوع يشبه برلين
لكن بعيدًا عن التصريحات، يأتي فيلم الافتتاح كمكون سينمائي مناسب لحديث تاتل عن التواصل، إذ افتتح المهرجان دورته بفيلم «الضوء – Das Lischt» لتوم تيكفير المخرج وصانع الأفلام الألماني المقيم ببرلين وصاحب أفلام مثل «اركضي لولا اركضي – Run Lola Run» و«العطر – قصة قاتل – The Perfume: The Story Of A Murderer» والمعروف بتجريبه الدائم سواء على مستوى السرد أو الصورة، وهو هنا في فيلمه الأحدث ربما يجمع من كل أطياف الأساليب السينمائية ليحكي لنا قصة عن الفقد والتواصل.
يبدأ الفيلم بلقطة واسعة لكاميرا طائرة درون ترينا جزء من مدينة برلين في يوم ممطر، بينما نسمع صوتًا عربيًا أشبه بالهمسات أو الدندنات بينما تطير الكاميرا لمدة حتى تدخل من النافذة التي يظهر منها ضوءًا متقلبًا ثم تدخل إلى الغرفة لنرى سيدة عربية تجلس أمام جهاز يصدر ذلك الضوء وأمامها سيدة أخرى تبدو كمرشدة روحية لها في ممارسة سحرية أو هكذا يبدو، وهكذا نتعرف على أول شخصية في الفيلم، فرح، دون أن نعرف ماذا تفعل بالضبط.
بعد تلك المقدمة، يبدأ تيكفير في الحكي بمشاهد ذات قطع متوازٍ، ليرينا في مدة طويلة نسبية، حياة الأسرة الألمانية المكونة من أب وأم في منتصف عمرهما وطفليهما التوأم في سن المراهقة. تيم وميلينا وفريدا ويون، مع كل شخصية نرى مكان مختلف، نتعرف على الأب في وكالة إعلانية بينما يعترض على فكرة حملة إعلانية جديدة، والأم في نيروبي بينما تكافح لإدارة مشروع إنشاء مسرح للأطفال وإقناع إدارتها الألمانية بضرورة استمرار التمويل، ثم ندخل إلى عالم الابنة في حفلة صاخبة مليئة بتعاطي المواد المهلوسة ثم الابن في غرفته التي تبدو في شكل مزرٍ وهو يلعب لعبة واقع افتراضي ويغوص فيها.
هكذا تُقدَم الشخصيات في وقت طويل للغاية يسمح بالغوص في عالمها ورؤية مستواها الفكري والاجتماعي والثقافي بل وقيمها الحياتية مع التعرض بشكل ما لمواقفهم السياسية من قضايا مختلفة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. هناك أخيرًا ابن لميلينا من زوج كيني يعيش في برلين، يُدعى ديو ويعيش معهم إجازة نهاية أسبوع كل أسبوعين دون تطويل في شرح قصته كما بقية الشخصيات.
بعد ذلك الجمع بينهم والذي يستغرق وقتًا طويلًا، تنضم إليهم فرح بينما تبحث عن عمل، وتختار العمل كمنظفة لمنزلهم رغم قدراتها العلمية، ومن هنا تبدأ رحلة فرح مع الأسرة، ويبدو دخولها نوع من حل لمشاكل وتوترات تلك الأسرة بشكل ما، وتتكشف الأحداث تدريجيًا لنرى رحلة هدفها هو نفس ما تقوله تاتل عن البرلينالة «أن واحدة من أعظم متع السينما هو أنها تساعدنا على رؤية العالم من عيون الآخرين»، وهذا ما يفعله تيكفير في الفيلم، إذ نرى كل حكاية من وجهة نظر الشخصية سواء على مستوى السرد أو الحكي أو حتى على مستوى الأسلوب، فهو يستقي الجماليات البصرية الخاصة بكل شخصية من عالمها الخاص.
يستخدم لميلينا فقرة راقصة موسيقية في الشارع إذ تتبدل فيهم بين شخصيات متعددة ربما تكون تلك هي المطلوبة منها كامرأة عصرية فتكون أمًا وأنيقة وجميلة وجذابة وذكية، ما يجعلها في مأساة هوياتية دائمة وضغط مستمر، بل ويمكننا رؤية استعارات لعلاقة ميلينا وتيم في جزء مأخوذ من رقصة لبينا باوش توضح كيف تبدو علاقتهما دون كلام.
إلى جانب ذلك، يمكننا رؤية تيم في فقرة أخرى راقصة موسيقية بينما يتعرض لأفكار تتعلق بالذكورة وما يجب أن يكون عليه، ثم نرى فريدا وهي ترى الأشياء تحت هلوسات الأسيد، ثم ندخل إلى عالم يون من خلال جماليات الواقع الافتراضي وألعابه، وفي مشهد ليون مع حبيبته التي عرفها من العالم الافتراضي، نراهم يطيرون بطريقة الواقع الافتراضي في وسط مدينة برلين الحاضرة بشكل كبير طوال الفيلم، وحتى ديو نرى عالمه من خلال الرسوم المتحركة، وأخيرًا جماليات عالم فرح المتعلقة بقصة أسرتها والضوء الغريب الذي تستخدمه.
فيلم تيكفير فيلم جيد يمزج بين الكثير من الأفكار والتوجهات والأيدلوجيات والشخصيات والخلفيات الثقافية بل والأساليب السينمائية، ما يجعله يبدو كتعليق على العالم وخاصة العالم الألماني/البرليني بما يشغله من قضايا سياسية واجتماعية متعددة.
يحتفي الفيلم بالتعدد ويحبذه ويراه الطريق إلى المضي قدمًا وحل مشاكل جميع الأطراف، ورغم أنه قد يبدو فيلم خليط أو مزيج، إلا أن المخرج ينجح بشكل معقول في ربط كل الخيوط والشخصيات مع بعضها البعض ليخرج فيلمًا متماسكًا، وهذا ما يجعله بشكل ما يوازي برلين الحديثة، تلك المدينة الضخمة المتعددة الألوان والجنسيات والخلفيات الثقافية، وما يجعله أيضًا الاختيار المناسب لدورة المهرجان العريق.
# فن # سينما # مهرجان برلين السينمائي # السينما العالمية # أفلام أجنبية