فن

فيلم Sirat: تعزية صوفية لأب حزين

صراط... فيلم نادر يخلط التصوف بالعنف، والتيه بالتحرر، ويحوّل الصحراء إلى مرآة للروح. تحفة مهرجان كان الـ78 التي لن تُنسى، هل يحصل على السعفة الذهبية؟

future مشهد من فيلم «Sirat»

ضمن عروض المسابقة الرسمية لمهرجان كان في دورته الـ78، عُرض فيلم أوليفر لاشيه الأحدث «صراط – Sirat»، وبالتأكيد يمكن اعتباره واحدًا من تلك الأفلام التي يندر تواجدها اليوم في المهرجانات، فعلى مستوى المسابقات في المهرجانات الكبرى، تجد الكثير من الأفلام الجيدة والمتوسطة، وأحيانًا الرديئة لدرجة أنك تتساءل: ما الذي يدفع المهرجان لاختيار وبرمجة الفيلم في مسابقته الرسمية؟

يمكنك أيضًا أن تجد أسماء كبرى بأفلام مكرّرة، مثل حضور ويس أندرسون والأخوين داردين، على سبيل المثال، في العديد من دورات كان – وحتى هذا العام – كما يمكنك أن تجد أسماء جديدة تعرض أفلامها الأولى، فتراها تجارب جيدة يُنتظر منها في المستقبل ما هو أكثر اكتمالًا.

هذا هو الفيلم الطويل الرابع لمخرجه، وهنا يقدم، بعد ستة أعوام، فيلمه الأكثر اكتمالًا على مستوى الشكل والمضمون. لاشيه، المولود في باريس لأبوين مهاجرين من جاليسيا، المدينة الواقعة شمال غرب إسبانيا، والمنتقل إلى طنجة في المغرب، يقدّم قصة تدور في الصحراء المغربية، كما في فيلمه «ميموزا»، لكن مع حبكة أكثر تشويقًا.

أول ما يلفت الانتباه في الفيلم هو عنوانه «صراط»، المحيل إلى المعنى الديني للكلمة، ذلك الطريق الممتد فوق جهنم والذي يمر عليه الناس يوم القيامة لتحديد مصيرهم. يحدّد العنوان شيئَين أساسيين إذًا: أننا في مرحلة انتقالية، طريق بين عالمين، لكنه أيضًا محفوف بالمخاطر، فالسقوط منه بمثابة الوقوع في الهاوية.

يكشف ذلك الطريق، كما في المعنى الديني، أنه أيضًا طريق اختبار لا يُعبر إلا بالأعمال النقية. طريق يختبر كل عابريه اختبارًا قاسيًا، يُحدَّد على أساسه وجهتهم النهائية.

رقصة صوفية عنيفة

بداية الفيلم توحي بكثير من مضمونه. نبدأ في الصحارى المغربية، مع صوت قوي لإيقاع موسيقى إلكترونية صاخبة «بيز» يبدو معطوبًا بعض الشيء، مع صور للجبال، ثم ننتقل إلى حفلة «ريف» (نوع من الحفلات التي تُقام في الصحراء ويكون كل حاضريها منتشين بمخدرات ثقيلة، وتُقام لأيام دون توقّف) بينما يرقص جميع أبطال الفيلم بقوة شديدة؛ قوة تشعر بها كمشاهد.

هذه ليست رقصة مفتعلة أو أدائية، بل رقص يوحي بكثير من الغضب والطاقة التي تودّ إيجاد طريقها للخروج من الجسد. نوع من الرقص يشبه، بشكلٍ ما، دوران المولوية؛ فيه انغماس تام في الموسيقى الصاخبة للغاية، والتي تنتقل إيقاعاتها إلى قلوب الحاضرين. هذا نوع من الحضور الصوفي، حيث ينسى هؤلاء الحفلَ وجودهم الدنيوي، ويعيشون في عوالم انتقالية.

يظهر أيضًا بطل الفيلم، المختلف شكلًا ومضمونًا، لويز، رجل إسباني في منتصف عمره مع ابنه الصغير برونو، يحمل في يده صورة لابنته المفقودة، ويدور بها على كل حاضري الحفل، الجالسين منهم والراقصين، يسألهم عنها.

لا يجد إجابة، لكنه لا ييأس، فقد أخبره بعض الناس أنه قد يجدها في واحدة من تلك الحفلات. يبدو لويز شخصًا مختلفًا، غير مقتنع بتلك الحفلات، كرجل عادي ينجز عمله ثم يعود إلى بيته ليأكل ويشاهد التلفاز، ربما يحب بعض الموسيقى الخفيفة، ويعتبر تلك الإيقاعات الصاخبة نوعًا من الإزعاج لا يفهمه.

فجأة تصل الشرطة إلى مكان الحفل، تعلن انتهاءه وتأمر بإخلاء المكان. يصارع الحاضرون لبرهة ثم يمتثلون ويركبون سياراتهم، وفي المنتصف يقومون بحيلة للفرار بشاحناتهم الضخمة من الشرطة، ويطلب «برونو» من والده أن يتبعهم، وأملًا في إيجاد ابنته يتبعهم فعلًا في رحلة وعرة للغاية. يحذّره منظّمو الحفل من أن سيارته لن تحتمل الطريق، لكن مع الإلحاح يبدأ معهم الرحلة وسط الجبال والصحراء.

الصحراء بطلة درامية

ثمة عنصران يتشابهان مع «ميموزا»: التيه والجغرافيا. يلعب المكان دورًا كبيرًا في الفيلم، فهو بشكل ما يمكن أن يكون البطل المضاد؛ فطرق الجبال غير الممهّدة، مع تقلبات الجو ونقص الطعام والشراب، واحتمالية الضياع، كلها تمثل تحديًا كبيرًا. يستغل لاشيه المواقع كما ذُكرت، ويستخدمها بصريًّا بشكل مذهل، بلقطات من الأعلى تُظهر مدى ضآلة الأبطال، ويصوّر تقلبات الجو المختلفة وشكل الصحارى والجبال ليلًا ونهارًا. يضع لاشيه أبطاله في عالم معزول تمامًا، قاسٍ جغرافيًّا، وقاسٍ أيضًا في أنه لا يترك للمرء أي نوع من الإلهاء؛ فكأنما يواجه أكبر مخاوفه: نفسه.

وإلى جانب التيه، تمنح الصحراء إحساسًا بالحرية، إذ لا رقابة بشرية، وهو ما يكشف الإنسان على حقيقته. في المدن، نحن محكومون بقوانين تجعل الناس تمتثل لها، فلا نعرف معدنهم الحقيقي. أما في الصحراء، فتظهر الأمور على حقيقتها، بكل هشاشة الشخصيات وانكشافها، دون تمثيل أو اصطناع.

رحلة تطهّر وانتقال

تتطور الحكاية شيئًا فشيئًا، ولا يسعنا هنا ذكر تفاصيل أكثر عنها، لكنها، بشكلٍ ما، رحلة غنيّة على المستوى البصري والسمعي، خاصة شريط الصوت المصمم بشكل مذهل، وأسلوب التصوير، وبعض عناصر عالم الأبطال، مثل النيون المنحوت على الجبل. إنها رحلة يدخلها لويز بحثًا عن ابنته، فيدرك خلالها اختلافاته معها، ويعرفها من خلال أصدقائها وفهمه لهم. إنها رحلة تطهّر، وتعزية، وانتقال أيضًا.

لماذا «صراط» هو الأجدر بالسعفة الذهبية؟

أولًا، لاكتمال حكايته وتميزها على مستويات أعمق من القصة، وخاصة في الصوت والصورة وصعوبة الإنتاج. كما يعتمد على ممثلين غير محترفين ينتمون أصلًا إلى عالم الفيلم، وتتقاطع حكاياتهم معه.

ورغم قلة الحوار، نفهم كل شيء عن ماضي لويز وابنته، كما نفهم أولئك الأشخاص الذين ينتمون إلى عالم سري في صحراء المغرب. ربما نستغربهم في البداية، لكن سرعان ما نرى جمالهم الداخلي، وندرك أنهم بشر مثلنا، يشعرون بألم كبير، ويودّون التصالح معه بطريقتهم الخاصة.

عنوان هذا المقال ذاتي وموضوعي في الوقت نفسه؛ ذاتي لأنه الفيلم الأكثر اكتمالًا حتى الآن، وموضوعي لحصوله على أعلى تقييم نقدي من الجمهور حتى الآن. إنه واحد من تلك الأفلام التي، سواء حصلت على السعفة أم لا، ستبقى مع مرور الوقت، كأحد الأعمال السينمائية التي سنحكي لأولادنا أننا حضرناها وقت عرضها العالمي الأول، وأننا أدركنا، منذ ذلك الوقت، أنها تحفة فنية خالصة

# فن # سينما عالمية # سينما

فيلم The Secret Agent: لماذا نقاوم وكم مرة يجب أن نموت؟
الحياة بعد سهام: بطولة مطلقة للعائلة
وجوه العنف المُقنعة: كيف يخفي الخطاب الفني إيذاء النساء؟

فن