فن

فيلم «دعاء الكروان»: لا غالب في لعبة الحب

قصة رواية تحولت إلى فيلم ليصبح واحدًا من كلاسيكيات السينما المصرية وأكثرها جماهيرية على الإطلاق.

future فاتن حمامة وأحمد مظهر

في مهرجان برلين السينمائي عام 1960 كان ينافس على الدب الذهبي في هذه الدورة روبير بريسون بفيلمه «النشال pickpocket»، جودار بفيلمه «منقطع الأنفاس Breathless» الذي يدشن لموجة جديدة في السينما الفرنسية، كما عرض المخرج الكبير إيليا كازان فيلمه «wild River». شارك أيضًا ضمن المسابقة الرسمية الأمريكي ستانلي كرامر، والياباني شوهي إيمامورا، والمصري من أصول لبنانية هنري بركات بفيلمه «دعاء الكروان» الذي سيصبح لاحقًا واحدًا من كلاسيكيات السينما المصرية وأكثرها جماهيرية.

بدأ الأمر قبلها بسنوات حين أرسل فريد الأطرش لبركات رواية طه حسين دعاء الكروان الصادرة عام 1934 مبديًا رغبته في تحويلها لفيلم من إخراجه، وأن يلعب الأطرش دور البطولة فيه. لم يكن بركات قد قرأ الرواية بعد، وحين قرأها تأكد أن دور المهندس الزراعي الذي سيؤديه لاحقًا أحمد مظهر لا يناسب الأطرش أبدًا، اعتذر بركات له، لكن افتتانه بالرواية وبطلتها آمنة ظل حيًّا بداخله.

حين كان بركات يعاين أماكن تصوير فيلمه «حسن ونعيمة» وجد تلك القرية التي هتفت روحه إثر رؤيتها: «هذه قرية آمنة»؛ إذ كانت تمامًا كما وصفها حسين في روايته. لكن لماذا آمنة؟ ولماذا هذه الحكاية؟

آمنة هي قلب الحكاية وفتنتها

(رحلة آمنة من طرف الكادر السينمائي إلى قلبه)

 بركات الذي تعلم السينما في فرنسا تظهر أفلامه تأثرًا بالواقعية الشعرية التي كانت مزيجًا من الواقعية والخيال العاطفي، وسادت في السينما الفرنسية من بداية عشرينيات القرن الماضي وحتى نهاية خمسيناته، واهتمت بالتعبير عن القلق والإحباط العاطفي وانكسارات الروح. حملت أفلامه المزاج الكئيب لقسوة القدر، للوعة الحب وهزيمته التي وسمت أعمال هذه المدرسة السينمائية.

لامست رواية «دعاء الكروان» وجدان بركات، والمتتبع لسينماه يكتشف لماذا كان لهذه الحكاية وبطلتها مثل هذه الغواية بالنسبة له، فالحكاية بطابعها الرومانسي ومزاجها العاطفي الحزين هي أقرب لنوعية الحكايات التي برع بركات في أفلمتها، كما أن شخصية آمنة التي ستؤديها فاتن حمامة هي المثال النموذجي للمرأة في سينماه، حيث تتسم الشخصيات النسائية لديه بوجودٍ فاعل ومؤثر، هي من تحرك في الغالب السرد والأحداث. آمنة في رواية حسين كما في فيلم بركات هي قلب الحكاية وغوايتها.

الفيلم الذي كتب له السيناريو بركات رفقة يوسف جوهر، هو رحلة آمنة لمعرفة نفسها واكتشاف العالم، رحلة تحولها من فتاة بعيون طفلة ترى العالم ينتهي عند حدود قريتها، وترى الخروج منها خروجًا من الجنة، لامرأة أنضجتها التجربة وتحاول أن تفرض إرادتها على العالم.

يبدأ بركات بحساسيته المدهشة للتكوين السينمائي وبطلته على طرف الكادر وفي قعره أحيانًا، قبل أن ينقلها إلى قلبه لتملأ الشاشة. نحن أمام سرد حداثي لحكاية كلاسيكية.

يبدأ السرد من نقطة إثارة قصوى بخادمة في بيت سيدها، وفي أول ليالي خدمتها تطلب من الله العون فيما تدبره لسيدها الذي بدأت حكايته معها منذ سنوات، ثم لاحقًا نستعيد الحكاية من البداية من وجهة نظر آمنة حصرًا، وصولًا لنقطة بداية السرد الذي يكتسب الآن زاوية رؤية جديدة، هي وجهة نظر مهندس الري، الذي صار شريك آمنة في الحكاية عند هذه النقطة من السرد.

هذا فيلم عن الحب

يعد «دعاء الكروان» وثيقة اجتماعية على زمنه ووضع المرأة داخل مجتمع محكوم بذكورية متطرفة مثل الصعيد، إنه فيلم عن غلبة التقاليد مثلما هو ميلودراما اجتماعية تتشابك فيها تيمات الخطيئة والثأر والعنف، لكنه يبقى في صميمه فيلمًا عن الحب.

تكتشف آمنة الحب أولًا عبر تصور نظري، من خلال رواية رومانسية تقرؤها لها ابنة المأمور، حيث الحب دموع وهجر وجفاء وخداع وموت. تحكي الرواية عن فتاة خُدعت بالحب وكان مصيرها الموت، في إرهاص بما سيحدث لهنادي في حكايتها مع المهندس الزراعي، التي تسم الحب بظلال الموت. الحب ككأس حلوة ومرة.

بعد صدمة مقتل هنادي يتحول حزنها إلى فضول جامح، ومع ذلك يظل بداخلها سيل مؤرق من الأسئلة لمحاولة فهم الحب. بينما تحوم حول بيت المهندس يتصاعد مونولوجها الداخلي: «إزاي ملك فؤادها؟ وإزاي قدر يغويها؟»، ينقلب فضولها لرغبة في الانتقام، تحاول قتله بالسم، لكنها تضعف في النهاية قبل أن توحي لها زنوبة/ميمي شكيب بانتقام أنثوي ناعم، انتقام بالحب؛ إذ تحكي لها عن فتى وقع في غرامها في زمانها الأول وقتل نفسه من جراء صدها له. «الحب ياما بيذل»، هكذا توسوس لها، لكن هذه الوسوسة تأتي مشفوعة بتحذير واضح «خدي بالك النار اللي عايزه تحرقيه بيها تحرقك». الحب هنا مصمم كلغز، كجريمة غامضة يُفكَّك غموضها عبر التجربة والمعايشة.

حب مسكون بالأشباح

لم أعتقد أنك سوف تقع في حبي

- ولا أنا! فقط، كان لديَّ فضول لمعرفة كيف بدأ الأمر. الآن أعرف أنه يمكن للمشاعر أن تباغتك هكذا، اعتقدت أن كل شيء تحت السيطرة.

اقتباس من فيلم «في مزاج للحب» للمخرج وونج كار واي.

تهرب آمنة بعد مقتل أختها إلى بيت مخدومها، بينما تعزف ابنة المأمور على البيانو تتحرك كاميرا بركات باتجاه آمنة وهي تشعل شمعة أمام المرآة بمصاحبة مونولوجوها الداخلي: «الحياة زي ما هي في دار المأمور، لكن اللي رجعت مش آمنة الأولانية»، ثم تتحرك الكاميرا نحو المرآة ليبقى في الكادر انعكاسها فقط، نسختها الجديدة المسكونة بمأساة أختها، والتي تعيش رفقة الأشباح. نراها ونرى انعكاسها في المرآة، نلمس انقسامها وتشتتها.

ينتقل بنا بركات للمشهد الثاني عبر المزج بين انعكاس المرآة وآمنة وهي تتحرك داخل البيت وكأن هذه النسخة منها هي التي تستولي على جسدها الآن، وتجعلها تحوم كالمسرنمة حول منزل المهندس.

إنه فيلم عن الحب وأشباحه … هذا مثال واحد عن كيف يعبر بركات بحس سينمائي مدهش عن بطلته وأفكارها ومشاعرها. تتطور الحكاية من فضول إلى رغبة في الانتقام باسم الحب، يتحول الحب إلى لعبة من الدلال والصد، لكن السحر ينقلب على الساحر، تعتقد آمنة أنها في مأمن من الحب حتى يسقط دفق المشاعر حصونها، حين يصبح الحب بينهما واضحًا وحين يعرفان أن حكايتهما منذورة بالفشل لأن شبح الأخت المغدورة سيظل حيًّا بينهما، تخبره آمنة وهي تغادره: «ما تفتكرش إني خارجة سليمة»، وكأن الحب الذي أرادته سلاحًا للانتقام من المهندس استدار نحو قلبها أيضًا.

درس السينما النقية

حين زار بركات عميد الأدب العربي من أجل تحويل الرواية لفيلم أبدى حسين قلقه من أن روايته تخلو من الصور التي تتطلبها السينما، كونه لا يجيد الوصف، أخبره بركات أن أسلوبه يوحي بصور سينمائية. في الحقيقة هذا واحد من أنضج أفلامنا السينمائية على صعيد الصورة. صوره تكاد تكون مدهشة في نقائها السينمائي.

مفهوم السينما النقية كما حدده هيتشكوك يعود لزمن السينما الصامتة، حين كان على مخرجي السينما آنذاك أن يجدوا الوسائل لحكاية القصة بصريًّا دون عون من الكلمات. لا أعرف إن كان بركات يفكر على نحو مسبق كيف يخلق المشاعر على الشاشة من خلال التكوين، الميزانسين والمونتاج، لكنه يبدو لي حدسيًّا، يعمل من خلال غريزته وإحساسه المتنامي بالوسيط.

بركات هو أحد أفضل المخرجين المصريين الكلاسيكيين الذين يشتغلون على الميزانسين. الميزانسين ببساطة هو كل ما يحدث أمام الكاميرا، من تصميم الديكورات والإضاءة وتكوين الكادرات وغيره. بركات يشحذ ميزانسينه تعبيريًّا بحيث يبدو مضيئًا من تلقاء نفسه دون حاجة للكلمات.

من ضمن عناصر الميزانسين ما يسمى بالـblocking، ومعناه وضع وحركة الممثل داخل المشهد، وكيف يستخدم في التعبير عن دراما المشهد وطبيعة الشخصيات. بركات مبدع جدًّا في هذه الجزئية، وفيلمه دعاء الكروان مليء باستخدامات شديدة البراعة لوضع وحركة الممثلين داخل المشهد، خاصة فيما يخص علاقة آمنة ومهندس الري التي تتحول في أحد منعطفاتها إلى لعبة سلطة، يتبادلان فيها على التوالي دور السيد والضحية، فنشاهد تكوينات يكون فيها المسيطر في وضع أعلى دائمًا مهيمنًا على الآخر حتى يتسلل الحب إليهما، فتتحول المسافة بينهما داخل الكادر من رأسية إلى أفقية، إلى بُعد مفروض.

لنتأمل مثلًا تتابعات النهاية حين تنكشف حقيقة أن هنادي هي أخت آمنة، وبالتالي فإن احتمالية وجود علاقة بينهما ضرب من المستحيل، كيف تدخل في علاقة مع قاتل أختها؟ تتجسد في هذه الكادرات المسافة المضروبة بينهما، نجد وضع كل منهما عكس الآخر، وعلى طرف الكادر، لن تجمعهما علاقة أو مكان بعد أن انكشف السر المعذب. كلاهما ضئيل وعاجز ومعذب، وما بينهما ليس فراغًا بل مساحة من الذنب، (هنادي هتفضل بينا). آمنة في عمق الكادر محاصرة بمشاعر الذنب والحب (إطار داخل إطار - frame within frame)، الأمر بدأ كمحاولة للثأر وانتهى بها جريحة ومهزومة هي الأخرى.

حين نرى آمنة للمرة الأولى في أول لياليها في بيت المهندس، نشاهدها في قعر الكادر وعلى طرفه، إنها ضئيلة وغير واثقة من قدرتها على فعل ما أتت من أجله. لا نشاهد المهندس في مشاهد البداية، إنه دائمًا خارج الكادر ممارسًا غيابه؛ ما يمنحه سلطة لا نهائية عليها. ستظل على طرف الكادر حتى تثمر لعبتها ويقع المهندس في حبها، ساعتها سنجدها تحتل مركز الكادر، قبل أن تعود إلى طرفه مرة ثانية بعد أن تقع هي الأخرى في حبه. كل هذا يتسلل إليك وأنت تشاهد دون كلام.

صوت الكروان كموتيفة سمعية

 يتكرر كثيرًا على شريط الصوت دعاء الكروان الذي يصير مع الوقت موتيفة سمعية معبرة وجزءًا من الدراما. تحكي آمنة في مونولوجها عن علاقتها بالكروان في طفولتها وفي قريتها، حيث كان رفيق فرح، ليصير بعد خروجها من الجنة أنيسها وسامع شكواها.

يصبح الكروان أيضًا شاهدًا على مقتل أختها حين نسمع صوته بينما تغوص السكين في قلب هنادي. لاحقًا تردد آمنة: «أنا وأنت استغثنا لكن صوتنا ضاع في الفضا الكبير»، إنه رفيق ضعفها وقلة حيلتها.

يستمر حضوره على شريط الصوت كتذكير دائم لها ولنا بالمأساة ورغبتها في الانتقام. في واحد من أجمل لحظات الفيلم قرب النهاية، حين تبدأ مشاعرها في التحرك تجاه المهندس، وفي لحظة قرب حميم تسمع آمنة صوت الكروان، فتنقبض ملامحها وتتجهم لأنها نسيت العهد.

لا يكتفي السرد بذلك، بل يستخدم صوت الكروان في هذا المشهد للكشف عن طبيعة المهندس وتصوره عن الحب كنوع من التملك. يخبر آمنة أنه في طفولته كان يستيقظ باكرًا ليوقع الكروان في الفخ، وحين تتهمه بالقسوة، يجيبها: «في الفخ بيبقى ملكي، لكن ع الشجرة هعمل بيه إيه؟»

في هذه العلاقة تتجلى قدرة الحب على إحداث تغيير واضح في طبيعتنا وتصوراتنا عن الذات والعالم. حين يضحى المهندس بنفسه لإنقاذ آمنة نهاية الفيلم فإنه هنا يعبر عن تحوله وعن خروجه من أنانية التملك إلى عطاء الحب، إنه أول ما يمنح يمنح حياته كقربان لمحبته. يحدث هذا أيضًا بينما يملأ صوت الكروان شريط الصوت. إنه شاهد الرحلة وتحولاتها العنيفة.

# فن # سينما

فيلم «دخل الربيع يضحك»: موسيقى الحياة اليومية
My Favourite Cake: الحياة كعكة ساخنة في انتظار رفقة
بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز

فن