فن

فيلم «إلى أرض مجهولة»: عالقون في مسار التاريخ

ما يجعل فيلم فليفل واحدًا من أجمل الأفلام العربية هو تقديمه شخصيات دون أحكام وبكائيات، إضافة إلى رحلة الفيلم التي تتراوح بين الآمال والإحباطات.

future فيلم «الأرض المجهولة» الفائز بجائزة مهرجان كان

أمام مسرح الكروازيت قابلت العديد من الأصدقاء قبل عرض الفيلم الفلسطيني "إلى أرض مجهولة" لمهدي فليفل ضمن قسم نصف شهر المخرجين، ارتدى البعض الكوفيات، بينما ارتدى الآخرون دبابيس عليها دعاية للفيلم بعنوانه فوق صورة لبطيخة، وهي الفاكهة التي تحولت على مدى الأشهر السابقة لرمز سياسي لدعم فلسطين. عندما تدخل إلى القاعة، ربما ينتابك نوع ما من الإحساس، وكأن هذا العرض نوع من المظاهرة بظهور الأعلام الفلسطينية وطاقم الفيلم وعلى رأسهم مهدي فليفل ومنذر رياحنة ومحمود بكري. التصفيق كان قبل العرض يبدو كنوع من التضامن والتأييد لفنان فلسطيني قدم أفلامًا وثائقية رائعة من قبل، ولفلسطين نفسها وما تعانيه من ويلات الاحتلال والحرب. 

فليفل يكتب شخصيات وثائقياته

عرفت مهدي فليفل مخرجًا بفيلمه الوثائقي الطويل "عالم ليس لنا" الذي يتتبع فيه قصص ثلاثة أجيال من النازحين الفلسطيينين في مخيم عين الحلوة بلبنان، ثم بأفلامه القصيرة الوثائقية التي تتبع فيها شخصيات ظهرت في ذلك الفيلم وبينها "رجل يغرق" و"رجل عائد" و"ثلاثة مخارج منطقية"، وكلها — إن أردنا وصفها — أفلام وثائقية تحمل شعورًا قويًّا عند مشاهدتها، شعورًا ليس هو بالشفقة ولا بتعاطف كاذب، وإنما غضب مخلوط بمرارة من حالة الشخصيات العالقة بين خيارات كلها من أسوأ ما يكون، ثم بأمل أن تخرج تلك الشخصيات، حتى بعد نهاية الفيلم، إلى حلول أفضل. 

يشبه ذلك الإحساس نوعًا ما التواجد في المطهر بين الجنة والنار، حالة من الترقب، أمل في الصعود إلى الأفضل، وخوف من هبوط إلى أسفل، أدرينالين مستمر في جسد من يعيش تلك الحالات، قلق دائم ربما يشبه ذلك الذي عاناه الإنسان البدائي وهو يخشى كل ليلة من ظهور حيوان مفترس ليأكله، الأمر الذي سرق النوم من عينه، أو يسرق حياته إذا نام وتحققت مخاوفه. 

هذا العام، يقدم لنا فليفل فيلمه الروائي الطويل الأول، بشخصيات وحكاية لا تختلف كثيرًا عن أفلامه الوثائقية التي لم تكن يومًا شخصيات ملائكية لا تصنع شرًّا، وإنما شخصيات حقيقية من لحم ودم، تعيش بغرائزها تارة وبعقلها تارة أخرى كأي إنسان طبيعي، وهذا ما يجعل شخصيات الفيلم بنقائصها وفضائلها شخصيات تتعاطف معها ولا تشفق عليها للحظة، أبطالًا دراميين يحاولون إيجاد طريقهم في الحياة. ربما يكون الشيء الذي يزيد هنا في الفيلم الروائي هو إمكانية أن يحلل فليفل قصصه ويرويها من وجهة نظره بوضوح أكبر. 

شاتيلا ورضا: وجهان روائيان لشخصية مركبة

المكان هو اليونان، والشخصيات هي شاتيلا ورضا، الشابان الفلسطينيان اللذان فرا من لبنان ووصلا إلى اليونان أملًا في الوصول إلى ألمانيا أو "أوروبا الحقيقية"، على حد وصفهم. نراهما يتسكعان طول الوقت في الحدائق، يحاولان كسب عيشهما بأي طريقة ممكنة، ثم يذهبان ليبيتا في شقة مكتظة بالبشر تشبه مستعمرة صغيرة للعديد من اللاجئين. إيقاع الفيلم نفسه ربما يشبه ذلك التسكع الكابوسي الذي يحبس شخصياته في نوع من العبث الذهني، فلا الشرطة تقبض عليهما ويُرحلان، ولا هما يستطيعان الخروج من اليونان لقلة النقود اللازمة للحصول على جواز سفر مزيف ينقلهما بالطائرة إلى ألمانيا. 

آلام شاتيلا ورضا ممتدة أيضًا لفراقهما لأحبائهما في لبنان، هذا الفراق الذي بدأ بوعد بحياة أفضل يلتئم فيها شمل الأسر في وضع آدمي، لكنه أصبح فراقًا مجانيًّا نوعًا ما مع استحالة العودة إلى النقطة صفر. إنه نوع من التيه الحقيقي والوجودي أيضًا، إذ إن الأرض المجهولة هنا ربما تعني الأراضي الأوروبية، لكن العنوان ربما يقصد حالة نفسية أيضًا تعيشها شخصيات الفيلم كل يوم.

نكتشف الشخصيتين في رحلتهما الممتدة على مدى زمن الفيلم، شاتيلا عنيف واقعي لا يؤمن إلا بالمصلحة والوصول إليها، ورضا متردد عاطفي يعود كل فترة إلى تعاطي المخدرات ما يهدد صداقته، المشابهة لأخوة صنعتها الظروف، بشاتيلا. في كل موقف نرى ردود أفعال الشخصيتين على ما يحدث لهما، ورغم أن تصرفاتهما ليست بالسليمة معظم الوقت، فإن تعاطفًا هائلًا ينشأ معهما، لا موافقة على الأفعال، وإنما هو الإحساس بمدى الغضب والإحباط الناتجين عن ظروف لعب غير عادلة. هنا أيضًا يستطيع فليفل من خلال الشخصيتين تبيان جانب كان ربما يظهر على استحياء في شخصيات أفلامه الوثائقية، وهو الجانب العاطفي الحساس المتأذي بشدة، والذي يختبئ خلف وجه رجولي خشن تصدره الشخصيات لحمايتها في عالم قاسٍ. 

ما يجعل فيلم فليفل واحدًا من أجمل الأفلام العربية هذا العام هو تقديمه لتلك الشخصيات دون أحكام ودون بكائيات كبيرة عنهم، إضافة إلى رحلة الفيلم التي تتراوح بين الآمال والإحباطات بسرعة شديدة، وتنقل إحساس أن يعلق الفرد في وضع صعب، ليصبح كحيوان يود الخروج من مصيدة معقدة، قبل أن يفقد عقله وينسى تاريخه.

# سينما فلسطينية # أفلام # سينما

فيلم Joker: Folie à Deux: حكاية تقلع بلا أجنحة
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
فيكتور إيريس: العالم بقدم في الواقع وأخرى في الأحلام

فن