فن

فيلم «أنواع اللطف»: لانثيموس كنوع سينمائي

لانثيموس يصنع ذات الأفلام كل مرة، لكنها لا تفقد بريقها، إذ يبقيك طوال الفيلم منتبها بأداء ممثل أو نكتة جانبية أو تصميم لبيت أو عنصر في الديكور.

future فيلم «أنواع اللطف» للمخرج يورجوس لانثيموس

لا أذكر بالضبط في أي وقت شاهدت تحفة يورجوس لانثيموس البديعة «سن الكلب»، لكني أتذكر إحساسي بدقة ناحية هذا الفيلم. وصفته لصديق آنذاك بأنه يُشعرك بأنك تود لكم أحدهم في الوجه، جرعة من الغضب تتولد لديك إثر مشاهدة الفيلم على الفور، تماهيًا مع بطلته المتمردة على قوانين بيتها الغريبة والسلطوية. منذ ذلك، تابعت كل ما يصنعه أو صنعه لانثيموس من أفلام وبينها «جبال الألب» و«جراد البحر» لكن لم يأت إلى خيالي أن يصير لانثيموس اسمًا عالميًا قدر ما كنت أتخيله في مصاف المخرجين الفنيين الذين سيتم تقدير أعمالهم بين صفوف محبي السينما المُخلصين. كان تخيلي آنذاك، أن هذا مخرج يوناني يصنع أفلامًا فنية باليونانية، وهي أفلام يستحيل لثقل موضوعاتها وغرائبيتها أن تلقى رواجًا عالميًا.

كيف نجح لانثيموس في التحول إلى نجم؟ 

هذا العام، في مهرجان كان وفي المسابقة الرسمية، فيلمه الأحدث «أنواع اللطف»، والذي صنعه في نفس وقت صناعة فيلمه الأشهر حاليًا «كائنات مسكينة»، ولكنه يطرح بعد الأخير الذي حقق نجاحًا هائلًا العام الماضي. هنا يتعاون لانثيموس مع نفس شركات الإنتاج التي صنعت «كائنات مسكينة» ومع نفس الممثلين مع تغييرات بسيطة، إذ يتعاون مع ويليام ديفو وإيما ستون ومارجريت كوالي. النجوم هم جزء من تحول أفلام لانثيموس إلى العالمية، فإذا كان لديك فيلم به أسماء مثل السابق ذكرها، فإن عملية البيع ستصبح أسهل بكثير. إضافة إلى ذلك، فإن التحول إلى الإنجليزية كلغة للأفلام هو جزء أيضًا من شهرة لانثيموس الحالية، لكنه يظل ذات المخرج محتفظًا بذات الأفكار التي بدأ بها ويعيد صياغتها كل مرة بطريقة مختلفة، وإذا كانت شهرته قد تضايق محبي السينما المهووسين الذين يحبون أن يحتفظوا بمعرفة المخرجين الفنيين لأنفسهم، فإن وجوده بالتأكيد على الساحة العالمية، يضفي تنوعًا على المشهد السينمائي الهولييودي، ويمنح مساحة للأفلام الفنية أن تأخذ مساحة أكبر في الإنتاج والتوزيع. 

المُدهش في الأمر ليس وصول لانثيموس للصناعة العالمية، أو لنقل الناطقة بالإنجليزية، ولا العمل مع نجوم هولييود، قدر أنه لم يصنع ذلك كمفوض لصناعة فيلم هولييودي من أفلام مارفل أو دي سي وإنما فيلم يُعبر تمامًا عن ذات أفكاره. لانثيموس استطاع على مدار سنوات تحويل أفكاره الفنية الصرفة إلى شكل تجاري لا يخلو من طموح فني كبير، لكنه لم يغير ذات الأفكار، وهذه المعادلة الصعبة وسط عالم يحاول أن يبقى في دوائر الأمان سواء بالاعتماد على الفرانشايز السينمائي أو على اقتباسات لكتب حصلت على لقب الأكثر مبيعًا، أو حتى بالاعتماد على اسم المخرج ذاته كحالة كريستوفر نولان (وفيها ينطبق الشرطان الثاني والثالث)!

عودة لأسلوب قديم بعد نجاح كبير

هنا في أنواع اللطف، نرى ثلاثة أفلام موضوعة في فيلم واحد، مدة كل منها تقارب الساعة، وتدور كل منها في عوالم لانثيموس المعهودة من قبل، إذ يتضح هنا عودته لأسلوبه الغرائبي أكثر من الاتجاه نحو المبالغة في الكوميديا مثل «كائنات مسكينة». نتابع ثلاثة أبطال، يعيشون في سياقات غريبة، لكل منهم أستاذ أو لربما أب روحي، ولكل منهم عالم معين يعيش به، وتسبب أفعالهم في طردهم من تلك العوالم، ومن هنا تنشأ الدراما في الحكايات الثلاث المجردة إلى حد كبير من أي واقعية أو وجود لعالمنا. يعتمد لانثيموس هنا على خلق نفس نوع الغرائبية الموجود في أفلامه الأقدم، مستخدمًا مواقع تصوير خالية من البشر إلى حد كبير، وتجهيل للأماكن التي يصور بها لتصبح معرفة بلا ألف ولام: مدينة، شارع، بيت، حانة. 

إلى جانب ذلك، فإن طريقة تصرف الشخصيات وكلامهم، ربما تكون مصطنعة أو بعيدة عن أي شكل واقعي، تبدو وكأنها قدرية مكتوبة للشخصيات، وربما يكون خروجهم عنها نوعًا من الثورة، ناهيك عن ردود الأفعال الباردة على أحداث عنيفة، ربما نوع من غياب التعاطف الإنساني، والتركيز على الرغبات بشكل كبير في تصرفات البشر، ما يجعل عالم لانثيموس مجردًا مقتربًا من حقيقة البشر وصراعاتهم حتى وإن لم يصور واقعهم. يعود لانثيموس هنا إلى التعاون مع كاتب أفلامه الأقدم إيفيثميس فيليبو، وربما يصبح فيلمه هنا هو الأكثر توازنا في أفلامه. فهو يقع في مساحة بين أفلامه اليونانية الصادمة، وبين مبالغاته التجارية في فيلميه الأخيرين، فقط ربما تكون نفس الحكايات الأقدم بممثلين أشهر، وبعد إطلاق عدد من الأفلام التي تجذب الجماهير لاسمه هو رغمًا عن كل شيء. 

أفلام لا تفقد يريقها

لانثيموس بشكل ما يصنع ذات الأفلام كل مرة، لكنها لا تفقد بريقها، إذ يبقيك طوال الفيلم منتبهًا، بأداء ممثل أو نكتة جانبية أو تصميم لبيت أو عنصر في الديكور، وفوق كل ذلك، فإنه يحرك الأفكار في عقلك، وبخاصة مع فيلم كهذا يتحداك لتخمن أو تفهم ما الذي يحدث هنا، من هؤلاء ولماذا يتصرفون هكذا. فيلم مرهق وممتع في آن، لا يمنحك إجابات سهلة، قدر ما يناور عقلك، لكنه يمنحك بعض الضحك من حين لآخر وربما نوع من الحزن وراء هذا الضحك أيضًا، لكن دون ابتذال لذلك. ينتمي لانثيموس لما يعرف بالموجة اليونيانية الغرائبية، وتنتمي ربما شهرتها كموجة لما فعله هو بها، إذ ربما تُعرف الموجة به، لكن فوق كل شيء فسواء كانت موجة أو أصبح لانثيموس نفسه ظاهرة سينمائية ككوبريك أو بيلا تار أو تاركوفسكي، فإن تلك الطريقة التي تخلط العبث بالضحك وتقدمهم بشكل مجرد، ربما تكون هي الطريقة المثلى للتعامل مع ما يحدث في عالمنا كل يوم.

# سينما # أفلام # مخرجون

فيلم «دخل الربيع يضحك»: موسيقى الحياة اليومية
My Favourite Cake: الحياة كعكة ساخنة في انتظار رفقة
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها

فن