ضمن قائمة الكلاسيكيات المصرية المُرمَّمة، يُعرض هذا العام في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي فيلم المخرج الكبير كمال الشيخ «غروب وشروق»، عن قصة العسكري والكاتب جمال حماد، وسيناريو وحوار رأفت الميهي، وبطولة كوكبة من عمالقة الفن: سعاد حسني، رشدي أباظة، محمود المليجي، صلاح ذو الفقار، إبراهيم خان، وغيرهم.
فيلم اجتماعي بخلفية سياسية
يُعد الفيلم ثاني الأعمال السينمائية التي كتبها رأفت الميهي بعد «جفت الأمطار»، قبل أن ينتقل إلى الإخراج. وواحدًا من الأفلام التي عالجت التوتر السياسي من وجهة نظر مهتمة بالجانب الاجتماعي أكثر من الموضوع السياسي.
يفتتح الفيلم على مشاهد حريق القاهرة عام 1952، لتتشابك منذ اللحظة الأولى مصائر ثلاثة أصدقاء: أمين، عصام، وسمير. يتزوج أمين من مديحة، ابنة عزمي باشا، بعد لقاء عابر، لكنه يُخفي زوجته عن أصدقائه، ما يثير فضول زوجته التي تقرر — بدافع الفضول — التعرف إليهم بنفسها.
تلتقي مديحة بعصام دون أن يدرك هويتها في شقته. وأثناء وجودها هناك، ينزل عصام لشراء مشروب، ويغلق عليها باب غرفة النوم انتظارًا لعودته. لكنه يتعرض لحادث يصيبه بفقدان الوعي. وفي المستشفى يحاول الوصول إليها عبثًا، فيلجأ إلى صديقه أمين.
يذهب أمين إلى الشقة حاملًا المفتاح لإنقاذ الفتاة المحجوزة، ليُفاجأ عند فتح الباب بأن من بداخل الغرفة زوجته.
من هنا تبدأ سلسلة من الانهيارات القاتمة: يقوم عزمي باشا — سعيًا للتعتيم — بتصفية أمين في حادث مُدبّر، ثم يحاول تزويج مديحة من عصام. وعندما يرفض، ينهال عليه تعذيبًا وتلفيقًا للاتهامات.
يظهر الصحفي أشرف البحيري في محاولة لكشف الفساد، فيدعم سمير — ومن بعده عصام — في مواجهة عزمي باشا، لتبدأ رحلة انتقام تبدو كاقتران رمزي بين الغروب الذي يطوي عهدًا فاسدًا، والشروق الذي يعلن ميلاد مواجهة لا مفر منها.
كان السيناريو في بداياته بين يدي الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي، إلا أن كمال الشيخ لم يرَ فيه الملمح السينمائي المطلوب. اختار الشيخ أن يتعاون مع رأفت الميهي، وأن يعيد معه كتابة السيناريو من الصفر، ست مرات كاملة، حتى وصل إلى الصيغة النهائية.
كثيرون يصنفون «غروب وشروق» فيلمًا سياسيًا، لكنه في جوهره يميل إلى المعالجة الاجتماعية، رغم الخلفية السياسية التي تتسرب من بين السطور، والمتأثرة بطبيعة صاحب القصة جمال حماد. بدا واضحًا أن كمال الشيخ — الذي كان دائم النفور من السياسة في السينما — فضّل إبقاء الصراع السياسي في مرتبة خلفية، بينما دفع بالعلاقات الإنسانية إلى الواجهة.
ومع ذلك فالفيلم يحمل دلالات سياسية، ويشتبك مع حاضره السياسي؛ فالعنوان نفسه يُقدّم مفتاح القراءة الأكثر مركزية للفيلم: الغروب = نهاية منظومة قمعية متعفنة، الشروق = بداية وعي جديد، لا يولد بالضرورة من الثورة السياسية، بل من انكشاف الحقيقة.
لكن الفيلم هنا في الوقت نفسه لا يتعامل مع ثورة يوليو بوصفها حدثًا سياسيًا فقط، بل كتحوّل اجتماعي عميق. سقوط عزمي باشا ليس انتصارًا سياسيًا بقدر ما هو انهيار منظومة علاقات مبنية على السلطة والوجاهة والخوف. أما صعود الأبطال — رغم تشوه تجاربهم — فهو كناية عن ولادة ذات جديدة عبر الألم والانكسار.
ربما يفسر ذلك ابتعاده عن سيناريو الشرقاوي، وإسناد الأمر إلى الميهي؛ بحثًا عن بناء درامي مشحون بالتوتر لا بالخطابة. والميهي متميز في رسم أبعاد نفسية للشخصيات.
كمال الشيخ… «هيتشكوك السينما المصرية»
كمال الشيخ، ابن ستوديو مصر، وواحد من أبرز رواد التشويق في السينما العربية، لطالما وُصف بـ«هيتشكوك السينما المصرية». ورغم اعتراضه على اللقب، فقد ارتبط في ذاكرة الجمهور بلقطاته المحكمة، وإيقاعه المتوتر، وقدرته على حبس الأنفاس.
وقد تجلى هذا الأسلوب بوضوح في أحد أعظم مشاهد الفيلم: لحظة دخول أمين إلى شقة عصام، واكتشافه خيانة زوجته. مشهد طويل، متوازٍ، مشحون بالصمت والتوتر… بين عصام الذي يحاول العودة بالمشروب، ومديحة النائمة في غرفة لا تعرف أنها على وشك الانكشاف.
خاتمة
«غروب وشروق» ليس مجرد فيلم كلاسيكي يُعاد ترميمه؛ بل عمل يقف شاهدًا على مرحلة كاملة من التحولات الفنية والاجتماعية والسياسية. «غروب وشروق» فيلم عن مجتمع ينهار من الداخل قبل أن تهزمه الثورة من الخارج.
هو مواجهة درامية بين السلطة والأفراد، بين الفساد والوعي، بين الزمن القديم والزمن القادم. إنه فيلم عن اللحظة التي يكتشف فيها الجميع — كلٌ بطريقته — أن الحقيقة لا يمكن دفنها، مهما أُغلقت الأبواب.
وعودته إلى الشاشة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نسخته الـ٤٦ فرصة لقراءة الماضي من جديد، كما أنها فرصة جيدة للشباب من الأجيال الجديدة لمشاهدة الفيلم داخل قاعة السينما.