في الوقت الذي أصبحت فيه فظائع وجرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي على مرأى ومسمع من الجميع، لم تدخر القيادات الإسرائيلية أي جهد في إشهارها بكل صلف للسردية الإسرائيلية عن هذا الجيش بأنه هو الأكثر أخلاقية في العالم، وبأنه يتمسك بأرفع المعايير الأخلاقية.
حاولت إسرائيل أن تروِّج تلك الصورة عن نفسها حتى قبل تأسيس جيشها عام 1948؛ إذ كانت تزعم قوات الهاغاناه، قبل التأسيس، تهتدي بمذهب طهارة السلاح القائم على عدم استخدام القوة إلا لسبب وجيه ودفاعاً عن النفس.
إلا أن التاريخ والواقع الحالي يثبت أن هذا كله محض مزاعم تقوم بها إسرائيل لمحاولة تحسين صورتها الملطخة دائماً بدماء الأبرياء من الفلسطينيين والعرب على حد سواء. وتأتي كتيبة نتساح يهودا الإسرائيلية نموذجاً ودليلاً دامغاً على افتقار جيش الاحتلال الإسرائيلي لأي مستوى من المستويات الأخلاقية.
تأسست كتيبة نتساح يهودا عام 1999، وهي تُعرف أيضاً في وسائل الإعلام الإسرائيلية باسم كتيبة الحريديم. وقد تشكَّلت هذه الكتيبة للسماح للإسرائيليين الحريديم (المتدينين) بالخدمة في الجيش؛ حيث يرفض الحريديم الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي، «لأنهم يكرسون وقتهم لتعلم التوراة وتفسيرات الكتب الدينية بشكل دائم»، وفق كبير الحاخامات يتسحاق يوسف.
وبما أن الكليات الدينية لا تستطيع أن تستوعب جميع شباب الحريديم، لذلك تم التوافق على إدخال بعض الشباب الحريديم إلى الجيش ضمن شروط خاصة، تضمن قيامهم بالأعمال الدينية المطلوبة منهم، فقد كان الهدف الرئيسي من تأسيس الكتيبة حل مشكلة الشباب الحريدي الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و20 عاماً، ولم يستطيعوا الالتحاق بالنظام التعليمي الديني يشيفا، من خلال تمكينهم من الخدمة العسكرية والانخراط في الجيش الإسرائيلي مع الحفاظ على تقاليدهم الدينية، دون تغيير أسلوب حياتهم الحريدي.
في هذه الكتيبة لا يُسمح بانضمام النساء، كما تلتزم بمعايير الكوشر الصارمة، أي الطعام الحلال وفق الأحكام اليهودية. كما يعمل حاخام مع الكتيبة؛ حيث يعمل الجنود ليس فقط وفقاً لتعليمات القائد، ولكن أيضاً وفقاً لتعليمات حاخام الكتيبة، فالحاخام هو أحد أهم الشخصيات في كتيبة نتساح يهودا.
في هذه الكتيبة تكون مدة خدمة الجنود أقصر من تلك الموجودة في فروع أخرى من الجيش، وذلك حتى يتمكن الأعضاء من التركيز على الدراسات الدينية. بدأت الكتيبة ببضع عشرات فقط من المجندين، أما الآن فعدد المنضمين إليها يتخطى ألف جندي؛ حيث ضمت إليها بعض الشباب من ذوي الخلفيات المضطربة، وفي ذلك بعض الذين نبذتهم عائلاتهم أو لديهم ماضٍ عنيف وأحياناً إجرامي، حسب شهادة جندي سابق في الكتيبة.
وعلى عكس الوحدات الأخرى، فإن التجنيد في نتساح يهودا طوعي، فمنذ تأسيس إسرائيل في مايو 1948، أصبحت الخدمة العسكرية لمدة محددة إلزامية لجميع الإسرائيليين اليهود. ولكن المجتمع الأرثوذكسي أو الحريدي كان معفياً من التجنيد الإجباري.
تعتبر نتساح يهودا إحدى الكتائب الأربع التي تُشكِّل لواء المشاة كفير، وقد عملت الكتيبة في الضفة الغربية المحتلة وأُرسلت للقتال في قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر 2023. وترفع الكتيبة شعاراً هو ليكن معسكركم مقدساً، وهذا اقتباس من التوراة، يفهمه جنود الكتيبة حرفياً بمعنى أنهم في مهمة مقدسة، وهذا يساهم في ثقافة تُشجِّع على العنف غير المقيد ضد السكان غير اليهود في الضفة الغربية، وغيرها من المناطق الفلسطينية.
يتمثل هذا العنف غير المقيد في عدة أشكال؛ حيث لا تتورع الكتيبة الحريدية عن ارتكاب كل ما هو وحشي وإجرامي تجاه الشعب الفلسطيني، فحسب منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية يش دين، فإن «كتيبة نيتسح يهودا، لديها أعلى معدل إدانة بين أي وحدة في الجيش الإسرائيلي بتهمة ارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين منذ عام 2010».
وحسب شهادات من جنود سابقين في نتساح يهودا، جاءت في تحقيق أجرته الـ CNN، وصفوا المعاملة الوحشية والعنيفة للفلسطينيين، مؤكدين أن القادة دعموا العنف بشكل كبير، وقال أحد الجنود: «لم نرَ في العرب والفلسطينيين أناساً لهم حقوق، لقد عاملناهم كمحتلين تجب إزالتهم»، كما أكد «أنهم يحصلون على تفويض مطلق؛ حيث يمكنهم أن يفعلوا ما يريدون تقريباً ضد الفلسطينيين».
وبعد انضمامه إلى الوحدة في سن الـ 19، يتذكر أنه سمع عن مكافأة الجنود على القتل؛ فيقول: «إذا قتلت إرهابياً، تحصل على أسبوعين إجازة كتعويض، وهي مكافأة جذابة للغاية لشخص يقضي وقتاً طويلاً في الجيش».
كما جاء في التحقيق نفسه شهادة أحد المبلغين عن مخالفات داخل كتيبة نتساح يهودا: «إن الجنود سوف يفعلون ما يتوقعه منهم قادتهم ويتبعون الأوامر، وبالتالي، إذا لم يفرض هؤلاء القادة عقوبات عليهم بسبب سلوكهم، فإنهم في الواقع يتسامحون مع سلوكهم». وأضاف أن «معظم القادة لا يهتمون (بالانتهاكات)، طالما أنها لم يتم تصويرها على شريط فيديو».
وفي حديث إلى أعضاء سابقين في الوحدة، ذكرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية أن المستوطنين المتطرفين بدأوا ينظرون إلى الوحدة باعتبارها كتيبة خاصة بهم ضد الفلسطينيين. وقال رافائيل بوبليل، وهو من قدامى المحاربين في الكتيبة: «يحب بعض الناس العمل بلطف والظهور بمظهر إنساني، لكن التوراة تأمر بأنه إذا جاء شخص ليقتلك، فانهض واقتله أولاً، وهذا ما نفعله». وأضاف بوبليل أن قوات الكتيبة متدينة، لذا فهم يضعون الحفاظ على الأرض في المقام الأول.
وهنا يشير أهرون بريجمان، عالم السياسة وخبير الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في كينجز كوليدج في لندن، إلى أنه على الرغم من أن نتساح يهودا جزء لا يتجزأ من جيش الاحتلال الإسرائيلي، فإنها «وحدة يجب أن يخجل منها كل جيش». كما وصفها بأنها نوع من مجموعة فاغنر على الطراز الإسرائيلي، وهي قوات سيئة السمعة، اتُّهمت بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم قتل واغتصاب ضد المدنيين.
هذه الانتهاكات يحفل بها تاريخ لواء كفير بأكمله، والذي تشكَّل بالأساس من الانتهاكات والقتل ضد الفلسطينيين. ونجد أن كتيبة نتساح يهودا التابعة لهذا اللواء كانت متورطة بشكل محدد ومستمر في العديد من حوادث العنف سيئة السمعة، وفي ذلك التعذيب، فضلاً عن سلوكيات غير لائقة أخرى.
على سبيل المثال، أطلق قناص من نتساح يهودا النار على فلسطيني أعزل في عام 2015، أثناء احتجاج في منطقة سلواد بالقرب من رام الله. كما قام العديد من الجنود بتعذيب المعتقلين الفلسطينيين باستخدام الصدمات الكهربائية في نهاية عام 2018. وقال الجيش الإسرائيلي في بيان له إن جنوداً خمسة من كتيبة نتساح يهودا اتُّهموا «بضرب الفلسطينيين بالصفعات واللكمات والهراوات، وهم مقيدون ومعصوبو الأعين، مما تسبب لهم في إصابات خطيرة».
وبحسب لائحة الاتهام ضد الجنود، فإنهم قاموا أثناء الاعتداء بإزالة العصابة عن عيني شاب حتى يتمكن من رؤية كيفية ضربهم لوالده، وقام أحد الجنود بتصوير العنف بهاتفه المحمول، بينما كان الجنود الآخرون يهتفون بفرح وفخر لبعضهم البعض كل هذا أمام عدسة الكاميرا. كما تم تصوير بعض الجنود وهم يعتدون على مواطنين بدو في محطة وقود بالقرب من رهط في النقب في أكتوبر عام 2019.
ثم جاء الحدث الذي كان له دوي قوي في الأوساط الدولية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي يناير 2022، قُتل المسن الفلسطيني ذو الثمانين عاماً، عمر أسعد، بعدما تم الاعتداء عليه بالضرب ثم تكبيله واحتجازه، وهو الاعتداء الذي انتهى بإصابته بنوبة قلبية قاتلة، ما وُصف بأنه إعدام ميداني.
هنا فقط تحركت الولايات المتحدة وطلبت التحقيق في مقتل أسعد لأنه يحمل الجنسية الأمريكية، وخلص تحقيق جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى أن الحادث نتج عن «فشل أخلاقي وسوء اتخاذ القرار من جانب الجنود».
وفي أعقاب التحقيق الأولي قال جيش الاحتلال الإسرائيلي إنه سيوبخ قائد نتساح يهودا، المقدم ماتي شيفاح، ولكن لم يتم توجيه اتهامات جنائية للجنود؛ لأن الجيش قال إنه لم يتم العثور على صلة سببية بين وفاة أسعد وسلوكهم.
يحاول جيش الاحتلال الإسرائيلي التسويق لحجة أن الانتهاكات التي حدثت من قِبل الكتيبة هي خطأ عدد قليل من التفاح الفاسد، حتى يبرر للولايات المتحدة، وهي بصدد فرض عقوبات على الكتيبة نتيجة الانتهاكات الجسيمة التي تقوم بها الكتيبة بين الحين والآخر، وهي حجة مألوفة بالنسبة لإسرائيل، تُشهِرها كلما زاد الضغط عليها، للتنصل من محاولة محاسبتها.
وبهذا السجل الحافل من الانتهاكات قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بنشر جنود نتساح يهودا في غزة، حيث كانوا يقاتلون منذ بداية الحرب. ولم يكتفِ جيش الاحتلال بعدم معاقبة المتهمين بانتهاكات ضد الفلسطينيين بل إنه قام بترقية عدد منهم في مناصب قيادية داخل اللواء المنتمين إليه؛ حيث تمت ترقية شيفاح، قائد نتساح يهودا، إلى منصب نائب قائد لواء كفير.
كما كشف تحقيق أجرته شبكة CNN أن قادة سابقين لكتيبة نتساح يهودا، تمت ترقيتهم إلى مناصب عليا في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهم الآن نشطون في تدريب القوات البرية الإسرائيلية التي تعمل في إدارة العمليات في غزة.
ذلك الأمر أثار استياء عدد من المسئولين الأمريكيين في إدارة بادين، الذين روأوا أن ترقية أعضاء من «نتساح يهودا» في مناصب قيادية في الجيش الإسرائيلي من شأنه أن ينقل نفس ثقافة العنف واللاأخلاقية التي يتسم بها أعضاء الكتيبة، وربما أكثر ما يقلق هؤلاء المسئولين أنهم يخشون من انتقال هذا السلوك السيئ إلى باقي وحدات الجيش، ومن ثم ربما يتعرضون لفرض العقوبات، ثم الحرمان من المساعدات الأمريكية.
وكما كان متوقعاً، فلم تدخر كتيبة نتساح يهودا جهودها وطريقتها غير الأخلاقية في حرب غزة؛ ففي 16 أبريل 2024، وتحت قيادة القائد المقدم شلومو شيران، شاركت الكتيبة في عملية في مدرسة مهدية الشوا» في بيت حانون، شمال قطاع غزة، حيث كان هناك آلاف النازحين الفلسطينيين الذين يحتمون بها. فقامت الكتيبة بإطلاق الناري بشكل عشوائي ومفرط تجاه الفلسطينيين في المدرسة، وأجبروا الرجال على خلع ملابسهم قبل اعتقالهم.
وقد أظهرت رسالة صوتية من فلسطينيين سجلوها داخل المدرسة أثناء وقوع الهجوم، وحصلت عليها شبكة CNN، حالة من الذعر بينما ظل المدنيون محاصرين بالداخل وقد دوت أصوات إطلاق النار. وأظهر مقطع فيديو نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي رجلاً فلسطينياً مجبراً على خلع ملابسه أمام دبابة تابعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
في خطوة وُصفت بأنها غير مسبوقة قررت الولايات المتحدة البحث والتقصي عن الانتهاكات التي ارتكبتها كتيبة نتساح يهودا سيئة السمعة، لترى ما إذا كانت سوف تفرض عليها عقوبات حددها قانون ليهي، وهو القانون الذي صدر في عام 1997 وينص على عدم تقديم أي مساعدات أجنبية أو برامج تدريب عسكرية أمريكية للوحدات الأمنية والعسكرية والشرطية الأجنبية التي ثبت ارتكابها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وفي ظل أن إسرائيل هي أكبر متلقٍّ للمساعدات العسكرية الأمريكية، إذ تتلقى نحو 8,3 مليار دولار من المساعدات الأمنية السنوية، لاقت خطة فرض العقوبات على الوحدة إدانة شديدة من قبل القيادة الإسرائيلية؛ حيث دعا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت ووزراء آخرون في الحكومة، الولايات المتحدة، علناً، إلى عدم المضي قدماً في العقوبات.
وقد وصف نتنياهو هذه الخطوة المحتملة بأنها «قمة السخافة والتدني الأخلاقي». كما أدلى زعيم المعارضة، يائير لابيد، بتصريحات علنية حادة، انتقد فيها بشدة نية الإدارة الأمريكية وطالبها بعدم المضي قدماً في فرض أي عقوبات على الكتيبة الإسرائيلية. فيما ناقش الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، هذا الموضوع الشائك مع نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس. وتحدث وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت حول نفس القضية مع وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، لمحاولة الضغط على الإدارة الأمريكية لثنيها عن قرارها.
لذلك في أواخر أبريل 2024، قال بلينكين في رسالة إلى رئيس مجلس النواب، مايك جونسون، إن الإدارة ستؤجل فرض العقوبات بينما تراجع المعلومات الجديدة التي قدمتها إسرائيل. لتُقرر الولايات المتحدة في نهاية الأمر عدم فرض عقوبات على كتيبة نتساح يهودا، وإنهاء التحقيق.
وبهذه الخطوة التي تستثني فيها الولايات المتحدة جيش الاحتلال الإسرائيلي من أي محاسبة على انتهاكاته وارتكاب فظائع ضد الشعب الفلسطيني، تكون قد أطلقت يده لاستباحة كل ما هو فلسطيني، وهنا يجد جوش بول، المسئول في وزارة الخارجية الأمريكية، أن الولايات المتحدة، من خلال غض الطرف والفشل في اتخاذ إجراءات ضد نتساح يهودا والوحدات الأخرى في الماضي، ساهمت في استمرار ثقافة الإفلات من العقاب. وأكد بول أن حقيقة أن الولايات المتحدة لم تفرض عقوبات على أي وحدة عسكرية إسرائيلية تُظهِر «الافتقار إلى الإرادة السياسية والشجاعة الأخلاقية لمحاسبة إسرائيل».