هناك، حيث الضفة الغربية المحتلة، لا أحد ينام كثيراً؛ فعند حلول الليل لا يستطيع الفلسطينيون الخلود إلى النوم كما يفعل كل البشر. ينقل الأهالي فراشهم إلى الخارج، على أمل أن يسهل عليهم سماع أصوات المداهمة عندما تأتي.
هناك يظل الآباء مستيقظين يستمعون إلى المستوطنين، على أمل حماية أبنائهم. هناك يخشى المزارعون زراعة محاصيلهم أو إخراج قطعانهم للتجول. هناك قد يتوقف بعض السكان عن الخروج تماماً، ويقتاتون على أي شيء في خزائن منزلهم. هناك حيث الرعب في كل مكان. هناك حيث اللاأمان.
هناك حيث عصابات المستوطنين الإسرائيليين، التي تعتبر وسيلة من وسائل الاحتلال لتصفية وتفريغ الشعب الفلسطيني من أراضيه؛ ففي الواقع لم يقم الكيان المحتل إلا على أكتاف عصاباته، فمنذ أن تشكَّلت العصابات الإسرائيلية منذ مطلع عشرينيات القرن العشرين، وهي تعد الدعامة الرئيسية لإقامة إسرائيل، حتى إن أغلب هذه العصابات تحول بعد ذلك ليكون نواة جيشها.
وفي الوقت الحالي ظهرت عدة عصابات، تستكمل إرث آبائهم من قتل ونهب وترويع للفلسطينيين، حتى يتمكنوا من إقامة دولة يهودية على ما يزعمون أنه أرض إسرائيل الكبرى. وتعد عصابة شبيبة التلال من أخطر تلك العصابات الإسرائيلية في وقتنا الحالي.
شبيبة التلال هي مجموعات شبابية من المستوطنين تتراوح أعمارهم بين 16 و25 عاماً، وتعود جذورها إلى أواخر التسعينيات وأوائل الألفية الثالثة، وقد ظهر نشاطهم بعد عقد اتفاقية أوسلو، حينما امتنعت إسرائيل إلى حد ما عن بناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية، وركزت على التوسع داخل المستوطنات القائمة وإقامة أحياء جديدة داخلها تحت ذريعة النمو الطبيعي للمستوطنات.
الأمر الذي أثار غضب التيارات الصهيونية الدينية، والتي خشيت من احتمالية الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية يوماً ما، ما أدى لتصاعد النشاط الاستيطاني بمبادرة من الجيل الشاب من المستوطنين، فخرج هؤلاء الفتية لإقامة بؤر جديدة باعتبارها أبرز استراتيجياتهم لفرض الأمر الواقع وتثبيت الاستيطان. ولأن هؤلاء كانوا يتجهون عادة لتلال الضفة الغربية، فقد أطلق الإعلام الإسرائيلي عليهم شبيبة التلال.
لم يتم تسمية هذه المجموعة بذلك الاسم إلا في أواخر عام 1998، عندما دعا وزير الدفاع الإسرائيلي حينها، أرئيل شارون، شباب المستوطنين إلى الاستيلاء على قمم التلال، وذلك سعياً منه لإحباط محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا سيما تنفيذ اتفاقية واي ريفر التي أبرمها منافسه السياسي بنيامين نتنياهو مع السلطة الفلسطينية.
حث شارون المستوطنين على احتلال التلال في الضفة الغربية بهدف إحباط أي إمكانية للانسحاب منها، وذلك من خلال فرض الأمر الواقع، قائلاً: «يتوجب على كل فرد التحرك والإسراع للاستيلاء على أكبر قدر ممكن من التلال من أجل توسيع المستوطنات. كل ما نستولي عليه سيكون في أيدينا، وكل ما لا ننتزعه سيكون لهم. [يقصد الفلسطينيين]».
وقد وصل تعداد شبيبة التلال إلى الآلاف، بجانب آلاف المتعاطفين معهم، وهم ينتظمون على شكل خلايا صغيرة، وتعود جذورهم الأيديولوجية إلى تيار الصهيونية الدينية، ولديهم إيمان قاطع بالسيادة المطلقة لليهود على فلسطين، والحلم بإقامة مملكة داود عليها، وفي اعتقادهم أن هذا لن يتم إلا بتعزيز وجودهم على الأرض وفرضهم للأمر واقع، من خلال مصادرة الأراضي الفلسطينية والاستيطان، واستخدام العنف حتى «يساعدهم الرب في الخلاص»، على حسب تعبيرهم.
يقف هاناميل دورفمان، أمام الكاميرا وهو مستوطن إسرائيلي من شبيبة التلال، ليشرح بكل وضوح كيف ستستمر البؤر الاستيطانية على قمم التلال وتنتشر في كل أنحاء الضفة الغربية، ويتحدث بكل صراحة عن أن الإسرائيليين سيعبرون نهر الأردن ويبدءُون في البناء على الجانب الآخر. ومع تذكيره بأن هناك دولة أخرى ذات سيادة وراء النهر، وهي الأردن، يقول دورفمان بنظرة ثابتة: «كل شيء مؤقت».
جاء هذا التصريح المدهش في أحد المشاهد الأخيرة من فيلم «المستوطنون»، وهو فيلم وثائقي للمخرج الإسرائيلي الأمريكي شيمون دوتان، والذي يسلط الضوء فيه على حركة شبيبة التلال.
نجد أن معظم أعضاء شبيبة التلال، يعيشون في بؤر استيطانية وخيام على قمم جبال الضفة، ويسكنون في مزارع ومبانٍ متنقلة ضمن مناطق مفتوحة خارج المستوطنات وفوق أراضٍ يملكها الفلسطينيون. وهم يعتبرون الفلسطينيين دخلاء ويجب طردهم من البلاد للحفاظ على يهودية الدولة، ويعدُّ كتاب تورات هميلخ أو شريعة الملك للحاخام يوسف شبيرا، من أبرز الكتب التي تبيح لهم سلوكهم الاستيطاني، فهذا الكتاب يحمل الكثير من المعاني والتصريحات والفتاوى الحاخامية اليهودية التي تُشرِّع وتُبيح قتل الأغيار [أي الآخرين من غير اليهود]، بدم بارد.
تركَّز نشاط شبيبة التلال على مسارين أساسيين؛ الأول هو الاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم ومساجدهم وكنائسهم ومزروعاتهم في الضفة والقدس وأراضي 1948؛ والثاني هو سرقة الأراضي لإقامة البؤر الاستيطانية.
ونجد أن للاحتلال هدفاً استراتيجياً لإقامة هذه البؤر الاستيطانية، فلم يكن اختيار التلال كمساحات للاستيطان منفصلاً عن منطق الاستيطان الذي حكم الأراضي المحتلة منذ عام 1967. فقد تجلى استيطان تلال الضفة الغربية لاعتبارات أمنية، وظَّفتها دولة الاحتلال في هندسة إحكامها للسيطرة على الأراضي المحتلة، ولتمزيق سلامة التواصل الجغرافي والاجتماعي للبلدات والمدن الفلسطينية.
تعد هذه البؤر الاستيطانية ذات أهمية فائقة لحكومة الاحتلال في حساباتها للسيطرة على أوسع مساحة ممكنة من الأرض بأقل عدد ممكن من الفلسطينيين، وقد تجاوز عدد هذه البؤر حتى وقت قريب نحو 254 بؤرة موزعة على محافظات الضفة الغربية، وفيها القدس.
وتقوم عدة جهات استيطانية بدعم الهجمات التي يقوم بها شبيبة التلال التي تقوم بدورها بإعداد وتنظيم مسبق، تاركين وراءهم شعارات تعبر عن أيديولوجيتهم ودوافعهم بتهجير الفلسطينيين، مثل الموت للعرب، وإما الطرد أو الموت.
وتعد منظمة أمانا الذراع الاستيطانية لحركة غوش إيمونيم من أبرز الجهات الاستيطانية الداعمة لشبيبة التلال، والتي تساهم في توفير مواد ومعدات البناء في البؤر، وقد عبر الرئيس التنفيذي لأمانا، زئيف حيفر، عن أهمية بناء البؤر الاستيطانية بقوله: «فيما يتعلق بنهب الأراضي الفلسطينية وتشجيع الترحيل، فإن هذه المزارع [البؤر الاستيطانية الزراعية] أكثر كفاءة من البناء في المستوطنات». ويقصد بذلك أن أسلوب بناء البؤر الاستيطانية أفضل لطرد الفلسطينيين من أسلوب الحكومة الرسمي من خلال البناء داخل المستوطنات القائمة.
في إحدى ليالي الشتاء في صحراء شمال يهودا (المنطقة الجبلية في جنوب فلسطين)، توقفت سيارة جيب عسكرية إسرائيلية بلا باب عند نار المخيم؛ حيث كان يوسف جلوي، وهو مواطن فلسطيني في إسرائيل من مدينة رهط البدوية، يغلي الشاي مع اثنين من أصدقائه الفلسطينيين. كان الجنود الذين خرجوا من السيارة الجيب يرتدون الزي العسكري، لكنهم بدوا كأنهم أعضاء في شبيبة التلال.
قال جلوي، سواء كانوا جنوداً أو مستوطنين، إن الرجال الذين يرتدون الزي العسكري بدأوا في الإساءة إليه وقد قيدوه بالأصفاد، ودفعوا رأسه إلى الحصى بباطن أحذيتهم، وفي كل مرة يسقط يضربونه ويطالبونه بالوقوف. ثم صوبوا مسدساً إلى رأسه وأخبروه أنهم سيقتلونه إذا تجرأ على العودة إلى الصحراء.
كان هؤلاء المعتدون عدداً من شبيبة التلال الذين يعملون داخل وحدة تابعة للجيش الإسرائيلي؛ فقد كشف تحقيق أجرته مجلة +972 عن إنشاء الجيش الإسرائيلي وحدة تسمى حدود الصحراء خصيصى للمستوطنين الشباب على قمم التلال، الذين يُشكِّلون الغالبية العظمى من جنود الوحدة. وقد تأسست هذه الوحدة عام 2020 وهي تابعة للواء وادي الأردن، وتتكون بشكل رئيسي من شباب التلال.
بحسب شهادة أحد المسئولين، فإن «هذه الوحدة فريدة جداً»، وقد قال المسئول إن بضع عشرات من الجنود يخدمون في منطقة الحدود الصحراوية، ما يُسمى بمواقع الرعي في المنطقة الشمالية من صحراء البحر الميت ووادي الأردن، والعديد منهم لديه تاريخ من العنف؛ حيث يقوم الجيش بتجنيد شباب مستوطني التلال المعروفين بعنفهم تجاه الفلسطينيين للخدمة في وحدة تعمل ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في نفس المنطقة.
ونجد أن جنود حدود الصحراء يتدربون مع جنود من وحدة الحريديم نتساح يهودا، بعد ذلك، يصلون إلى موقع الوحدة الخاص، والذي يقع بالقرب من البحر الميت. وقد قرر الجيش نقل الجزء الأكبر من عمليات الوحدة من صحراء البحر الميت إلى غور الأردن. وقد تم اتخاذ القرار بعد أن تلقى المسئولون العسكريون العديد من الشكاوى حول حوادث عنف وانتهاكات ضد الفلسطينيين. ويقول الفلسطينيون الذين يعيشون في الصحراء إن جنود الوحدة ما زالوا يقومون بدوريات في المنطقة.
لم تكن الحادثة التي تعرض لها جلوي هي الأولى من نوعها؛ فهناك مئات الشهادات من الفلسطينيين الذين تعرضوا لمثل هذه الإساءات والاعتداءات من قبل شبيبة التلال، كل هذا بتأييد واضح من الحكومة الإسرائيلية، التي لم تكتفِ بغض الطرف عما يحدث للفلسطينيين، وإنما تدعمه بكل الأشكال؛ فمنذ نشوء هذه المجموعات نجد أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية احتضنتهم، بل تواطأت معهم، ليقوموا بتنفيذ مثل هذه الاعتداءات على الفلسطينيين، كما أنها تساعدهم وترشدهم إلى كيفية التملص والتحايل على التحقيقات.
أظهرت منظمة يش دين الإسرائيلية (أي منظمة هناك قانون)، ما يثبت أن 93.7% من ملفات التحقيق التي فتحتها الشرطة الإسرائيلية في الضفة الغربية ضد مستوطنين قاموا باعتداءات على الفلسطينيين في الأعوام من 2005 إلى 2023، أُغلقت دون تقديم لائحة اتهام، وذلك بحجة أن المتهم غير معروف، أو فقدان الشرطة الإسرائيلية الملف، أو عدم وجود ذنب جنائي. وفي حالات أخرى، خرج العديد منهم بحجة وجود اضطرابات نفسية.
في يوم 31 يوليو عام 2015، في الساعة الثانية فجراً في قرية دوما جنوب نابلس، كان الرضيع علي دوابشة (18 شهراً) ووالدته ووالده وأخوه أحمد يغطُّون في نوم عميق، ساكنين آمنين، وإذا بهم يستيقظون في هلع من هول ما حدث في منزلهم، الذي أصبح أثراً بعد عين، فقد قام عدد من المستوطنين من شبيبة التلال بإلقاء زجاجات حارقة داخل منزل عائلة دوابشة، وعند وصف أحد أفراد عائلة دوابشة لما حدث، يقول:
«حاولت زوجة أخي جاهدة الخروج من المنزل حاملة بيديها نجلها، إلا أنها تفاجأت بمجموعة من المستوطنين يحاصرون المنزل، وسكبوا عليهما مواد مشتعلة بنية قتلهما، بينما شقيقي علي وولده أحمد بقيا داخل المنزل إلى أن أصيب أحمد بجروح بالغة الخطورة، بينما حُرق شقيقي وفقد ما يقارب نصف جسده نتيجة اشتعال النيران فيه».
انتهت هذه المأساة الكارثية باحتراق الطفل الرضيع ووالده ووالدته ولم ينجُ سوى أحمد الذي ما زال يعاني من الآثار الجسدية والنفسية لهذا الحادث المروع، وما زالت أيضاً مثل هذه الحوادث وغيرها تحدث من قِبل المستوطنين من شبيبة التلال، فهم لم يجدوا من يردعهم، بل على العكس وجدوا من يشجعهم على أفعالهم هذه، كما ذكرنا من قبل.
كانت هذه العملية من أشهر العمليات التي قام بها عناصر من شبيبة التلال تجاه الفلسطينيين، وتوالت بعدها العديد من العمليات الإرهابية الإجرامية، ويطلق على مثل هذه العمليات ما يُعرف باسم رحلات السبت، فهذا هو الاسم السري لحملات العنف التي يقوم بها أشخاص ملثمون ضد الفلسطينيين؛ حيث يقوم هؤلاء المستوطنون يوم السبت بعد انتهائهم من صلاة البزوغ بالخروج إلى القرى والاعتداء عليها، وفي معظم الحالات يعرف الجيش الإسرائيلي مسبقاً عن هذه الأفعال، ويصل إلى المكان، ولكن مجرد شاهد على الأحداث، ويرى المراسل العسكري في جريدة يديعوت أحرونوت، أليكس فيشمان، أن مثل هذه العمليات، هي ثمرة تعاون بين شبيبة التلال ومتطرفي المستوطنين في مستعمرة يتسهار.
ومنذ السابع من أكتوبر 2023، تضاعفت وتيرة هجمات شبيبة التلال على الفلسطينيين؛ حيث تستغل حركة الاستيطان المتطرفة الأزمة لتسريع التغيير الديموغرافي في جميع أنحاء المنطقة. فقد تنجح هذه الهجمات في تحقيق هدفها الذي أقرته الدولة، والمتمثل في تطهير مناطق واسعة من الضفة الغربية من سكانها الفلسطينيين، لتتمكن من التوسع في المستوطنات اليهودية. وقد تدهور الوضع أكثر في ظل الحرب؛ حيث قام المستوطنون بتهجير ما لا يقل عن سكان 16 قرية فلسطينية بأكملها بالقوة منذ 7 أكتوبر.
لذلك طالب ناشطون أمريكيون إدارة الرئيس جو بايدن، بإدراج مجموعة شبيبة التلال الاستيطانية المدعومة من الحكومة الإسرائيلية، ضمن المنظمات الإرهابية، حسب التصنيف الأمريكي. وجاء ذلك في ظل تصاعد جرائم المنظمة الإرهابية والعصابات الاستيطانية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وبناء البؤر الاستيطانية على التلال والجبال في الضفة الغربية المحتلة، واستهداف الفلسطينيين بإطلاق الرصاص الحي، لا سيما بعد ما حصل في برقة وترمسعيا وحوارة من قتل وإصابة العشرات من الفلسطينيين.
وبالفعل قامت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وأستراليا وكندا بفرض عقوبات على بعض أعضاء من شبيبة التلال. وقد نصت العقوبات على حظر أي تعاملات مع الأفراد والكيانات المشمولين بها، ومنعهم من دخول أراضيها.
ومن الواضح أن مثل هذه العقوبات لن تجدي نفعاً، فهي ليست بالقوة الكافية لتردع مثل هؤلاء، فالواقع أن شبيبة التلال وغيرها من العصابات الاستيطانية الإسرائيلية، لا يبدو إلا أنهم ماضون قُدماً في مخططاتهم من طرد وسلب وعمليات إرهاب ضد الشعب الفلسطيني، ومزيد من بناء المستوطنات، فهم لا يتورعون عن فعل أي شيء في سبيل تحقيق أهدافهم؛ والتي يعتبرونها جزءاً من حرب يهودية مقدسة.