«ما رأيك في نظرية الوصم عند دوركايم؟
ما هي نظرية الوصم؟
دوركايم يقول: إن كل أشكال الانحراف الفردي هي نتيجة للقمع الذي تمارسه السلطة على المجتمع.
هل يقصد أن الانحراف صورة من صور الاعتراض والثورة، هل كان أناركياً؟
أياً كان ما يقصده، ولكنه كان أول من أشار إلى أن فساد المجتمع ينعكس على فساد الفرد».
في ما سبق كان تفريغاً -بتصرف- لمقطع من حوار في افتتاحية مسلسل «صائد العقول» للمخرج ديفيد فنشر، الذي كان محاولته الأكثر تكاملاً في فهم كيف يعمل العقل الإجرامي؟ ولكن ما أعتقده أن هناك خطأ ما هنا، ففي ظني أن سيجموند فرويد هو أول من أشار لهذا ولكن بطريقة غير مباشرة، وذلك في كتابه الأخير «موسى والتوحيد»، عندما طبق قواعد علم النفس الفردي على المجتمع بأكمله، وعامل المجتمع كأنه فرد له جسد ومشاعر وتاريخ إجرامي.
افترض فرويد فرضية مثيرة للغاية، وهي أولاً أن موسى مصري وليس يهودياً، وثانياً أنه كان شديد العنف والسلطوية وأن الشعب اليهودي في لحظة ما ضاق به وقتله، وبعد ذلك تحت وطأة الذنب –عقدة قتل الأب– اخترع الوجدان الجمعي للشعب اليهودي شخصية أخرى تمثل موسى، ولكنه عكس الأول تماماً، فهو هنا رؤوف ومتفهم. هذا النسيان الهستيري للجريمة الجماعية الأولى كان هو السبيل الوحيد لتجاوز قتل الأب، وهنا نجد تطبيقاً مباشراً لقواعد التحليل النفسي الفردي على الجماعي. ولكن كما قال فرويد نفسه في كتابه، إننا لا نستطيع وصف هذه المحاولة بأنها علمية بأي شكل ولكنها للفن أقرب. ربما لهذا السبب اكتسب الكتاب سمعته السيئة وأُقصي عن عمد عن مجمل أعمال فرويد ولم ينل الشهرة أو الاهتمام الكافي.
نستطيع تطبيق تلك النظرية المثيرة –أياً كان صاحبها– على عدة أمثلة لنفهم كيف تكبر وتشيخ المجتمعات. ففي فترات معينة تثب هذه النظرية للوجهة لتفسر شيئاً كان يبدو غريباً لأول وهلة، ولكن عند وضعه في نصابه مع النظرية نستطيع أن نفهم.
في منتصف تسعينيات القرن الماضي، أنتج وحيد حامد فيلم «طيور الظلام»، وعكس بقية أفلامه مع الثنائي عادل إمام والمخرج شريف عرفة أتى هذا العمل بإيقاع ورتم مختلف للغاية عن البقية. ونستطيع أن نقول إنه أكثرها تشاؤماً، بل نستطيع أن نقول إن البطل هنا لا يملك صراعاً من الأساس، إنه مجرد شخص منتفع مما يحدث أمامه، وعلى درجة عالية من الذكاء، والأهم أنه يظن دائماً أنه أذكى ممن حوله. هذا الإحساس مستحيل أن يشعر به إلا بسبب واحد، وهو أنه يظن أنه يفهم هذا المجتمع أفضل من أي شخص غيره، وهو متأكد من هذا. ولكن يبقى سؤال: هل من الممكن صناعة فيلم من دون صراع من الأساس، من أين ستأتي الدراما، هل الفيلم خال من الدراما؟
نحن هنا نبدأ مع شخصين تجاوزا سؤال البطولة منذ أمد، السؤال لم يعد هل سنفسد- بفتح النون- أم لا، بل السؤال الآن هو كيف سنفسد؟ -بفتح النون- الصراع الأخلاقي حدث في زمن سابق على زمن الفيلم لم نشاهده، ولكن يبقى السؤال هو لماذا اختار الأستاذ وحيد حامد هذا الاختيار؟
للإجابة عن هذا السؤال هناك عدة نقاط نكتشفها وقتها. الأولى لها علاقة بالعالم في هذا الوقت. بعد صدور فيلم «Z» للمخرج اليوناني الفرنسي كوستا جرافيس، حدث انقلاب في العالم كله على النظرة القديمة للأفلام السياسية. نحن أمام فيلم سياسي بإيقاع بوليسي لاهث، عن جريمة قتل، حلها سيورط كثيراً من رجال النظام. هذا الفيلم أثر بشدة في المخرجين وقتها، وصناع الأفلام المصريون لم يكونوا استثناءً. نرى مشهد تحية لهذا الفيلم في فيلم «ضد الحكومة» للمخرج عاطف الطيب، عندما يأخذ البطل حبيبته للسينما لمشاهدة فيلم «Z» قائلاً لها: ده أول فيلم سياسي.. ده قالب الدنيا.
تأثير هذا الفيلم على فيلم «طيور الظلام» يكمن في الإيقاع اللاهث الوثاب الذي اتبعه شريف عرفة في إخراجه مشاهد الحوار الطويل في الفيلم، كأن قطعات المونتاج تتم هنا لفيلم أكشن أو بوليسي. هذا الإيقاع الوثاب يذكرنا بما حدث بدرجة أكثر تطوراً في أفلام أخرى مثل «الشبكة الاجتماعية» وما فعله المخرج ديفيد فنشر في حوار أرون سوركين ونصه.
السبب الآخر يكمن أن هذا الفيلم ينتمي لنوعية التعليق السياسي. نحن نرى أحداثاً على الشاشة وخواطر للشخصيات كأنها تعليقات في غاية الذكاء على مراحل انزلاق المجتمع بالكامل في هوة الفساد. هذه النوعية تتميز بها السينما الفرنسية وظاهرة في أفلام كوستا جرافيس وميلفيل وأيضاً عند جان لوك جودار ولكن بصيغة تجريبية مجنونة.
السبب الأخير والأهم هو هذه اللحظة من عمر البلد. مصر وقتها في عهد مبارك، تبدو بلداً نسيت مجدها. بعد العهد الذهبي الناصري جاء العهد الساداتي، ليأخذ قرارات حاسمة حوَّلت المجتمع المصري بصورة جذرية، أشياء مثل سياسات الانفتاح، والهجرة الخليجية، ونشر الوهابية.
ليأتي عهد مبارك خالياً من الأسئلة، هو عهد استمرار لما قبله، وتوصيل البار للنهاية في كل المحاور التي بدأها السادات، الوهابية، والانفتاح، والوليد الجديد وهو الفساد. لذلك بدأ وحيد حامد الفيلم بعد انتهاء الصراع الأصلي، لأن البلد في هذا الوقت كانت بلا صراع، السؤال الوحيد الذي يسأله الشاب المتخرج حديثاً، لن يكون له علاقة بمصلحة البلد، مصر لن توجد في هذا السؤال، ولا المجتمع، ولا الناس. السؤال الذي سيطرحه على نفسه هو: كيف سأبدأ رحلة تسلقي؟ وعليه... كيف سأبدأ الفساد؟
تبقى شخصية محسن التي أداها الممثل أحمد راتب، هي لب الفيلم بالكامل، وهي في لحظة ما تذكر الأبطال بشيء ما، شيء قديم. في هذه الشخصية يرثي وحيد حامد الطبقة المتوسطة التي شكلت المجتمع في أزهي فتراته من الثلاثينيات إلى منتصف الستينيات. الطبقة المتوسطة هي المجتمع الحقيقي، لأن لها غالبية، والأهم أن عندها يحدث تحقق كل قيم المجتمع وإرثه التاريخي والديني والقيمي. انهيار هذه الطبقة يشير إلى انهيار البلد الحقيقية.
لذلك مشاهد عادل إمام مع أحمد راتب تم إخراجها بإيقاع نوستالجي، كأنه تذكر لعصر البراءة، تذكر للعصر الذهبي للطبقة المتوسطة. البطل فتحي نوفل -عادل إمام بلا صراع حالي، ولكن من وقت لآخر يتذكر البراءة في مصدرها، يتذكر فترة المراهقة عندما يشاهد مجموعة من الشباب يلعبون الكرة أمام مكتبه، يتذكر طفولته عندما يذهب لوالديه، هو صراع بدائي، يمر به كل إنسان، حنين لفترة الطفولة التي لم تحمل أبداً أي أسئلة أخلاقية محرجة.
لذلك كان هم البطل هو إنقاذ صديقه الذي لا يزال متمسكاً بمبادئه، يريد لهذا الشخص أن ينجح، يريده أن يحقق أحلامه ويطمئن على أطفاله في هذا العصر دون أن يبيع نفسه. هو يريد هذا لأنه لا يريد إحراق كل شيء، يريد –حتى في قمة فساده– أن يترك باباً خلفياً مفتوحاً، يسمح بالعودة، والبداية الطاهرة مرة أخرى. لذلك هو في مساعدته لصديقه هو في الحقيقة يساعد نفسه، لأنه إذا ذهب صديقه مع رياح الفساد، فلن يحتمل هذه الحياة.
الحياة تستحق أن تعاش وأن نقاتل فيها، طالما كان فيها مثل عليا، وأشخاص -مثل شخصية محسن- يتجلون بقوة وعزة، ويبدون أكبر من البشر العاديين. ودون هذه النوعية من الشخصيات... ستقتل البشرية ذاتها.
في النهاية، نرجع لتساؤلنا في البدء: كيف يؤثر المجتمع على الفرد، وكيف يؤثر الفرد في المجتمع، هل نحن نعلم بالفعل طبيعة العلاقة بين الإثنين أم هي أكثر تعقيداً، وحيوية، ولها تاريخ أسطوري، يتمثل في اللاوعي الجمعي الذي يرثه الفرد؟ إن الأفراد هم صورة مجتمعاتهم، ومنتجها الحالي، في كل مجتمع تستطيع أن تعرف كثيراً من خلال معرفة آلهته، وآلهة ذلك العصر كانت فتحي نوفل وعلي الزناتي، ومن خلالهما ومن خلال صراعاتهما نستطيع أن نفهم إلى أين سيتجه هذا المجتمع في المستقبل، وهو ما نعيشه الآن، ولكن تبقى الشكوك دائماً تحوم حول مستقبل صديقهم محسن.