فن

الغرفة المجاورة: حكاية «ألمودفارية» تحصد أسد فينيسيا الذهبي

مراجعة لفيلم «الغرفة المجاورة» الحائز على جائزة الأسد الذهبي في الدورة الـ81 لمهرجان فينيسيا السينمائي، والذي يتوقع أن يحقق نجاحاً تجارياً كبيراً.

future مشهد من فيلم «الغرفة المجاورة»

في فيلمه الأحدث «الغرفة المجاورة»، والحائز مؤخراً على جائزة الأسد الذهبي في الدورة الـ81 لمهرجان فينيسيا، يعود المخرج الإسباني بيدرو المودوفار بفيلم يحكي قصة إنجريد ومارثا، الصديقتين والزميلتين في شبابهما، واللتين لم تلتقيا منذ زمن طويل، لكن القدر يجمعهما مرة أخرى في خريف أعمارهما. مارثا صحفية تغطي الحروب، وإنجريد كاتبة روايات ذاتية. ورغم البعد الطويل بينهما، تشعر كل منهما بالألفة عند رؤية الأخرى.

ما الذي يجمعهما بعد كل هذا الزمن؟ مرض خبيث ألمَّ بمارثا جعلها تفكر في إنهاء حياتها، لكنها لا تعلم متى بالضبط. لذا، تود أن ترافقها صديقتها إنجريد في رحلتها الأخيرة قبل الموت. تتردد إنجريد قليلاً في البداية، لكنها توافق في النهاية على مرافقة صديقتها إلى منزل ريفي لمدة شهر، على الرغم من خوفها الشديد من الموت، وذلك بدافع محبتها العميقة لصديقتها.

أحمر وأخضر وما بينهما

مشهد من فيلم: «الغرفة المجاورة»

في تلك الرحلة وفي ذلك البيت المعزول، يجلسان على شرفة المنزل حيث يوجد كرسيان طويلان، أحدهما لونه أحمر والآخر أخضر. تجلس مارثا على الأخضر، وإنجريد على الأحمر. تعبر ألوان الكراسي عن جوهر كل شخصية؛ فبينما تتشبث إنجريد بالحياة، تتصالح مارثا مع الزمن وتقبل بأن لكل شيء نهاية. تدور بينهما عديد من النقاشات حول ماضيهما، والاختيارات التي دفعت بهما إلى ما هما عليه الآن. تلك الحوارات تبدو كجلسة تصالح طويلة، خالية من الأحكام، ومليئة بالمشاعر العميقة والقبول المتبادل.

قد يذكر فيلم «ألمودوفار» الجديد بتحفة بيرجمان الخالدة «بيرسونا» التي اقتبستها السينما مرات ومرات. فالشخصيتان في الفيلم تبدوان كوجهين لعملة واحدة، تعبران عن ثنائية الإنسان وازدواجيته. إذا ما تأملنا الشخصيتين، سنجد أنهما كقطعتي أحجية تكمل كل منهما الأخرى؛ مارثا تغطي الحروب وتمثل أقسى أهوال العالم، بينما تنغمس إنجريد في ذاتها من خلال الكتابة. مارثا تبدو كشخص يسعى إلى اللذات المباشرة، فيما تبحث إنجريد عن معانٍ أعمق لحياتها. يضاف إلى ذلك تداخل الذكورة والأنوثة الذي يجسده اختيار الممثلات. 

اختار «ألمودوفار» لتجسيد شخصية مارثا تيلدا سوينتون، ذات الوجه الحاد و«الأندروجيني» (شكل يمزج بين الذكورة والأنوثة)، بطولها الفارع وشعرها القصير بتصفيفته الإنجليزية. بينما على الجانب الآخر، جوليان مور تجسد شخصية إنجريد، وهي رمز للأنوثة التقليدية بشكل واضح. كأن كلتا الشخصيتين تحمل بداخلها توازناً بين الذكورة والأنوثة، وهو سؤال لطالما شغل بيدرو ألمودوبار شخصياً. مما يدفعنا للتفكير: هل أراد ألمودوفار تجسيد ما يدور في داخله جسدياً وفكرياً عبر امرأتين تعيشان في بيت معزول؟ إحداهما تواجه الموت، والأخرى تواجه الحياة واستمراريتها. ملاحظة أخرى مهمة هي أن جوليان مور أدت دوراً مغايراً تماماً لدورها في فيلم «مايو، ديسمبر» لتود هاينز العام الماضي، وقد نجحت بشكل باهر في إقناعنا في كلا الدورين.

أن تحكي ذات الحكاية بصوتك فتبدو مختلفة

الأسلوب عند ألمودوفار هو أبرز ما يميز الفيلم، ويؤكد أهمية الأسلوب في فن السينما، وأن الكتابة السينمائية تأتي بخليط من الأدوات غير الحكائية أيضاً. فبرغم أن الحبكة قد تشبه إلى حد ما فيلم «البحر بداخلي» لأليخاندرو آمينابار، إلا أن بيدرو لا يعتمد على أي نوع من المشاعر الميلودرامية. بدلاً من ذلك، يسرد الحكاية ببساطة بصرية، أو يمكن القول بأسلوب مينيمالي - Minimal. يعتمد ألمودوبار على الألوان، مواقع التصوير، وقطع الديكور لإضافة كثير من التفاصيل إلى القصة. مع مرور الوقت، تستمر ثنائية الأخضر والأحمر بشكل واضح في أزياء الشخصيتين، وتبدأ الألوان في التبادل بين مارثا وإنجريد، في تعبير عن الذوبان والتصالح بينهما. ورغم تلك البساطة في السرد، قد تجد دمعة أو اثنتين تنساب من عينيك وأنت تشاهد هذه القصة المؤثرة بشكل خفي. تؤثر القصة في داخلك دون ضجيج، وتجعلك تتساءل عن الحياة، الموت، الصداقة، الحب، الأمومة، والقبول للعالم كما هو.

ورغم تشابهات الفيلم وتقاطعاته مع أعمال كثيرة، مثل «بيرسونا» لبيرجمان، «طعم الكرز» لعباس كياروستامي، و«البحر بداخلي» لأليخاندرو آمينابار، إلا أن ألمودوبار بفضل أسلوبه البصري والسردي البعيد عن البكائية، يصنع فيلماً جديداً من قصة متكررة. علاوة على ذلك، فإن كون الفيلم ناطقاً بالإنجليزية ويعتمد على ممثلتين شهيرتين مثل تيلدا سوينتون وجوليان مور، يمثل تحدياً نجح المخرج الإسباني في اجتيازه، على الرغم من كثرة الحوار، وبفضل ذلك، يتوقع أن يحقق الفيلم نجاحاً تجارياً أكبر. 

إيجازاً، ينجح ألمودوفار في نسج فيلم «ألمودوفاري» آخر، يحصد به أسد فينيسيا الذهبي، ويضيف به إلى تاريخه وتاريخ السينما فيلماً غاية في الحساسية والدقة في فحص علاقة إنسانية ربما تعبر عن مكنون ما يدور بداخله وهو المشغول بالتداخل بين الحياة والموت، الخلق والهدم، الذكر والأنثى وكل تلك المساحات الرمادية المُلغزة عن الحياة التي ينجح بشكل هائل في استكشافها كما لم ينجح أحد من قبله. أسد ذهبي أتى بعد أسد آخر حصل عليه عن مجمل أعماله، ليذكرنا بأهمية واحد من أرق مخرجي السينما الإسبانية والعالمية عموماً.

# سينما # سينما عالمية # فن

فيلم Joker: Folie à Deux: حكاية تقلع بلا أجنحة
فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
فيكتور إيريس: العالم بقدم في الواقع وأخرى في الأحلام

فن