في ليلتين متتاليتين وسط قاعتين صغيرتي الحجم كاملتي العدد عرض فيلم «أبو زعبل 89» لمخرجه بسام مرتضى، تزاحم رواد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لحجز العرض الأول في المسرح الصغير بدار الأوبرا المصرية، ثم اتضح أن الحجز متاح لمن يحمل بطاقة صحفي فقط، امتلأت القاعة عن آخرها بحضور مخرج الفيلم وبعض من ظهروا به، ثم امتلأ العرض التالي في القاعة الصغرى بسينما الزمالك، خلق فيلم «أبو زعبل 89» زخماً قبل عرضه وحماساً لمشاهدته، خصوصاً بعد التحديد العددي والنوعي الذي صاحب عرضه في الغالب لاحتوائه تيمات سياسية أصبح من الصعب إذ لم يكن من المستحيل مناقشتها علناً، وزاد الحماس بعد خروج من نجحوا بأعجوبة في حضور العرض الأول معبرين عن تأثرهم وإعجابهم، «أبو زعبل 89» فيلم تسجيلي ذاتي ينطلق من الخاص إلى العام ثم إلى الأكثر خصوصية، يستخدم تقنيات تسجيلية تقليدية وغير تقليدية لغزل صورة لأسرة وبلد في لحظات محددة عبر الزمن، في محاولة لصانعه لفهم تاريخه الشخصي ومن خلاله تاريخ المكان الذي يعيش به.
يدور فيلم «أبو زعبل 89» عن محاولات مخرجه بسام مرتضى لاقتفاء ماضي أبيه (محمود مرتضى) السياسي، بشكل محدد فترة حبسه في سجن أبو زعبل في أغسطس من عام 1989، إثر كونه أحد المثقفين الموقعين على عريضة تدعم إضراب عمال مصنع الحديد والصلب في حلوان، واتهامه بالاشتراك في تنظيم شيوعي مع زملائه من المحتجزين، يمكن وصف «أبو زعبل 89» بالفيلم العائلي، فهو يقع في إطار منزلي، يتراوح مكانياً بين المساحات الداخلية في الغرف والمطابخ والشرف المنزلية، والمساحات الخارجية في شوارع القاهرة في الحدائق وعلى الكباري، ويدور في محاورات بين مرتضى ووالده ووالدته (فردوس بهنسي)، ومنها يتفرع لشخصيات أخرى من حياته الشخصية وشخصيات تملأ فجوات سرد التاريخ المظلم للسجن في 89.
محمود وبسام مرتضى من «أبو زعبل 89» (2024)
طيلة الفيلم يسعى مرتضى لمنطقة تاريخه وحاضره الشخصي من خلال سيرة أبيه في العمل العام، ومن خلاله تاريخ والدته من العمل العام والمنزلي، يفعل ذلك عن طريق مجموعة من ممارسات اقتفاء الأثر، عن طريق المساءلة المباشرة في مجموعة من الحوارات الحميمية والمؤداة أمام الكاميرا، في صيغة مقابلات توثيقية لكنها تأخذ شكل محادثات منزلية شخصية، تارة مع والده محاولاً جمع تاريخه الشفهي وتجربته في السجن وفي الحياة، وتارة مع والدته التي تضيف بعداً آخر مختلفاً وأكثر عمقاً وحميمية لحياة من هم حول المناضلين أو العاملين في الإطار السياسي العام، يمارس مرتضى نوعاً آخر أكثر حرفية من اقتفاء الأثر عن طريق وضع جسده ونفسه في أثر والده، وإعادة تمثيل الماضي في مقاطع مصورة بكاميرا تشبه الـ8 مللي تجعل الطفولة الشخصية مرئية وكأنها موثقة في وقتها من خلال عينه في المستقبل، وفي مقاطع أكثر سيولة يضع مرتضى نفسه أمام صور معروضة لسجن أبو زعبل، يواجهها بنظره ليصبح جزءاً منها، يقتفي حكايات والده جسدياً، ويعيد تمثيل ما عاشه، في محاولة للوصول إلى تجربة حسية توصله إلى التفهم والتواصل. تتنوع عملية الاقتفاء تلك من فردية إلى جماعية، فيتحرك كل من مرتضى ووالده في أماكن تحوي ذكريات تأسيسه لهما، ومن خلال اقتفاء الأثر الذاتي يتداخل معه الأثر الخيالي عن طريق السينما، يوازي مرتضى نفسه مع مقاطع أفلامه المفضلة لتصنع أرشيفاً مزدوجاً وممتداً، ذاتياً وعاماً.
لقطة من «أبو زعبل 89» (2024) من موقع Idfa
يضع الفيلم التجربة الذاتية وسط مجموعة من المدللات الثقافية المصرية، قصائد شعرية ومقاطع سينمائية وأغنيات سياسية وشعبية، مع الوقت نصبح أمام نقاط تاريخية سياسية/فنية تتواصل لتخلق معنى جديداً في الحاضر. تتنوع صيغ الأرشيف في الفيلم بين الشفهي عن طريق الحكايات المباشرة والبصري في الصور الشخصية والمعاد تخيلها، وينضم له نوع من الأرشيف الأدائي يوفره سيد رجب الذي سجن في الوقت نفسه مع محمود مرتضى، وكتب مونودراما مسرحية «رجل واحد» عن تجربته، يؤدي رجب مونولوجاً طويلاً ومروعاً عن تجربته في أبو زعبل وعن تجربة التنكيل والتعذيب، يوثقها الفيلم لتصبح شهادة درامية وذاتية، ضمن أرشيف شاسع لتجارب المصريين مع السجون، وتغذي الفيلم بغنى درامي يخرجه من أحادية الحكي الذاتي من داخل الأسرة والتجارب الشخصية، ويخرجه إلى سياق أوسع من جمع الشهادات ليكون رؤية مزدوجة من نبش تاريخ العائلة لنبش تاريخ المسجونين في المكان والزمان ذاته، يتوسع الفيلم لكنه لا يغفل حميميته المبدئية، فيركب مونتاجاً من أحداث عالمية متنوعة في عام 1989 تضع التجربة الشخصية في سياق أعم وأكثر تعقيداً.
الحركة والسكون
تتغير سردية الفيلم الأساسية عندما يتعمق مرتضى في مساءلة والدته، يتحول تركيز الفيلم من العمل السياسي إلى مساءلة الطبيعة المزدوجة للعناية، في حالة محمود مرتضى الأب فإن الاهتمام الرئيسي والعناية تتركز في الخارج، في العام أكثر من الخاص، في حقوق الآخرين والقتال من أجلها، لكن ذلك النبل العام لا يترجم في الحياة الأسرية، تتحدث الأم فردوس التي انخرطت كذلك في العمل العام عن زوجها الذي خرج من السجن ليقابلها ببرود برقة وتفهم وأسى في الوقت ذاته، ثم سافر بعد خروجه أشهراً متتالية لقضاء إجازة أوروبية حيث انخرط في علاقة حب أخرى، يصبح الفيلم من تلك النقطة عن توابع العمل السياسي، عن وحدة الأسرة بأشكالها المختلفة وعن توجيه الرعاية إلى الخارج دون اعتبار أن الوحدة المنزلية هي شكل من أشكال النضال اليومي، تطرح فردوس شكلاً موازياً للنضال الداخلي، لا يعتمد على الحراك العام بل على السكون والثبات.
تجعل حالة الحركة الدائمة تلك وتوابعها المروعة من سجن وتعذيب من الفيلم تجربة مشاهدة غرائبية، في سنوات بالغة السلبية ومنعدمة الحركة، تبدو الحراكات الشعبية تصور مستحيلاً من ماض سحيق، تظهر على الشاشة مقاطع من مجموعة حراكات متنوعة عبر السنوات، احتجاجات طلابية وشعبية من السبعينيات امتداداً إلى يناير 2011. تتضاد الحركات المستمرة على الشاشة مع الثبات الواقعي الحالي، لكنها تخلق كذلك صورة محددة جداً عن مصر وما يمكن تسميته الجماليات المصرية، يطلق وصف الأصالة المصرية أو باختصار «مصري» على كثير من الوحدات الجمالية والسردية، أحياناً ما يطلق على صيغة من التناول الطبقي حيث تظهر الأحياء المصرية الشعبية والشخصيات المصرية الحقيقية التي تمثل الأغلبية، وأحياناً ما تطلق على شكل محدد من الجماليات البصرية المتعلقة بمصر القديمة والعمارة الإسلامية أو الأزياء التقليدية، لكن يصعب اختصار ما يمكن اعتباره جمالية مصرية في السنوات الـ70 الماضية، الغريب هو أن فيلم «أبو زعبل 89» يقترب من التقاط تلك الجمالية الغامضة، فالمصرية هي درجات سلم مظلمة وبيت منير ودافئ، وهي عمارات من الطوب الأحمر عارية من الدهانات تظهر دواخل شرفاتها الملونة أثناء المرور على الطريق الدائري، وهي تراص خوذات عساكر الأمن المركزي جنباً إلى جنب، والضحك على حكايات ماضي التعذيب وكأنها لا تغير حياة المتعرضين لها إلى الأبد، بالتجول بين الذاتي والعام يطرح الفيلم شكلاً بالغ التحديد من الحالة الحالية لمصر، تصبح أكثر وضوحاً باستمرار العلاقة التراجيدية بين حاكميها ومحكوميها، وبين العمل السياسي والمنظومة الشرطية والعسكرية، يزيد غرابة ذلك الحنين حتى لإمكانية الاعتراض علناً أو التجمع في مساحة عامة، على الرغم من توابع ذلك على الحياة الشخصية والنفسية.
يحول الفيلم فرضيته الرئيسية وعنوانه «أبو زعبل 89» لنقطة محورية فاصلة في حياة صانعه، ليعمل السجن كمجاز للتحول، السياسي والشخصي، وعلى الرغم من سرد حكايات مروعة عن التعذيب والانتهاكات الحقوقية فإن الشكل السردي لا ينحو لاستدرار التراجيديا الشخصية أو الانغماس في الأسى، بل يتبنى روحاً أكثر خفة وسيولة. يكمن تأثير فيلم «أبو زعبل 89» الرئيسي في انكشافه التام، في عدم رسمه صورة أحادية لشكل النضال السياسي، لطرحه لوماً معلناً للأب وتحفظات شخصية تخرج الشخصية والموضوع الرئيسي وهو حبس مجموعة 52 فرداً في سجن أبو زعبل عام 1989 من شكل مكاشفة الضحية إلى مواجهة فرد ومنظومة كاملة، بأقل الأشكال ملحمية وأكثرها حميمية، كما يطرح تجربة يندر وجودها في المناخ الحالي من السينما السياسية والاستقصائية، التي وعلى الرغم من التضييقات فقد وجدت بعضاً من جمهورها وفي انتظار معجزة لتوسيع عرضها لجمهور أكبر.