فن

فيلم Joker: Folie à Deux: حكاية تقلع بلا أجنحة

فيلم قفز من ميزانية 70 مليون دولار إلى مليار عسى أن تثمر المغامرة من جديد. ولكن أحياناً مقبرة العرض الترفيهي هي العجز عن إدراك متى يجب أن تسدل الستار.

future لقطات من فيلم «Joker: Folie à Deux»

ترافيس بيكل يعود للحياة في ثوب مهرج

«لا أعلم لماذا كلكم تتعاملون بوقاحة وقسوة؟! لا أريد شيئاً منكم، أريد فقط قليلاً من الود الدافئ … وربما عناق».

— Joker 2019

عندما نتخيل شخصية الجوكر السينمائية الشهيرة، يحضر في أذهاننا مُهرج سيكوباتي يقود ألاعيب ذهنية ومُخططات تؤسس بتماسك لفوضى جارفة، وقسوة ممزوجة بقهقهة عدمية، شخصية منحها جاك نيكلسون مهارته الأثيرة في تجسيد الاضطراب والغرابة، وبذل لأجلها هيث ليدجر حياته نفسها حسبما يتوق الكثيرون لأن يظنوا.

قام الجمهور بأسطرة شخصية الجوكر بما يكفي لجعلها جمالاً سينمائياً بذل كل مُمكناته، ولا مكان لمطاولته بجديد، كل استعادة له مصيرها الحتمي هو التحطم بأثر مُدوٍّ ومُحرج لصاحبه، مثل محاولة جاريد ليتو المؤسفة لتجسيد الشخصية في فيلم Suicide Squad عام 2016.

لذلك قوبلت محاولة تود فيليبس عام 2019 لتقديم الجوكر بترقب مُرتاب، مُروض بعناية لتوقعاته من ناحية ومُتحمس بفضول من ناحية أخرى لنجم العمل خواكين فينيكس الذي يمتلك تاريخاً في اختيار أدواره بعناية يصعب معها أن يسقط رهينة استنساخ مبتذل ومُكرر لشخصية من عالم الكوميكس.

لم يكن جوكر تود فيليبس استنساخاً معتاداً لجماليات سبقته إنما مزج واعٍ بين شخصية الجوكر الهزلية وعوالم سينمائية أكثر تعقيداً وثباتاً، تحديداً عوالم مارتن سكورسيزي التي منحت الشخصية أبعاد ترافيس بيكل الذاتية في فيلمه الأيقوني Taxi Driver، والهوس الجمعي بالشهرة وإن كان الطريق إليها مدمر للذات والعالم مثل روبرت بابكين في فيلمه King of Comedy.

يصعب أن تحضر شخصية الجوكر في أذهاننا مصحوبة باقتباس مثل المذكور أعلاه، اقتباس يُعبر عن رجل مُعذب يبحث عن رحمة، لا تتجاوز مطالبها أمنيات طفل صغير، بمقابلة حضوره بود دافئ وعناق. لكنه يبدو اقتباساً طبيعياً عندما تنتزع شخصية الجوكر من ميادين عبقريتها المتلاعبة في قتال باتمان وسلطات جوثام، وتعود بها إلى الجذور لنقابل «آرثر فليك».

رغم كونه رجلاً بالغاً، فلا يزال آرثر يحيا في كنف أمه، لم تتطور شخصيته لما يجاوز نطاق طفولته، لم يُحب امرأة ولم يمتلك صديقاً، رجل يمتلك نظرة طفولية للعالم قوامها رسالة ساذجة غرستها فيه أمه لتفسير مرضه الطبي بالضحك اللاإرادي، وهي أن القدر أعده لمهمة جلب السعادة للجميع.

لا يصدق آرثر التفسير وحسب، إنما يمحور حياته حوله، يختار أن يعمل مهرجاً ويتوق لامتهان الكوميديا بدوام كامل، لكنه رغم رسالته ومهنته، ليس سعيداً في مسعاه، إنما بنهاية دوام عمله يذهب لطبيبته النفسية في عيادة حكومية رخيصة ويتوسل لها أن تمنحه دواءً إضافياً لسبعة أدوية يتعاطاها لتسكين الاكتئاب والهواجس السلبية بداخله!

يؤكد فيليبس أن فيلمه لا يدور عن العنف المعتاد لجوثام في صراع الإجرام والعدالة، إنما عن عالم يخلو من الشفقة والتعاطف، عالم يمتلك فيه مريض نفسي بطاقة تؤكد مرضه وعجزه عن كبح جماحه، وتدعو الآخرين لمعاملته بلطف، وهو ما يبدو حقاً بديهياً لرجل في حالته. لكنه منذ اللحظة الأولى يتعرض للتنمر والخديعة بشكل فردي، ثم التخلي بشكل جماعي عندما توقف المدينة خدمة الرعاية النفسية التي يتلقاها هو وآلاف مثله لأجل استقطاعات بالميزانية. ليصير آرثر نُهبة لهواجسه دون سند أو دعم.

رغم خذلان الأفراد والمجتمع لآرثر فليك، تظل دعامتاه الأهم للثبات هما الأم التي تمنحه بحضورها شرعية لأحلامه الطفولية وتحمي الشرنقة التي عليه تجاوزها لطور الرجولة، والدعامة الأخرى هي الحضور الأبوي المتخيل في صورة «موراي فرانكلين» المذيع التلفزيوني الشهير الذي يحضر في تخيلات آرثر وهو يقدمه للعالم باعتباره كوميديان ناجحاً وابناً باراً كان يتمنى أن يحظى بمثله.

تتحطم الدعامات الأخيرة لبنيان أرثر فليك عندما يعرف حقيقة كونه طفلاً متبنى من أم مريضة عقلياً، قام أزواجها بتعريضه لكل صور الإساءة الجسدية والجنسية دون أن تتدخل لحمايته، بينما يعرض مذيعه المفضل موراي مقطعاً مذلاً لفقرة كوميدية أداها بفشل مروع ليتحول هو إلى النكتة لا مؤديها. ويصير أبوه الخيالي رسول ترويج خزيه الشخصي إلى العالم في بث متلفز.

يوقن فليك بتعبيره أن حياته التي ظنها مأساة لا تعدو أن تكون مسرحية هزلية هو السطر الأخير فيها، يُقرر أن يقتل نفسه في بث تلفزيوني على الهواء ليبوء مجتمعه بإثم قتله، لكنه في اللحظة الأخيرة يتحول من رؤية ذاته كضحية لنكتة قدرية قاسية إلى إله غاضب، ويقتل موراي على الهواء. تتحول قصة طفل في ثوب رجل قتل آباءه المتخيلين إلى ثورة جماعية في جوثام ضد السلطة بكل صورها من الآباء للحكومة.

بميزانية تتراوح بين 55 و70 مليون دولار، حقق جوكر تود فيليبس أرباحاً قدرها 1.079 مليار دولار، قام فيليبس ببعث جديد لشخصية ترافيس بيكل في القرن 21، يمثل جوكر تود فيليبس الشخصية التي تبرز شروخها ببطء نتيجة تواطؤ مُجتمعي على حشرها في الزاوية، على تجاهلها أولاً ثم إخضاع رقبتها ثانية لركبة متخيلة لا تكف عن الضغط، حتى لا يكون انفجارها متوقعاً وحسب، إنما منطقياً كدفاع أخير للذات عن حقها في الوجود ومُشرعناً لحق تلك الذات في انتزاع وجودها بالقوة وبإدانة كل من حاصروها لتحقق عدالتها، وإن سماها المجتمع فوضى.

يقدم تود فيليبس هذا العام رهاناً جديداً، لا يواجه فيه أشباح أفلام الجوكر السابقة، إنما يراهن نفسه، وينافس شبح نجاحه السابق، بتعمق جديد في شخصية الجوكر، ودعوة لجمهور لم يعد يقابله بتوقعات مروضة، إنما توقعات شاهقة بحجم نجاح فيلمه الأخير، يرفع فيليبس سقف رهاناته لعنان السماء عندما يعلن أن الجوكر سيحضر لأول مرة كبطل لفيلم صبغته موسيقية، أو بتعبير الصحافة Musical.

إشراقة موسيقية لعقل مريض

«- ما الذي تتذكره من ليلة قتلك لموراي فرانكلين؟

- فقط أتذكر الموسيقى».

— Joker: Folie à Deux

لا تبدو الموسيقى عنصراً دخيلاً أو انقلاباً شاذاً على الجمالية التي صنعها تود فيليبس في فيلمه السابق، إنما هي استعادة للمفتاح الأهم في شخصية آرثر فليك.

يظهر آرثر فليك في بداية فيلم الجوكر 2019 وهو يرقص بلافتة في الشوارع على إيقاع موسيقى متخيلة، نُدرك منذ البداية أن آرثر منفصل كلياً عن ضجيج مدينته، وهو ما يظهر من اللقطة الأولى التي يذكر فيها المذياع إضراباً لعمال القمامة وفوضى تكسو شوارع جوثام، بينما آرثر مشدود بوجدانه للنظر نحو انعكاسه في المرآة. ندرك أن آرثر رهين إيقاع خاص أو موسيقى بداخله لا يسمعها سواه، موسيقى تطغى حتى على ضجيج مدينة تتحلل وتتوعد أمثاله بالخطر في كل ركن؛ لذلك كل مرة يتجول فيها في المدينة يتعرض لخطر لا يفهمه بينما يعتبره كل من حوله بديهياً.

مشهد من فيلم Joker

عندما يقتل آرثر لأول مرة سيختبر حريته الجديدة برقصة مرتجلة أمام المرآة، كأنه يتوحد مع انعكاسه احتفاءً بإيقاعه الداخلي الذي أخضع لأول مرة الآخرين لنغماته، باقتراب آرثر من اعتناق هوية الجوكر، ستتخلل تحولاته رقصات مرتجلة بدون موسيقى، تصل إلى ذروتها عندما يرقص في الشوارع استعداداً لمقابلة مذيعه المفضل، وقبل دخوله الاستوديو، ويُختتم بها الفيلم عندما يرقص الجوكر وسط أتباعه في الشوارع.

يعي فيليبس أهمية العنصر الموسيقي منذ البداية عندما أخبر خواكين فينيكس أن مفتاح آرثر هو موسيقى بداخله وإيقاع لا يسمعه أحد سواه؛ لذلك تصير القصة هي استدراج هذا الإيقاع من الذات للخارج لتتحول الموسيقى الهامسة بداخل رجل معتل إلى لحن صاخب لجوثام بأكملها.

طلب فيليبس من ملحنة فيلمه الأول Hildur Guðnadóttir أن تكتب موسيقى العمل قبل تصويره، واعتماداً فقط على السيناريو المكتوب، يقول فيليبس إنها طريقته لجعل طاقمه بأكمله من الممثلين للمصورين رهائن للموسيقى، تتسلط نغماتها على العمل وهو يحدث وتكسوه بروحها، بذلك تصنع الموسيقى العمل ولا تحضر كمنتج ثانوي له.

لا يجعل هذا التأسيس السابق من فيلم Joker: Folie à Deux امتداداً للفيلم الأول وحسب، إنما يؤطر كينونة الفيلم برمتها، كانت الموسيقى صامتة في الفيلم الأول يعبر عنها آرثر فقط بجسده، لكننا لا نسمعها لأننا لم ندلف بعد إلى ذلك العقل، أما ما يعد به الفيلم الجديد هو أن اللحن سيكون مُهيمناً ومسموعاً، وهو ما يعني رحلة ذاتية داخل عقل آرثر أخيراً.

سيصير الفيلم رحلة أكثر عمقاً داخل عقل فليك المعتل، وليس تبياناً لما حدث له مثل الفيلم السابق، أو تتبعاً لما سيقوم به بعد تحوله إلى Anti Hero أو نجم إجرامي للمدينة. ولكن هل نحتاج حقاً إلى تلك الرحلة؟

تمثل تلك النقطة الفراق الأول بين رؤية فيليبس للعمل ورؤية الجمهور له، يعود نجاح الفيلم الأول لكونه محكماً، قدَّم كل ما يمكن عن آرثر، مع انتقال شيق بين العالم في حقيقته والعالم بداخل عقل آرثر، يظهر في استعادة آرثر لمشاهد عشناها معه، خلواً من الشخصيات التي تخيلها، لندرك أن عقله كان يخدعه ويخدعنا، لذلك يطرح الجزء الثاني سؤالاً ملحاً: هل يوجد المزيد من ذاتية آرثر فليك لم نعرفها، وتحتاج إلى الفحص؟

يزيد فيليبس الارتباك عندما يستحضر شخصية Harley Quinn لتكون شريكة الجوكر في رقصته الجنونية، معنوناً الفيلم بمصطلح Folie à Deux الفرنسي الذي يعبر عن شخصين يتشاركان جنوناً بعينه أو اضطراباً في رؤية العالم.

مشهد من فيلم Joker: Folie à Deux

تبدو هارلي كوين شريكة مناسبة لجوكر على شاكلة أفلام نولان أو بيرتون، وليس فيلماً ذاتياً، شريكة لرجل خاض رحلة جنونه الذاتي وعلى وشك بدء رحلة جنونه الجماعية برفقة شخصية تثقلها تلك الهالة تحديداً. فهي في كل تجلياتها في الكوميكس، تظهر كطبيبة نفسية تكفر بالمنطق وتعتنق الجنون، فيبدو دوماً المرضى على الجانب الآخر من طاولتها أكثر إقناعاً من علمها، فتنضم لهم كرفيقة طريق في رحلة هوسهم.

يحمل Joker: Folie à Deux تناقضاً في بنيته يمكن ملاحظته قبل بدء المشاهدة، كونه فيلماً يستعير جماليات سابقة عليه، مثل القصة والشخوص التي وصلت للذروة في نهاية الحكاية. لكنه لا يروي بها قصة جديدة أو تتمة لما سبق، إنما يستحضر عنصر الموسيقى الذي مثل رمزية الإيقاع الحاكم داخل عقل آرثر فليك من الخلفية والهامش إلى المتن، لنقوم برحلة ذاتية داخل ذات قدمت كل خفاياها وحققت تحولها المثالي وتعرت كلياً من كل كامن يمكن فحصه.

يظهر هذا التناقض في مشهد بداية Joker: Folie à Deux الذي تحكي به الرسوم المتحركة ملخصاً للفيلم السابق، خلاله يظهر آرثر فليك بشخصية الجوكر بينما ظله يطارده ويقاتله، يتلبسه أحياناً، ويتخلص منه أحياناً، وهي العلاقة نفسها بين joker 2019 وJoker: Folie à Deux، فهو فيلم يحاول من اللحظة الأولى التحرر من ظله السابق بحثاً عن جديد، ولكن هل وجده؟

حقيقة تُستنطَق بالأقنعة

يظهر آرثر فليك بعد عامين في محبسه، ببنية جسدية أكثر نحولاً، لا تحمله الجماهير على أكتافها مثل نهاية الفيلم السابق، إنما يحمل دلو خراء في انتظار أوامر التخلص منه في المغسلة، يُحاصره حراسه بتهكم عدائي ليمنحهم دعابة جديدة مقابل لفافة تبغ.

يتحرك آرثر مثل جثة حية بخطوات مستسلمة بلا لحن، حتى يقابل نزيلة مستشفى أركام «لي كوينزل» التي تخبره عن العالم في الخارج الذي لم ينسَه إنما يستديم أسطورته ويرعاها، كيف يراه ملايين في جوثام رمزاً لهم؟ وكيف شاهدت الوثائقي الذي يسرد حكايته أكثر من 20 مرة؟

مشهد آخر من فيلم Joker: Folie à Deux

بعد لقائه الأول بها تتغير لغة جسد آرثر ويتحرك بمزيد من الثقة، مثل أصم تحقق شفاؤه وبات أخيراً قادراً على وصال لحنه الخاص. يكرر آرثر على مسامع لي سؤالاً واحداً بإلحاح: هل كان الفيلم الذي يتلو حكايتي جميلاً؟

يمتلك آرثر فليك حنيناً لنهاية الحكاية الأولى التي ذاق فيها البطولة وبات مرئياً ولو للحظات، اللحظة التي يحولها فيليبس بجزئه الجديد من نهاية ملحمية إلى لحظة عارضة يخبو بريقها باستمرار الزمن السينمائي، فيعود آرثر لرشده ويدرك أنه مسكين فقد عقله وقتل ستة أشخاص، وأنه يحتاج إلى أدويته بشدة.

رغم المخاطرة، يبلور تود فيليبس إحياء مقبول لقصة مكتملة، يصير فيه بطله آرثر فليك رهين روايتين، الأولى رواية تتلوها محاميته ماريان، وفيها عليه أن ينسلخ من هوية الجوكر المنتحلة ويعتنق عواره كضحية لأم مريضة ورجال انتهكوا جسده في طفولته ومؤسسات نفسية تخلت عنه ولم تمنحه الرعاية الكافية، بينما الرواية الأخرى تتلوها معجبته الجديدة لي، وفيها يمكنه استئناف لحظة بطولته العارضة التي طواها زمن السجن وقسوة الحراس.

ما يجعل رواية لي أكثر جاذبية ليس فقط أنها تستنقذه من هويته المعتادة كرجل منسي يحمل ثقل عقده النفسية، والتي يصير بفضلها ممتهناً ممن حوله، وهو ما يصوره فيليبس بصرياً ببراعة في محبسه عندما يحمل دلو خراء ويظل رهين نزوات حراسه.

ما يجعل رواية لي مغوية هو أنه يرى ذاته في عينيها محبوباً، وهو ما لم يحدث طوال حياته، خاصة بعد رؤيته لحقيقة أمه وقتلها ثمناً لخداعه باسم الحب، لكنه يدرك أن لي لا تحب آرثر فليك إنما تحب ظله، أو الجوكر، هويته المنتحلة في لحظات جنونه.

تبرز الفواصل الموسيقية هذا الفخ عندما يدندن آرثر أغنيات تعبر عن افتقاده للحب، يصور فيها نفسه كطفل يحتاج للحنان، أو فتى وجد السحر الذي تاق له دوماً، بينما تعبر أغنيات لي عن رغبة شرهة في القوة أو بتعبيرها:

«سوف نبني جبلاً من تلة

وسنجعله شاهقاً».

في إشارة لحلمها بإحياء شخصية الجوكر من جثة آرثر النحيلة، بارزة الوجنتين، كما يولد جبل من تلة صغيرة.

مشهد في فيلم Joker: Folie à Deux

في الجزء الأول كان آرثر سجين عجزه، وفي الجزء الثاني بات سجين أسطورته، لا يملك آرثر البراعة الكافية ليصوغ مأزقه النفسي لمحاميته أو أطبائه إنما يصوغه بالغناء قائلاً:

«إنها مجنونة وأنا أعرف ذلك جيداً

لكنها مجنونة لديها ما يحببك فيها.

مسحور كطفل يتعلم بعد الابتسام

هي باردة القلب أعلم ذلك

تحب الضحك حتى لو عليَّ

لكني أحبها وسأجعل الربيع يحل لأجلها».

بعد لقاء لي تُستدعى شخصية الجوكر للحكاية بالتدريج، يتحول آرثر من سجين مثالي إلى مشاغب ينال عقابه في زنزانة انفرادية، تزوره لي في زنزانته، تخبره أنها تريد أن تراه على حقيقته، لكنها لأجل ذلك ترسم للمفارقة بالأصباغ قناع الجوكر على وجهه كأن حقيقته لا تُستدعى إلا بالزيف، يدرك آرثر أنها تحب قناعه ولا تطيق وجهه العاجز، لكنه يدرك أن ذلك الثمن الواجب دفعه لتسمح له بتقبيلها. يطيع شفتيها وهي تمنحه رحيقها وتهمس له أن يتوقف عن تعاطي أدويته.

حكاية تقلع بلا أجنحة

«نستخدم الموسيقى لموازنة القوى المتصارعة بداخلنا، لنجعل كسورنا الداخلية تلتئم».

— Joker: Folie à Deux

بعد الإعداد لمأزق درامي يُمكن أن يولد عبره الجوكر من جديد، يُمكن أن تقلع منه حبكة Joker: Folie à Deux لآفاق أخرى، تظل الطائرة رابضة في ممر الإقلاع دون حركة، وبإكمال المجاز، يتولى فيليبس بتعمد تفكيك أجنحة طائرته وعجلاتها لجعلها عاجزة عن الطيران إنشاً أبعد من نقطة بدايتها.

يختار فيليبس للمراوحة بين ما هو ذاتي أو تخييلي في ذهن آرثر المعتل وما هو واقعي أن ينقل السرد بين الاستعراضات الموسيقية التي تمثل وجدان فليك وأمنياته، ومشاهد محاكمة فليك التي تمثل الواقع، وفيه يطغى صوت محاميته وهي تحاول إعادته لحقيقة وضعه بروايتها التي تظهره مريضاً نفسياً وضحية ومفعولاً به كثمن لازم ليفلت بالجنون وعدم الأهلية من حكم الإعدام.

بينما تمثل الاستعراضات الموسيقية الوسيط واللغة التي اختارها فيليبس لينال الجوكر ولادة جديدة بإبداع مفارق لما سبقه، جاءت الاستعراضات في الفيلم سريعة ومبتورة، تفتقر إلى الإحكام على مستوى الأداء والتصميم، مع اختيار أغنيات تعود إلى خمسينيات القرن الماضي، ربما في إشارة لطفولة فليك والكلاسيكيات الهوليوودية التي تربى عليها، لكنها أغنيات تفاوتت في بريقها وتأثيرها بشكل ملحوظ.

لا تعوز فيليبس المهارة أو الحيوية لصنع مشاهد موسيقية ناجحة، إنما كان الأمر قراراً واعياً من ممثله فينيكس، بأن يناسب أداؤه مع ليدي غاغا أداءً مضطرباً ومذبذباً لمريضين عقليين، لذلك رفض الممثلان فكرة وضع الأغاني مسبقاً والحركة على أساسها، ولكن يغنيان بشكل مباشر دون إعداد مُسبق أو التزام بالايقاع!

مشهد من نفس الفيلم Joker: Folie à Deux

يبدو الأمر بحثاً عن أصالة في غير موضعها، تعبر الموسيقى والأغاني بالأساس عن خيال فليك، وبولوج خياله علينا أن نخضع لشروطه، وفي خياله، رقصته مع حبيبته أسطورية وسحرها مُهيمن بما يكفي ليخضع له بدلاً من نداءات التعقل من محاميته وأطبائه، لماذا ننشد الأصالة في رقصة خيالية داخل وجدان رجل مُضطرب، في حكاية مصممة بعناية لنختبر سحر ما يراه عقله المريض، لا لأن نراه بعيوننا اليقظة؟

يتواطأ فيليبس مع الرؤية نفسها بتأكيده أن فيلمه ليس موسيقياً بالتعريف ولا يخضع لقوانين جونرة Musical Movies، إنما الموسيقى مستدعاة لعجز آرثر عن التعبير عن دواخله بالكلمات، وما الأغنيات وكلماتها إلا محاولته للتعبير عن وضعه الداخلي.

عندما تروي حكاية عادية بالموسيقى، تؤطر النغمات كل ما هو ملحمي في العادي، ويصير أبطالها أكبر من الحياة نفسها، لأن الحياة عينها لم تعد عشوائية أو بليدة، إنما أسيرة لحن جمالي محكمة نغماته وممنطق إيقاعه بمنطق القافية، وهو ما يجعل لكل ما يحدث غاية وإن كانت الغاية لا تعدو إكمال اللحن.

ينفي صانع الفيلم بغرابة عن فيلمه صفة الموسيقية، ويجتهد أبطاله في إضفاء أصالة معوقة على لحظات السحر التي يمكنها وحدها إنقاذ الحكاية، وتتحول أيقونة موسيقية بحجم وحضور ليدي غاغا من منقذ لحكاية تتحدث لغتها وتنتمي إلى عالمها إلى ممثل مضطرب بين حضور خاطف واستعراضات باهتة لا تظهر ربع قوتها، في إيقاع مفكك.

تحضر على الجانب الآخر من الحكاية مشاهد المحاكمة التي تنتمي إلى Courtroom Drama خلواً من كل عناصر قوة الجونرة وأهمها الندية الحوارية، لا يواجه آرثر فليك نداً رغم حضور شخصية مساعد المدعي العام هارفي دينت، يكتفي الجميع باستعادة ما نعرفه مسبقاً من الجزء الأول.

يجلس آرثر فليك في المحاكمة بين محاميته التي تعري كينونته الضعيفة وبين لي التي تحثه على استعادة زمام السرد بشخصية الجوكر، بحضور باهت يعتمد على عناصر خارجه لإضفاء التوتر مما جرد مشاهد المحاكمة من الصراع، فطرف الصراع الأساسي يشاهده مثلنا ولا يتورط فيه إلا متأخراً جداً.

مشهد آخر من نفس الفيلم Joker: Folie à Deux

بعناية يجرد فيليبس طائرته من جناحيها، فلا تستطيع الدراما الموسيقية إنقاذ الفيلم من شتاته، ولا تستطيع دراما المحكمة استعادة الإيقاع إنما تقتله بالبطء والمط الممل.

راهن فيليبس بأدوات مبتكرة مثل الموسيقى على استعادة حكايته الناجحة بصبغتها الذاتية، وبالسماح لنا بقطع تذكرة لولوج عقل آرثر فليك المعتل لنتوحد مع نظرته للعالم، ثم الخروج منه لمحاكمة حقيقية تعكس عوار مجتمع جوثام أضعاف ما تعكس عوار آرثر فليك، لكنه بغرابة حطم توازن حكايته بسوء استخدام أدواته، وأفسد إيقاعه بمراوحة محبطة مثل بندول يتأرجح بينما ينظر الحضور في قاعات السينما لساعاتهم التي تعلن قرب نهاية الفيلم وبطلهم لم يتحرر بعد من سجنه ليصير جوكر وفياً لجوكر نولان وبيرتون، أو جوكراً ذاتياً في مغامرة موسيقية مسكرة وفريدة، فالرحلة حدثت وانتهت والطائرة لم تقلع بعد.

أعط الناس العرض الذي يريدونه

«أي شيء يحدث في الحياة

يمكن أن يحدث في السينما

يمكنك أن تجعلهم يضحكون،

يمكنك أن تجعلهم يبكون،

أي شيء، أي شيء يمكن أن يُعرض كفيلم».

— That's Entertainment 1953

يستعيد تود فيليبس على مدى الفيلم أغنية بعينها هي That's Entertainment من فيلم The Band Wagon، والتي تقول كلماتها إن كل شيء وأي شيء يُمكن تحويله إلى عرض ترفيهي.

يشاهد آرثر ولي الفيلم والأغنية نفسها خلال عرض ترفيهي في مصحة أركام، تخبره لي بأن الفيلم نهايته معروفة، لكن حكايتهما يمكن أن يكتبا نهايتها بشكل مختلف وبإرادتهما، ينتهي المشهد بإضرامها النار في غرفة العرض لتنفرد لحظاتٍ بآرثر، تنتهي المغامرة بمحاولة رومانسية فاشلة للهروب.

يقول فيليبس إن فكرة تقديم جزءٍ ثانً من الجوكر حضرت في محادثاته مع فينيكس في وقت أبكر مما يظن الجميع، فقد ناقشاها بعد شهر من بدء تصوير الجزء الأول، لم يكن كلاهما بتعبير فيليبس مستعداً للتخلي عن الشخصية، بينما تنفس الجميع الصعداء لنهاية التصوير، كان فينيكس وفيليبس يتوقان لإعادة الأمر برمته من البداية.

يبدو الفيلم برمته نزوة حنين من صناعه لاستعادة حكاية قدمت كل ما تريده، حكاية توَّجها الجمهور والنقاد بالثناء للتأكيد على ذلك، بينما لم يقتنع صناعها بالاكتفاء.

بينما تعد الأغنية أن كل شيء وأي شيء يمكن تحويله إلى عرض ترفيهي ناجح يفشل فيليبس في توليد جمالية جديدة من رحم حكايته السابقة، ويقع في الفخ الذي ذكره على لسان بطلته، وهو أن النهاية معروفة، وهذا يجعلها رغم جماليتها محبطة.

ينتهي فيلم Joker: Folie à Deux بنهاية ذكية ووفية لنظرة فيليبس للجوكر المختلفة عن عالم الكوميكس، باعتباره شخصية معذبة ومتورطة في رمزية أكبر منها، ورغم جماليتها فحضورها على متن إيقاع مفكك، ونزولها على مهبط غير ممهد، أفسد سحرها. امتلك فيليبس تصوراً متماسكاً حول البداية والنهاية، لكنه لم يمتلك خطاً سردياً ممتعاً يمكنه أن يصل بين النقطتين.

مشهد آخر في نفس الفيلم Joker: Folie à Deux

يؤكد فيليبس أن حكايته السينمائية تُهاجم تحديداً ما تقصده أغنية That's Entertainment بكلماتها أو فكرة تحويل كل حدث إلى Entertainment بالمعنى الصناعي والمادي للكلمة، أو بتعبير لي كوينزل الهامس لآرثر فليك:

«كن الجوكر، أعطِ الناس العرض الذي يريدونه».

يضرب فيليبس أمثلة من الواقع لخطورة تلك الثقافة مثل المناظرة الرئاسية الأمريكية الأخيرة ومحاكمة جوني ديب وآمبر هيرد وقدرة فكرة العرض الترفيهي على تفريغ كل حدث من معناه وتحويله إلى تسلية. مؤكداً أن فيلمه كان تلصصاً ذكياً على جوثام التي تنحدر للجنون خلال متابعة ما سماه محاكمة القرن لآرثر فليك أكثر من كونه تتبعاً لتتمة لحكاية بطله.

لا يخفق فيليبس جمالياً في تحقيق مقصده وحسب (الذي تحقق ضمنياً في نهاية الجزء الأول عندما انحدرت جوثام للجنون بدفعة من جنون فليك الشخصي) إنما يصعب تفسير فيلمه إلا بمنطق الترفيه نفسه الذي يُهاجمه، أو الإغراء الذي لا يقاوم لتكرار الربح لفيلم قفز من ميزانية لا تتجاوز 70 مليون دولار إلى مليار دولار، عسى أن تثمر المغامرة من جديد. ولكن أحياناً مقبرة العرض الترفيهي هي العجز عن إدراك متى يجب أن تسدل الستار، دون الحاجة لأجزاء إضافية.

# سينما # السينما العالمية

فيلم «المخدوعون»: فلسطين في مواجهة الرجال والشمس
فيكتور إيريس: العالم بقدم في الواقع وأخرى في الأحلام
أجساد بطولية: تاريخ قمع الجسد الأنثوي

فن