فن

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز

ليلة غريبة مرت بأحمد لم يشاركه بها إلا القمر وصوت فيروز الذي تناهى له من بعيد بينما كان في جلسة فكرية عاصفة فوق منزله جعلته يغير الكثير من معتقداته.

future صورة تعبيرية (بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز)

في واحدة من تلك الليالي التي لا يعود الإنسان بعدها إلى نفسه –نفسها- مجدداً، أشعر بها الآن وقد أحيطت بأجواء غرائبية وكأنها من عصور ما قبل التاريخ، موقناً أن هناك شيئاً بداخلي قد تغير في هذه الليلة الشتوية وللأبد. كنت جالساً فوق سطح منزلنا في أحد مراكز محافظة المنوفية في دلتا مصر، ومن هاتفي الصغير تصدر بعشوائية وبلا ترتيب أغنيات من قائمة لا رابط بينها، وأنا أقرأ للأديب والفيلسوف والفنان التشكيلي اللبناني جبران خليل جبران، وأذكر أنه في هذا الكتاب كان يسرد بحماس وصدق بالغين لقاءه في إحدى رحلاته البحرية بجنية بحر، وما إن رأها حتى أحبها وأخلص لها الحب حتى بعد اختفائها عنه، لم يهتم كثيراً إن ما كان ما قد رأه حقيقة أم سراب خيل إليه، بل اهتم بتجربة الحب نفسها وقد آلمه عدم تصديق رفاقه في الرحلة لهذه القصة لأنهم لم يروا أي جنية بحر رغم إبحارهم معه، وأثناء القراءة أشرق صوت فيروز من الهاتف تغني من شعر شعره في القرن الرابع عشر الشاعر الأندلسي لسان الدين بن الخطيب:

جاءت معذبتي في غيهب الغسق

كأنها الكوكب الدري في الأفق

فقلت نورتني يا خير زائرة

أما خشيت من الحراس في الطرق

فجاوبتني ودمع العين يسبقها

من يركب البحر لا يخشى من الغرق

كنت كمن يسمع صوت فيروز لأول مرة، دهشة تجسد المعنى الخاطف أمالت نفسي إلى تصديق جبران، بل تأكدت من صدقه، أكملت قراءة الكتاب بشغف حتى شارف على نهايته وقد جن علي الليل لأجد في صفحاته الأخيرة مجموعة من القصائد لجبران فقرأتها فكان من ضمنها قصيدة «سكن الليل» يقول مطلعها:

سكن الليل وفي ثوب السكون .. تختبي الأحلام
وسعى البدر وللبدر عيون .. ترصد الأيام

شعرت أنني أعرف هذه الكلمات وسمعتها من قبل، فبحثت عنها لأجد فيروز نفسها غنتها بألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب! لم أكن أعرف بترابط كل الأشياء إلى هذا الحد في بعد آخر من الوجود! هل اجتمع فيروز وجبران ولسان الدين بن الخطيب ومحمد عبدالوهاب عبر الزمان؟

 وقع نزاع قديم في وجود الزمان نفسه بين فلاسفتنا ومتكلمينا، فمنهم من قال بوجوده وإنه لا يحتاج في إثبات وجوده إلى البرهان، بل هو من أوضح الأشياء وإن خفي فلشدة ظهوره وجلائه، وقال آخرون إنه يحتاج في إثباته إلى البرهان، وقوم نفوا وجوده وقالوا إنه من الأمور التي لا توجد إلا في الأوهام دون الوقائع، وقارنوه بالمكان فقالوا إن الجسم إذا قطع مسافة معينة فإنما تجد في الواقع أنه قد وصل إلى حد مشاهد وقابل للقياس واقعياً، أما هذه المشاهدات الحسية فلا سبيل واقعياً إليها في الزمان،  وتناوله ذهنياً يحدث للعقل شعور بأمر ممتد من أول الشيء إلى آخره، وذلك الأمر الممتد يكون كالظرف لجميع الحوادث والحركات، ولكن في حقيقة الأمر لا وجود لهذا الأمر في الأعيان، وإنما في الأذهان، وهذا ما يطلقون عليه الزمان.

سمعت سكن الليل مجدداً، بل أولاً في حقيقة الأمر وقد تملك نفسي هذه المرة شعور راسخ بأني أعي هذه الكلمات، لم أطرب لها فحسب بل أعيها، أفهمها جيداً، ولا يلزم من العلم بآثار الشيء في النفس العلم بحقيقة الشيء، وما هو حاصل بالحس أظهر للنفس مما هو حاصل بالتعريف، نعم أحلامي أنا نفسي تختبئ في ثوب السكون وأكاد أرى عيون البدر من وراء حجب السماء الشتوية من فوقي ترصدني وترصد الأيام رؤيا العين، وحينما قالت:

لا تخافي يا فتاتي، فالنجوم .. تكتم الأخبار

أبصرت نجوم السماء، نعم هذه النجوم بالفعل تكتم الأخبار، هذه الكلمات حقيقية للغاية!

ثم يسكت كل شيء، كل شيء في الدنيا، وكأن فيروز وحدها في هذا العالم، لتقول:

وضباب الليل في تلك الكروم .. يحجب الأسرار

لا تخافي فعروس الجن في .. كهفها المسحور

هجعت سكرى كادت تختفي .. عن عيون الحور

هل قابل جبران حبيبته الجنية مرة أخرى؟ وهذه الكلمات موجهة إليها هي؟ وهل أتت فيروز صديقته -التي أخبرتني عندما راودني في حكايته ليلة الإبحار شك أنها قد رأت الجنية قادمة من غياهب الغسق- كي تغنيها بصوتها؟

 منزل جدتي ذو الباب الخشبي العتيق يطل على فرع صغير من فروع النيل يمر بهدوء في قلب بلدنا الريفية وكان لديها لمبة جاز صغيرة تطلق عليها «سهراية»، وهي آخر ما تبقى في منزلها من سبل الإضاءة اليدوية قبل دخول شبكة الكهرباء، ولم تستغن باللمبات النيون والليد عن هذه اللمبة الصغيرة تحديداً، فإذا جاء وقت النوم تغلق جميع الأنوار وتبقي على هذه اللمبة في بهو المنزل ذي السقف المرتفع، فكانت ترسم السهراية بحركتها وتمايلها المستمر وعدم ثبات مستوى الإضاءة ظلالاً كبيرة متحركة، لا تسميها جدتي ولا أمي ولا خالاتي «ظلالاً» بل يطلقن عليها «خيالاً»، كنت أرى الخيال وأتابع حركته فوق سريري الصغير مستمعاً لحواديت جدتي عن الجنيات والأشباح والعوالم الخفية، فعادني هذا الخيال في ما يشبه الأحلام في انتقالي إلى هذا البعد من الوجود تلك الليلة، ذلك البعد الذي لا أعلم عنه شيئاً إلا أنني جزء منه وأعرف لغته وأعرف أهله من السماء ونجومها والليل وضبابه والقمر وعيونه والجنيات في الكهوف المسحورة، قد مس صوت فيروز هذا البعد شديد الغموض في نفسي، بعد لا ينتمي لهذا الواقع، ولا يرتبط بمنطق ولا عقل ولا يعرف لعواقب الأمور حساباً، كنت أتلمس وجوده من وقت لآخر ولا أتبينه، حتى أتاني صوت فيروز من هناك كطيف خيال سهراية جدتي في سحرها ،وكالمدى في براحه وحريته!

في هذه الليلة عرفت فيروز وعرفتني إلى القمر جارها الذي يظهر من خلف التلال ليسمع الألحان ويستأنس بالسهرات الصيفية، والجبال البعيدة المتموجة مثل العيد، تابعت حكاياتها والتي لم أسمعها كمجازات شعرية بديعة، بل صدقتها بأدق معنى للتصديق، صدقت أن فيروز تستطيع أن تتحدث إلى الطيور الطايرة على أطراف الدني وتحمل منها وإليها الرسائل ونداءاتها للذئاب في الغابات وكائنات ما تحت البحار الكبيرة، وتابعت مغامراتها كي تسرق القمر وخلافاتها مع هذه الناس الغريبة الذين ذهبوا فأبلغوا الحراس عن سرقتها، وترثي فيه النار اللي عم تنطفي بحضن الموقدة، ورجاءاتها للهواء على مفرق الوادي ومكائدها للهرب من الزمان الذي لم نتأكد من حقيقة وجوده حتى الآن في المشرق، فتطير كورقة مع هالورق الطاير، كان صوتها بوابة عتيقة شديدة العذوبة والخفة كباب جدتي لوجود آخر، ليس بغريب عني بل كأنني كنت هنا قبل أن أوجد في الدنيا أصلاً، فأيقظت في أحلام يقظة شديدة الجموح أعدت في رحابها تصميم هذا الواقع الذي لم يرقني تصميمه كثيراً، وخلقت بها أنا نفسي مجدداً، فأمسيت ليالي كالقمر المهاجر، حقولي السماء وحصاني البيادر، ونسيت وجهي وتركته يسافر.

يختلط في ذهني كثير من المعاني والأبعاد والمسافات والأزمنة، فيروز وجدتي وجبران ولسان الدين وعبدالوهاب، يتفاعل أهل هذه الأرض مع كل ما على هذه الأرض من مخلوقات في ما وراء كل ما يمكن أن تكتشفه أو تحدده أو تقيسه المادة، فكأن سكان المشرق يعرفون بعضهم بعضاً لطول العشرة وأصالة الوجود ورسوخ القدم في التاريخ والجغرافيا، فتنشأ بيننا وبين الطيور عديد من الاتفاقات أوقات السفر، وتمد الأنهار وتجزر مياهها مع أفراح قلوبنا وأحزانها، ونأسى في الخريف لتساقط أوراق الشجر، وتشارك نفوسنا السماء وجومها لتكاثف وجه الغيوم عليها شتاء.

«من أرض خوف» داود عبدالسيد بنندهلك يا شمس المساكين، من أيام المظلومين، من لفتات الموعودين، يطرق آدم الباب كثيراً دون أن يرد عليه أحد، ترك ونسي بعدما كلف بحمل أمانة قد ناءت عن حملها الجبال.

قبل عشرات السنين حدثت، وبعد عشرات السنين عرفت هذه الحكاية التي يتناقلها أهل البلد حتى الآن، أنه كان لجدتي فتيان، أخوالي، شاركا في حرب أكتوبر 1973 فعاد أحدهما بعد فترة قصيرة من العبور ولم يعد الآخر، كانت تتوالى أخبار الشهداء في البلد، وبمجرد أن يحدث تواصل من الجيش مع الأهل يعلم الأهل الخبر دون احتياج لكثير توضيح وكانت البلد كلها تقريباً في الشارع لا يكادون يذهبون إلى بيوتهم فمن تشييع جنازة شهيد إلى تشييع آخر، ومن انتقال من بيت للمواساة إلى بيت آخر، وكانت أمهات الشهداء يستقبلن أهل البلد في بيوتهن، فإذا ما فرغن من استقبال المواساة والتعزية والمباركة تقوم معهم الأم كي تذهب إلى الحاجة فلانة التي جاءها الخبر، فأما خالي الذي لم يعد فقد انقطعت أخباره تماماً ولم يتواصل الجيش مع جدتي، ولم يحدث أن أخفى الجيش على الأهل استشهاد ابنهم، بل بالعكس كانت هذه العملية على أعلى قدر من الدقة والسرعة في التواصل والاستجابة وإرسال الموفدين الرسميين مع الجثمان والمشاركة في تشييع جنازة الشهيد وتقديم واجب العزاء لأهله، فكانت تقوم جدتي كل صباح وتذهب مع الأمهات إلى محطة القطار البعيدة كي تنتظر قدوم ابنها مع الجنود العائدين الذين تستقبلهم كما تستقبل كل أم ابنها بالأحضان والدموع وتسألهم على ابنها الغائب إذا ما كان قد رأه أحد أو يعرف أخباره أحد وهي بين السؤال والإجابة كمن هو بين الحزن والانتظار حتى طال انقطاع أخباره وتوالت الأيام والليالي الثقيلة عليها، فبدأت في تصديق شكوكها وكلام الناس الذين بدؤوا بالفعل في مواساتها وسرد حكايات شفاعة الشهيد لأهله يوم القيامة، وكانت وسط الوجوم والذهول في حزن شديد على الجثمان، كانت تتمنى فقط لو أن يعود أي شيء من الجثمان فيوارى الثرى وسط أهله وتحت أرضه، وبعد مرور ثلاثة أشهر وتحديداً في فبراير 1974 فتح عليها باب البيت العتيق لتجد خالي داخلاً منه، حيث كان في ثغرة الدفرسوار.

والذكريات صدى السنين الحادي

اسم الشخصية التي قدمتها فيروز في مسرحية «جبال الصوان» التي قدمت على المسرح عام 1969 «غربة» بنت قائد مقاومة سقوط الضيعة بيد المستبد تظهر غربة بعد أن انتشرت إشاعة بأنها قتلت في أعقاب سقوط الضيعة بيد الطاغية، عادت «غربة» من الموت إلى الحياة مجدداً، كفلسطين، كلبنان، كالشرق وأهل الشرق وأرض الشرق، واللازمة الموسيقية في هذه المسرحية ككل ما يعرج به من الأرض للسماء.

بعدها جبال الصوان عم بتقاوم، عم بتقاوم، عم بتقاوم

كان احتفال أهل الضيعة بعيد العنب بداية المشاكل! والعنب نعرفه في الفلاحين أنه من أكثر النباتات ارتباطاً بالأرض صانع الظلال والتعاريش والتكعيبات

وكرومكن عاكل مد تزيد، تغزل محبة وشهد وعناقيد
والعنب يعصر عوافي وعمر، ويقطر السكر ليوم العيد
صيف يا صيف عاجبهة حبيبي، لوح يا سيف رجعتنا قريبي

ويا دارة العلالي يا مسورة بالغضب

ع جبهة الليالي اسمك ضوي وانكتب

ولا بد من شي نهار توصل مراكبنا على المينا

يا ريت في أدور أحرر هالعبيد

أضوي الفرح بقلوبهن اجبلن العيد

تتبارك حجار البيت، تتبارك العتبة يا لبنان، معجزة مشرقية قد تداخلت فيها الغابات بالجبال بالتلال بالبقاع بالوديان بالبحر بالسماء لترسم لوحة إلهية بوجودها، عمل متناغم ممتد متصل لروح سارية خالقة مستبشرة عبر التاريخ قد أرسل أهله للدنيا بشراه بفيروز لتغني عن كل صور الحياة وزخمها، وتحكي عن الطاحون ونبع المي والأشجار وسهر الليالي والعصافير والطيور والألوان، وتحكي عن المشرق وكبريائه وتغني للقدس والطفل وأمه مريم في المغارة بعدما رأت وجهيهما الباكيين، ودروب السائرين منها إلى السماء، وبغداد وشعرائها وصورها وبيروت وهواها وإسكندرية وشطها والشام ومجدها.

فيروز هي رسول سحر المشرق العربي كله ولياليه الغامضة الساحرة التي يتفاعل فيها الناس مع السماء وما بعدها والأرض وما تحتها تحت عيون النجوم الساهرة التي تكتم أخبار ألف ليلة وليلة في غياهب المغارات والكهوف الحافظة للأسرار، فقط في تلك الليالي التي لا يقصف فيها هذا المشرق العربي بأطنان من القنابل ولا يسمم هواؤه بالفوسفور الأبيض ولا تستباح سماؤه بالقنابل الضوئية فيقتل القمر وتقتل الطيور وتقتل السمرة أم عيون وساع وصديقتها الصغيرة على سطح الجيران بعد أن يهدم سطح الجيران على رؤوس الجيران.

والآن، وبعدما كان كل ما كان، لا يصدر في قلبي صوت فيروز من هاتف بل من نفس تنوء تحت أنقاض الواقع بعدما انتبذ سحر صوتها من نفسي مكاناً قصياً، ليستحيل لها مكوناً رحيماً وحلماً بعيداً وسراباً عذباً قد أسبلت عليه بغياب صوتها المشحون بكل ما لا اسم له في الكون ما أحاله إلى لحن جنائزي مستمر، تعلن به الروح مع فيروز تشردها عن أهلها مرتين وسكناها في الغياب مرتين، تلك التي كانت عصفورة ساحات قد ندرها أهلها للشمس وللطرقات.

# فن # موسيقى # أدب

فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
«لقد تم حظرك»: النساء لسن فقط في صالون التجميل
ما الذي يخبرنا به «الغرف الحمراء» عن السفاحين ومهاويسهم؟

فن