صورة تعبيرية: من اليمين اسم عمر ابن الخطاب وخالد ابن الوليد
نشر هذا المقال لأول مرة في مجلة الثقافة بتاريخ 17 مارس 1952
قطبان من أقطاب الدولة الجديدة الناشئة... أما أحدهما فالرجل الذي ضرب به المثل في العدل... والشدة وإنكار الذات والإنصاف من النفس. أما الآخر فهو البطل الذي هز الدنيا بفتوحاته وانتصاراته وقوة بأسه... وبراعته الحربية الفائقة، وكلاهما عُرف بالشخصية الاستقلالية التي تأبى أن تخضع أو تُقاد أو تستكين. وُلِدا في مكة، وشبّا فيها، وعُرفا بالبطش والصرامة. أما أحدهما فأسرع إلى الإسلام بعد لأي، وأما ثانيهما فقد كان حربًا على المسلمين، إذ هزمهم في موقعة أُحد... ولم يُسلِم إلا بعد الفتح.
فلمَّا مات الذي استبق أبو بكر أولهما إلى جواره، يستشيره وأرسل ثانيهما يدفع عن الإسلام الردة... فجاهد المرتدين والمُتنبِّئين ومانعي الزكاة جهادًا قويًّا (ردّهم) به إلى الجادة وردَّ به إلى الإسلام الوليد هيبته في شبه الجزيرة. لعلك قد عرفت الآن من أعني: هما عمر وخالد.
عمر الخليفة الحازم الذي كان يضاعف العقوبة لأهله إذا أحدثوا أمرًا... وينقصهم في العطاء... ويردهم إلى الصفوف الأخيرة... هو عمر الذي لم يقبل من سيف الله (خالد)، أن يجيز لنفسه حرية التصرف في العطاء أو يسرف في إنفاق ماله من فيء. وكأنما كانت جائزة الأشعث بن قيس هي عقدة هذا الصراع بين القائد المظفر والخليفة الحازم.
غير أن الصراع كان من جانب واحد، من جانب الخليفة، الذي يرى أنه يجب أن يُرجع إليه في كل شيء... والذي يأبى أن تفتن خالدًا انتصاراته الضخمة في قليقِيَّة وأرمينية، وفي الشام والعراق... فيبيح لنفسه أن يعطي الشعراء وأن ينفق عن سعة حتى تُذكر إلى جوار (أريحية) ملوك بني غسان وملوك الحيرة.
ولكن عمر كان قد بدأ صراعه مع خالد من قبل، بدأه عندما طلب الخليفة الأول، سيف الله، ليسأله عن قتله ابن نويرة وزواجه بامرأته. فما أن ولي الخلافة بعد أن قضى أبو بكر... كان أول أعماله خطابه بعزل خالد وتأمير أبي عبيدة.
ولم يقل خالد شيئًا، بل عمل جنديًا تحت قيادة أبي عبيدة، وسجل له التاريخ أروع قصص البطولة والفتح... إلى أن بلغ عمر أن خالدًا أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف. هنا أحس عمر أن الأمر قد بلغ أقصى ما يمكن أن يكون من الخطر، وأن خالدًا قد أراد أن يتشبه بالملوك والأمراء، دون أن يقيم للخليفة وزنًا.
فكتب إلى أبي عبيدة يطلب إليه أن يستقدم خالدًا إليه، وأن يسأله: أَمِنْ مالك أجزت الأشعث من مالك أم من إصابة أصبتها؟ فإن زعم أنه أصابها فقد أقر بجِنَايَتِه، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأمره أن يعزله على كل حال، وأن يضم إليه عمله.
غير أن أبا عبيدة، على ما فيه من حياء وما يكنه لخالد من تقدير، أخذته الحيرة، ثم ترك الأمر لرسل الخليفة، واكتفى بأن كتب إلى خالد يستدعيه، وجمع الناس في المسجد الجامع وجلس على المنبر صامتًا.
قام بلال يسأل خالدًا: أَمِنْ مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة أصبتها؟ وأخذت خالدًا الدهشة في أشد صورها وأقساها؛ هذا الجمع الحاشد الذي حضره كبار المسلمين في المسجد الجامع، وهؤلاء هم بريد عمر، حضروا من المدينة ليسألوه في أمر من أموره الخاصة.
كان على عمر أن يدعوه إليه كما استدعاه الصديق من قبل، وعقدت الحيرة لسان خالد... وصمت ولم يجب؛ واتجهت الأنظار كلها نحو سيف الله... وكرر بلال السؤال. وأصر خالد على الصمت. وهنا قام بلال فعَقَل خالدًا بعمامته بعدما ضم يديه وراء ظهره ونزع عنه قلنسوته... وقال: إن هذا أمر الفاروق له... حتى يجيب عما سأل عنه. وألح خالد في الصمت... ووجم وجومًا شديدًا، وبدأ الدهش على وجوه الناس، وتمايلت رؤوسهم وتهامست ألسنتهم بالحديث.
من كان يظن منهم أن خالدًا الفاتح المنتصر الذي غزا الشام والعراق، وكان موضع ثقة رسول الله وثقة الصديق... يُوثَق بعمامته ليسأل عن عطية أعطاها؟ ومتى حدث هذا؟ بعد أن فتح خالد قنسرين التي استعصت وطال حصارها... وضجَّ عمر بالفرحة عندما بلغه الأمر، وقال: (أمرَّ خالد نفسه، ورحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني).
ولكن عمر لم يلبث أن أنكر تصرف خالد في أمر الهبة، فأمر بعزله وهو في أوج مجده، في الوقت الذي كان - في فم الروم والفرس والعرب - حديث المجد والبطولة والعبقرية. وبعد أن خضعت الممالك والعروش لصولة خالد، يجيء (بلال) الحبشي فيُوثق خالد بن الوليد بن المغيرة، وقد سوّى الإسلام بينهما، فيُوثِق خالدًا ويسأله: أَمِنْ مالك أم من إصابة أصبتها، أجزت الأشعث بعشرة آلاف؟
ويبدو أن صمت خالد قد طال، وأن ترقب الناس للكلمة التي يصدرها قد امتد، وتواردت على الأذهان - ولا شك - إذ ذاك صورة خالد في أمجاده الحربية، صورة الرجل الذي لم يعرف الذلة ولم يُطأطئ الرأس. أما خالد فقد كان في غمرة من الكبرياء الجريح، والغيظ المكبوت، والألم العبقري، وقد ألجمه هول الموقف فمضى في الصمت. وأخيرًا أجاب خالد: بل من مالي. وردَّ بلال: نسمع ونطيع لولاتنا، ونعظم ونخدم موالينا.
وغمرت الجموع فرحة كبرى حين سمعوا إجابة خالد، ووقف أبو عبيدة من خالد موقف الحيرة من أمر عزله الذي أرسله إليه الخليفة. إن عمر قد أقصاه عن إمارة الجيش يوم استخلف، ومع ذلك فقد ظل يفتح الممالك ويرد العدو... وهو جندي أربع سنوات طوال، أخضع دمشق، واستولى على الأردن وحمص، وقهر قنسرين وحلب وطرد هرقل من سورية، وزحف إلى أرمينية... وهو اليوم يعزله نهائيًا.
وانتظر أبو عبيدة، على عمر يغيِّر رأيه، غير أن عمر كان يعرف أن أبا عبيدة سيمنعه إجلاله وخجله وحبه لخالد من أن يبلغه قرار العزل، فأرسل عمر إلى خالد ينبئه... ويستقدمه. وذهب خالد إلى أبي عبيدة يعاتبه:
_ رحمك الله، ما أردت إلى ما صنعت، كتمتَني أمرًا كنت أحب أن أعلمه قبل اليوم.
_ والله ما كنت لأروِّعك ما وجدت إلى ذلك بدًا. وقد علمت أن ذلك يروعك.
إنه قد عزله بتهمة السرف، بعد أن دوخ كسرى وقيصر. لقد ذهب إلى قنسرين يودع جندها وأهلها، فلم يذكر عمر بسوء، ثم توجه إلى حمص وقصد إلى المدينة. وأخذت المدينة تتحدث عن الصراع بين خالد وعمر...
قالوا: كان على عمر أن يرسل إليه فيسأله، دون أن يحرجه أمام جنده أو يوقفه موقفًا مهينًا أمام الناس. وقال قوم: تُوزَن أخطاؤه وتُوزَن جلائل أعماله.
وقيل: كان على عمر أن يسأل أميره أبا عبيدة... وقالوا: كان على عمر أن يدع لخالد ما خصه من الفيء يتصرف فيه... فقد استفاءَ للمسلمين كثيرًا.
والتقى الرجلان وجهًا لوجه: قال خالد: لقد شَكَوتُك إلى المسلمين، وبالله إنك في أمري غير مُجمل يا عمر.
_ فأين ذلك الثراء؟ من أين هذا اليسار، الذي تجيز فيه بعشرة آلاف؟
_ من الأنفال والسهمان.. ما زاد على الستين ألفًا فهو لك.
وكأنما عزَّ على عمر أن يدع لخالد حصته، فأمر بأن تُقوَّم عروضه، فقُوِّمت بثمانين ألف درهم، ترك له منها ستين ألفًا وأخذ العشرين الزائدة، فأدخلها بيت المال...
وأقام خالد في المدينة، وسعى إليه بعض أنصاره، وبعض خصوم عمر، يحاولون إثارة الفتنة، غير أن خالدًا كان نبيلًا... إنه ردهم بحزم وقال: أما وعمر حي فلا...
وبقي عمر يُظهر لخالد إذا خلا إليه الرقة واللطف... عاتبه خالد مرة وقال له بكلمته المعروفة: لقد كنت في أمري غير مُجمل، واعتذر له عمر:
«يا خالد، والله إنك عليّ لكريم، وإنك إلينا لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيءٍ أبدًا».
وبرَّ عمر بيمينه ألا يلي له خالد عملًا. وأذاع عمر في الأمصار يقول:
«إنه لم يعزل خالدًا عن سخط ولا خيانة، ولكن الناس فُتنوا به، فخفت أن يُوكَلوا إليه ويُبتَلَوا به، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة»
وظل خالد... يعيش تلك الحياة التي لا يرضاها والتي وصفها مرة عندما أوقفت حركات الفتح في العراق بأنها سنة نساء. ومات بعد أربع سنوات من عزله، بعد أن أخذته الحسرات، حسرات الجندي الصوّال الغامر الجريء الذي يرى نفسه مبعدًا عن ميادين الجهاد. عاش حزينًا، يسمع أنباء الفتح، في فلسطين ومصر والعراق وفارس.. وهو مغمد السيف، أسير الخليفة الذي عزله، عمر الذي كسر سيفه...
فلما حضرته الوفاة صوَّر آلامه وأحزانه العبقرية في تلك العبارات الخالدة:
«لقد طلبت القتل في مظانه، فها أنا أموت على فراشي، ولقد حضرت مائة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح، وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير»
مات خالد ولم يترك من حطام الدنيا سوى فرسه وغلامه وسلاحه. وأسِف عمر، وامتزج به الحزن عندما علم بأنه لم يخلف شيئًا، وقام في الناس يقول:
«يرحم الله أبا سليمان، كان على غير ما ظنناه... إني أعتذر إليكم عن عزل خالد، فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطى ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فأمَّرت أبا عبيدة»
ولما رأى النساء يبكينه قال: «على مثله تبكي البواكي، كان والله سدّادًا لنحور العدو ميمون النقيبة».
قال له (علي): فلمَ عزلته؟
_ ندمت على ما كان مني...
لقد ذهب عمر إلى الحج، وكان ينوي أن يوليه بعد أن يعود، غير أن خالدًا مات قبل أن يعود عمر.
أي عظمة وأي جلال، يمكن أن يكتبها التاريخ لسيف الله (خالد)، أي نبل ورجولة، في مواقفه، في الحرب وفي غير الحرب. لقد كان الصراع بينه وبين عمر، من جانب واحد، من جانب الخليفة الذي كان يرى ألا يتصرف خالد إلا بعد أن يراجعه. ترى أكان يضيق عمر بخالد كلما ارتفع نجمه، وهل كان يحقد عليه... كما يذهب بعض المؤرخين؟ ذلك ما نستبعده، فقد عُرف عمر بالخلق الذي يرقى على الحقد.
إذا لماذا أقصاه من الإمارة، ثم عزله، ثم اقتسم معه ما أفاء الله عليه، وأبعده عن ميدان الغزو، وهو في أشد الحاجة إلى أمثاله؟ لقد اتُّهِم من قبل عمرًا، وحوسِب واقتُسِم معه ماله.. ولكنه لم يعزله.
ماذا كان يمكن أن يفعل خالد، لو امتد به الجهاد، كان من اليقين أن يبلغ عاصمة قيصر، وكان خليقًا بأن يقتحم القسطنطينية. هل صدق عمر حين اعتذر للناس في أمر خالد بأنه خشي أن يُفتَن الناس، وأن يظن الناس أنه أصبح ضرورة لا غنى عنها لانتصار الجيوش؟ وماذا كان يمكن أن يصل إليه الفتح لو اتحد عمر وخالد؟!
لقد انكمش خالد حين أريد له أن ينكمش، وآثر ألا يصطدم، وانصرف عن أنصاره المعجبين به في قنسرين وحمص والشام، وكان يستطيع أن يقف من عمر موقفًا ينتصف لنفسه به، ولكنه آثر ألا يفعل، فلما وصل المدينة التفَّ حوله أنصاره، وجاءه خصوم عمر، ولكنه كان أكبر من أن يثير فتنة، وهو الذي قضى على أكبر فتنة في تاريخ الإسلام: تلك في الردة.
لم ينتصف خالد لنفسه، واحتمل قضاء عمر فيه. واكتفى بأن صارحه بأنه لم يكن مُجملًا في أمره، وقضى أيامه يتسمع الأنباء بقلب حزين، وعين باكية... مما اعتصر حياته، فمات كمدًا. كان عمر يريد أن يحفظ للدولة ميزانها.. فظلم خالدًا. وأراد خالد أن يحفظ للدولة كيانها.. فظلم نفسه.