صحة

أزمة الطب النفسي: هل نعالج أعراض الاكتئاب ونترك المرض؟

يمثل الطب النفسي التطوري محاولة لإعادة التفكير في المرض النفسي، تحمل طموحا نحو إنهاء الاختلافات الواسعة حول طريقة تعريفنا للأمراض النفسية وتصنيفها.

future يجب التمييز بين سبب المرض النفسي وأعراضه

يبدأ الفيلم الإسباني «خطوط الرب الملتوية» God's Crooked Line بدخول المحققة أليس جولد إلى المصحة العقلية؛ حيث تقوم بتمثيل المرض من أجل الانسلال وسط المرضى للتحقيق في جريمة انتحار مريض سابق يُدعى دميان، هو ابن لصديق لها يُسمى الطبيب ديل أولمو. يشك ديل أولمو أن ابنه لم ينتحر، وإنما قتله أحد مرضى المصحة؛ اعتماداً على رسالة وُجدت عند موت ابنه.

تتعرف أليس على مريض يدعى إجناسيو، لا ترى عليه أيا من ملامح الجنون. تتسارع وتيرة الأحداث ليسألها إجناسيو في وقت لاحق عن سبب مجيئها؟ إذ لا يبدو عليها هي الأخرى ما يسيء إلى حالتها العقلية، لتخبره أليس بسرها وأنها ليست مريضة عقلية، وإنما محققة دخلت المصحة من أجل التحقيق في حادثة الانتحار، فيرد إجناسيو: «هذا مستوى من المرض لم أتوقعه على الإطلاق!».

تسود الفوضى بعد حدوث جريمة داخل أروقة المصحة، ولا يصبح إجناسيو الوحيد الذي يشكك في قوى أليس العقلية، بل ينقسم الأطباء فيما بينهم كذلك، ويظل المشاهد في حيرة من أمره حتى اللحظة الأخيرة من الفيلم.

هل يمكن أن يخطيء المرء في التعرّف على المريض العقلي؟ هل يمكن أن يخطيء الأطباء النفسيون أنفسهم في الأمر؟ لا حاجة للتساؤل كثيراً لأن هذا قد حدث بالفعل، في تجربة أجراها أستاذ علم النفس بجامعة ستانفورد، ديڤيد روزنهان ما بين عاميّ 1969 و 1972.

عن كونك عاقلاً في الأماكن المجنونة

إذا تواجد ما يُسمى العقل والجنون، فكيف لنا أن نفرق بينهما؟

هكذا استهل ديفيد روزنهان ورقته البحثية التي قلبت موازين الطب النفسي وقت نشرها في الدورية المرموقة Science عام 1973. جاءت تجربة روزنهان ضمن الحركة التي نشأت رداً على النسخة التي صدرت في هذا الوقت من الدليل التشخيصي للطب النفسي DSM الذي تصدره الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين APA.

أكّدت النسخة الثانية للدليل التشخيصي عام 1968 الزعم السائد بأن الحالات النفسية يمكن تمييز مرضاها عن بعضهم البعض، وعن الأشخاص الأصحاء كذلك، تماماً كما هو الحال في الأمراض الجسدية.

ولكن سُرعان ما تزايد منتقدو هذا الاعتقاد؛ فالتشخيصات النفسية -وإن طُرحت من قِبل حفنة من الأطباء وعلماء النفس الأكفاء- لا تزيد في النهاية عن كونها محض آراء موضوعية لكنها قد تخضع للتحيزات.

كان البروفيسور روزنهان من أعضاء الحركة المضادة للدليل التشخيصي الجديد، لكنه أراد تسوية الجدل الدائر بشكل تجريبي، فشرع في جمع المتطوعين ممن لم يسبق لهم أن يعانوا أعراضاً لاضطرابات نفسية خطيرة. ضمّت تجربة روزنهان ثمانية مرضى زائفين، وانضمّ روزنهان نفسه إلى المتطوعين، وقدّم المرضى الزائفون أنفسهم إلى المؤسسات النفسية ببطاقات هوية زائفة، وكانوا يشكون العَرض ذاته وهو «سماع أصوات» لأشخاص غير موجودين يتفوهون بجمل كلماتها المفتاحية «فارغ - أجوف - ارتطام»، كأن يقول أحدهم إنه يسمع صوت شخص ما يخبره أن «حياته فارغة وجوفاء».

فيما عدا الهلوسات السمعية، لم يشكُ مرضى روزنهان من أعراض نفسية أخرى، بل عند إلحاقهم بالمؤسسات النفسية، تحدث جميعهم عن حياتهم وأحداث الطفولة بكل مصداقية مُخفين بعض الأسرار الخاصة التي لن يغير إخفاؤها شيئاً في عملية التشخيص.

فور إدراجهم في المصحة، ذهب تشخيص جميع المرضى الزائفون نحو «الفصام» - عدا واحد شُخص بالهوس الاكتئابي - اعتماداً على شكوى الهلاوس السمعية فقط.

مارس مرضى روزنهان حياتهم بالشكل المعتاد وعاملوا بقية مرضى المصحة كما لو كانوا زملاء الجامعة. ولدى سؤال موظفي الرعاية الصحية هناك عن حالتهم، أكّد مرضى روزنهان على اختفاء أعراضهم النفسية بعد تناولهم الأدوية المخصصة التي قد سبق روزنهان ودرّبهم قبل التجربة على عدم ابتلاعها.

لِمَ شُخّص مرضى روزنهان بالفصام اعتماداً على الهلوسات السمعية فقط؟ للفصام أشكال متنوعة، إذ يتميز بشكل أساسي بعدم القدرة على فهم الواقع، يصاحبه انخفاض تدريجي في القدرات الإدراكية وصعوبات عدة في مهارات التواصل.

لقد شكّ مرضى المصحات التي ارتادها مرضى روزنهان في هؤلاء المرضى المزيفين، إذ قالوا أنهم ليسوا مرضى حقيقيين وإنما صحفيين، الأمر الذي لم يتوصل إليه مقدمو الرعاية القائمين عليهم، فلماذا؟

مجالٌ يسوده الارتباك

مثل العميان الستة الذين يلمس كل منهم جزءًا مختلفًا من الفيل، يركز كل نهج مختلف على فهم الاضطرابات النفسية على نوعٍ واحدٍ من المسبِّبات، وعلى نوعٍ واحدٍ من العلاج، فالأطباء الذين يبحثون عن العوامل الوراثية، والأمراض الدماغية يوصون باستخدام العقاقير، والمعالجون الذين يلقون باللوم على مرحلة الطفولة المبكرة، والصراعات العقلية يوصون بالعلاج النفسي، والأطباء السريريون الذين يركِّزون على التعلّم يقترحون العلاج السلوكي، وأولئك الذين يركّزون على التفكير المشوّه يوصون بالعلاج المعرفي، والمعالجون ذوو التوجّه الديني يوصون بالتأمل والصلاة، والمعالجون الذين يؤمنون بأن غالبية المشكلات تنبع من التفاعلات الأسرية يوصون عادة، كالمتوقّع، بالعلاج الأسري.
الطبيب الأمريكي ورائد الطب النفسي التطوري راندولف إم نيس

لا تبدو أن مشكلة انقسام المعالجين، وعلماء الطب النفسي حول ماهية المرض النفسي وعلاجه هي المشكلة الوحيدة التي تقصم ظهر البعير، فلا شك أن معرفة أساس المرض، وراثياً كان أو اجتماعياً أو غيره من المسببات، هي الخطوة الأولى في العلاج. لكن هناك خطوة دون الخطوة الأولى غالباً ما نغفل عنها في الطب النفسي، وهي معرفة المرض ذاته!

قد يُصاب المرء بالسُعال، وبعد إجراء مزرعة للبكتيريا في حَلْقه نكتشف أنّها السبب، وأن السُعال ماهو إلا استجابة دفاعية يقوم بها الجسم لطرد الغُزاة. قد يشكو المرء من البُوال -كثرة التبوّل عن المعتاد- وبعد إجراء فحص الدم، يتبيّن أنّه مصابٌ بداء السُكّري. في الطب العام، يُنظر إلى الأعراض كالألم أو السُعال باعتبارها استجابات دفاعية مفيدة تُنبيء عن وجود مشكلة، لكن في الطب كثيراً ما يُفترض أن الأعراض مثل القلق والحالة المزاجية المنخفضة -الاكتئاب- هي المشكلة نفسها، بينما هي في الحقيقة لا تزيد عن كونها مجرد أعراض تحمل في طياتها المرض النفسي الحقيقي، فيما يتمثل المرض النفسي الحقيقي في عدة أسباب أخرى نجهلها -حتى الآن- وتختلف من شخص لآخر، ويتساهل المعالجون النفسيون فيفترضون أنها نفس الشيء عند كل البشر، وأنها نواتج باثولوجية لدماغ معطوب، فعلى الأقل هذا أسهل من اعترافهم أنّنا كل تلك الفترة كنّا نعالج أعراض الاضطرابات النفسية فقط، وأن الاضطرابات نفسها لا تزال شبحاً يرفض الكشف عن وجهه.

تنضم مشكلة أخرى إلى هذه النقطة، وهي ضبابية الحدود بين الأمراض النفسية المختلفة، ففضلاً عن عدم وجود فحوصات معملية -مثل فحوصات الدم أو الأشعة- قد تساهم في الوصول لتشخيص بعينه، يُظهر غالبية المرضى داخل نفس الفئة التشخيصية أعراضاً واسعة للغاية، فنجد غالبية مرضى الاكتئاب يعانون كذلك من القلق، والعكس بالعكس. 

من أجل التغلّب على تلك المشاكل، قرر العلماء السير في كلا الاتجاهين، من جهة سنقوم بالضغط بقوة أكبر من أجل الحصول على الجينات، أو فحوص الدم، أو صور الأشعة التي يمكنها تحديد التشخيص، ومن ناحية أخرى سنحوّل تركيزنا نحو الدوائر الدماغية، شئنا أم أبينا يكمن مفتاح هذا اللغز داخل الدماغ، لكننا لم نتوصل له بعد لأنّنا تعاملنا مع الدوائر الدماغية كشيء صنعه مهندس بشريّ، بينما هي في الحقيقة معقّدة عضوياً ومتداخلة فيما بينها للحدّ الذي يستلزم المزيد، والمزيد من الجهد، والأعوام من أجل سبر أغوارها. لكن نظاماً بتلك الكفاءة كان من الممكن ألا يُطوّر الاكتئاب من الأساس فلماذا اختار الانتخاب الطبيعي أن نُصاب بالاضطرابات النفسية؟

لماذا نُصاب بالأمراض؟

من الممكن أن يستجيب جهازك المناعي بقوة أكبر في مواجهة الأمراض، لكن هذا سيزيد من تلف أنسجة جسمك. من الممكن أن تمتلك قدرة عيون الصقر على رصد الفئران على مسافة ميل، لكن ذلك يصاحبه التخلي عن الرؤية اللونية والطرفية. يمكنك أن تكون أقل شعوراً بالألم، لكن سيسهم ذلك في تعرضك للإصابات بمعدل أكبر، ويمكن أيضاً أن تكون منظومة التوتر لديك أقل حساسية، غير أن هذا سوف يقلل من درجة تأقلمك مع الأخطار. 

لماذا اختار الانتخاب الطبيعي أن يُصيبنا بالأمراض النفسية إذا كان في مقدوره أن يحدث العكس؟ إن طرح هذا السؤال يمثّل في جوهره خطأً فادحاً، فأي محاولة للإجابة عن سؤال: «لماذا شكّل الانتخاب الطبيعي مرض الشريان التاجي، أو سرطان الثدي، أو الفصام؟» تنظر ضمنياً إلى الأمراض بوصفها أوجهاً للتكيف، وهو ما لا يزال خطأً شائعاً في الطب التطوري. لم يشكّل الانتخاب الطبيعي الأمراض؛ فهي ليست عمليات تكيف، لكن شكّل الانتخاب الطبيعي جوانب الجسم التي تزيد من تعرّضنا للإصابة بالأمراض، فلماذا إذاً تتسم العقول بقابلية الإصابة بالمرض؟ 

هناك عدة أسباب تطورية وراء كون الأجسام/العقول قابلة للإصابة بالأمراض منها: 

1- عدم التوافق 

إن غالبية الأفراد في المجتمعات المتقدمة الآن، يعيشون أفضل بدنياً مما عاش الملوك والملكات منذ قرن مضى، لكن هذا لا ينفي حقيقة أن غالبية الأمراض المزمنة التي تصيبنا حالياً ناتجة عن العيش في بيئات حديثة، لقد تحولت حلول مشاكل أجدادنا القدماء إلى مصادر للشرور لدينا؛ فتوليفات السكر، والملح، والدهون كانت لتفيد أجدادنا في السافانا الإفريقية حيث تشحّ تلك الموارد، بينما الآن تمثّل أكبر مساهم في مرض السمنة، كذلك إتاحة الكحوليات والمواد المخدرة طوال الوقت سهّلت إدمانها في المجتمع الحديث.

2- العدوى

يبلغ طول الجيل الإنساني نحو خمسة وعشرين عاماً، بينما لا يزيد الجيل في البكتيريا على بضع ساعات، أي أن البكتيريا قادرة على تطوير نفسها بمعدل أسرع منّا بنحو 30 ألف مرة، ويشمل هذا التطوّر اكتساب دفاعات جديدة ضد العائل. تشمل أحد طرق تطوّر البكتيريا محاكاة أنسجة الجسم حتى يُخطيء الجهاز المناعي في التعرف عليها.

يمكن أن تُصاب بالوسواس القهري بعد إصابتك بنزلة معوية؛ لأن البكتيريا المصيبة تطورت عبر محاكاة الخلايا العصبية الموجودة في العقد القاعدية في الدماغ، مما سبّب تلف أنسجة الدماغ أثناء الدفاع عن الجسم

3-القيود

ليس الانتخاب الطبيعي شبحاً يُحقق الأمنيات؛ فلا يُمكنه مخالفة قوانين الفيزياء، لذا لن يكون لدينا أفيالٌ طائرة، ولن يخلق الانتخاب الطبيعي أجسام قادرة على توليد طاقتها بصورة ذاتية. 

4- المقايضات

لا يمكن الوصول بأي جسم إلى الحالة المثالية، لذا فإن القيام باكتساب ميزة جديدة، مثل تخفيض الشعور بالألم، سوف يؤدي بالمرء إلى نتيجة أخرى غير مرغوبة، وهي الموت مبكراً.

5- التكاثر

صُمّم الجسم ليس من أجل الصحة أو طول العمر، وإنما من أجل نقل أكبر عدد ممكن من الجينات، لا يأبه الانتخاب الطبيعي لطول العمر؛ لذا فيمكن أن يكون الجين المُسبّب للشيخوخة شائعاً، إذا كان مفيداً في مرحلة مبكرة من الحياة، فمن شأن نسخة جينية تسبّب تصلب الشرايين بحلول التسعين أن تكون شائعة إذا كانت أيضاً تسبّب شفاء العظام بسرعة أكبر في سن الطفولة.

يمثل الطب النفسي التطوري محاولة لإعادة التفكير في المرض النفسي تكشف لنا عن حقيقته، وهي محاولة لا تدعي أنها ستقدم حلا سحريا أو إسهاما علاجيا كبيرا في مواجهة الأمراض النفسية، لكنها محاولة تحمل طموحا نحو إنهاء الاختلافات الواسعة حول طريقة تعريفنا للأمراض النفسية وتصنيفها وتشخيصها، وهي خطوة قد تلعب لاحقا دورا كبيرا في قدرتنا على علاج الجذور الحقيقية للمرض النفسي وليس مجرد أعراضه الظاهرة.

# المرض النفسي # الطب النفسي التطوري # الطب النفسي

هل يمكن علاج الاكتئاب دون دواء؟

صحة