الموت جزء لا يتجزأ من أفلام لونرغان سواء كان ذلك محرك الحبكة الرئيس أو ما نكتشفه في منتصف الحكاية ونعي تأثيره على شخصياتنا التي نرى ظلال الموت مخيمة على وجوهها منذ البداية من دون أن نعي السبب أو من الممكن أن يكون مجرد تمهيد لحكاية سيظل أثر الموت في خلفيتها، حتى لو مرت عشرات السنوات عليه. اللافت للنظر أن لونرغان يهوى أن يجعل الموت في أكثر صوره عبثية وسخرية، وكأنه بيد يحاول أن يصور الحياة وكأنها بلا قيمة تزول لأتفه سبب، وباليد الأخرى يبرز لنا مدى قسوتها، فإن كل مشاهد الموت التي صورها كان من الممكن لأبطاله أن يتجنبوها بسهولة لولا تهور أو إهمال بسيط يصنعه معظمنا في حياته وبتكرار، لكن شاءت الأقدار لشخصياتنا ألا يحالفها الحظ كما حالفنا.
في تجربته الأولى في صناعة الأفلام وفي فيلمه المعنون بـ«You Can Count on Me- يمكنك الاعتماد عليّ»، يحكي لونرغان حكاية أخ وأخته، هما «تيري» و«سامي»، فبينما تمضي سامي حياتها بوصفها أماً عزباء بنجاح، توفق بين عملها وتربية طفلها «رودي» تتبدل حياتها قليلاً مع قدوم مدير بنك جديد يبدو من حديثه أنه غير متساهل وأكثر حزماً، ربما أكثر من اللازم، بدرجة لا تلائم بنك ببلدة صغيرة، وبينما تفكر في كيفية حل مشكلتها وإيصال ابنها من المدرسة إلى منزل جليسة الأطفال، تستقبل رسالة عند عودتها إلى المنزل يخبرها فيها أخوها بقدومه لزيارتها.
لدى لونرغان طابع خاص في حكاياته، فهي قادرة على أسرك تماماً وذلك لطبيعتها، فهي قصص عن بشر مثلك يحاولون في تلك الحياة الخانقة التي لا تعطي فرصاً كثيرة. تستطيع أن ترى نفسك في تيري الشاب العائد إلى مدينته الصغيرة، إذ يقابله أهل البلدة بحرارة منتظرين أن يسمعوا حكاياته وقصص نجاحاته، ولكنه عائد مع حقيبته التي لا تحوي إلا كثيراً من الخيبة والإخفاقات.
منذ اللحظة الأولى نتبين مدى سعادة سامي بقدوم أخيها، فنراها تعد عدداً من أصناف الطعام المتنوعة استعداداً لاستقباله لعدة أيام، وعندما يتقابلان وتعرف سامي السبب الحقيقي وراء اختفاء أخيها الأشهر الماضية وسبب زيارته الحقيقية والمدة التي ينوي بقاءها، تدرك أن أخاها لم يتغير، إذ لا يزال عالقاً في مستنقعه ولم يحقق أي خطوة للأمام، وهنا يكمن جوهر الفيلم وأفلام لونرغان كلها، فهي أفلام عن أشخاص يحاول فيها أحدهم انتشال الآخر، أفلام تنبذ الفردانية وتسعى جاهدة لإظهار عكس ذلك، وأن علينا أن نتقاسم الألم ما دمنا نتقاسم الفرح وما دامت مصائرنا مشتركة.
في ما بعد تتغير خطة تيري وتقترح عليه سامي أن يبقى معهم عدة أيام. يحاول تيري أثناء تلك الفترة جاهداً أن يثبت لسامي أنه يمكنها الاعتماد عليه في أي شيء، فيحل مشكلتها الخاصة بتوصيل ابنها من المدرسة إلى منزل جليسة الأطفال، ثم يحاول أن يقوم بأعمال تتطلب سباكاً مختصاً في العادة، فقط من أجل أن يبرهن لها أنه ذو قيمة.
ما يميز لونرغان حقاً هو نصه وقدرته- من خلال أدق التفاصيل وأبسطها- أن يدخلك إلى عالم شخصياته ويجعلك تعرف كثيراً عنها من دون أي افتعال، حيث يعرفنا إلى تلك الشخوص من خلال سير حياتهم، فنعرف أن والد رودي متغيب من خلال حوار سامي مع مدير البنك، وأن رودي لا يعرف من هو أبوه تحديداً من خلال حديثها مع بوب الذي بدوره نعرف منه قليلاً عن سامي وحياتها الشخصية وطبيعة علاقتها به.
لقطة من فيلم «You Can Count on Me»
يحاول تيري إصلاح حياته عن طريق رودي، فهو يرى نفسه فيه فيحاول أن يعلمه كل شيء، من كيفية طرق المسمار بأنسب طريقة إلى كيفية لعب البلياردو، كما يحاول إكسابه ثقة بنفسه، فيجعله صاحب ضربة الفوز. يسعى دائماً لجعله يعي أن الحياة خارج المنزل شديدة القسوة وأن عليه ترك تلك البلدة الصغيرة واستكشاف مستقبله بالخارج، وكأن تيري يحاول أن يعطي رودي ما لم يمنحه له أحد ويرى أن رودي بدوره يفتقر إليه، حيث إن تيري فقد والديه صغيراً كما رحل والد رودي عنه في السن نفسها تقريباً.
وفي منتصف الفيلم يتهاوى عالم تيري رويداً رويداً، وتفقد سامي ثقتها فيه عندما تعلم أنه كذب عليها وعندما ينسى اصطحاب رودي من المدرسة، وأثناء ذلك تعلق سامي عرض الزواج بـ«بوب» وتنخرط في علاقة مع مديرها المتزوج.
لا يقدم الأخوان على أنهما نقيضان، نموذج ناجح وآخر لا، إذ إن سامي ليست بالشخصية المثالية، فهي تهرب من حسم أمر علاقتها ببوب وتبقي كل الحلول ممكنة، وأثناء ذلك التهرب تنشئ علاقة مع مديرها المتزوج، وهو شيء يشابه طبيعة سامي المتهربة دائماً من مشكلاتها من خلال غض الطرف عنها والانشغال بأشياء أخرى، فبينما تذهب إلى الكنيسة وبدلاً من أن تعترف للقس (يقوم بدوره لونرغان نفسه الذي مثل أدواراً صغيرة في أفلامه الثلاثة) بخطيئتها، تحدثه عن أخيها الذي لا يؤمن بوجود إله، مما يؤجج الخلاف بين الأخوين.
لا يخلق لونرغان حالة الألفة مع قصته وشخوصه-الذين يجعلهم يبدون كأنهم أناس حقيقيون- عن طريق نصه فقط، بل يضاف إلى ذلك فلسفة الصورة لديه، إذ يتنقل في أغلب فيلمه بين اللقطات الواسعة والمتوسطة مع إيقاع مونتاجي هادئ لا يصبح حاداً إلا في لحظات المكاشفة والصراعات بين شخصياته، مما يكسب الفيلم حميمية وواقعية خلابة.
مشهد من فيلم «You Can Count on Me»
مشهد من فيلم «Manchester by the Sea»
يترك تيري المنزل قبل رحيله عن البلدة بأيام، ولكن تصر سامي على مقابلته قبل الرحيل، وذلك في مشهد نهاية يشابه نهايات أفلام لونرغان كلها، لا يختتم المخرج أفلامه بنهايات سعيدة بمعناها التقليدي، إذ تتميز أفلامه بطبيعتها التي يكسوها الحزن، ولكن ما يقلل من حدته أن بداخلها محاولة لإنقاذ الآخر، محاولات تكلل بالفشل في نهايتها، ولكن يبقى أجمل ما بها محاولة الإنسان انتشال أخيه قدر الإمكان، ورغم ما يغلف أفلامه من قتامة يستطيع لونرغان أن يترك ابتسامة لطيفة على وجهك في النهاية، لأنك تعلم أنه رغم فشل شخصياته في انتشال بعضهم بعضاً، فإنهم سيكررون المحاولة مرة تلو الأخرى، ولن يتخلى أحدهم عن الآخر.
رشح الفيلم لجائزة أوسكار أفضل سيناريو، وهو ترشيح في غاية الأحقية للونرغان، كما رشحت لورا ليني (سامي) أيضاً لجائزة أفضل ممثلة في دور رئيس. لم يرشح مارك رافالو (تيري) على الرغم من أدائه المتميز، لكن الفيلم كان بالطبع يمثل انطلاقته وبروزه بوصفه أحد أكثر الأوجه الواعدة في سماء هوليوود.
صنع لونرغان فيلماً عذباً هو أقل قسوة من فيلمه الأشهر «Manchester by the Sea- مانشستر على البحر» وأقل حدة على سبيل الصراعات وطبيعتها من فيلمه الثاني «Margaret- مارغريت»، لحناً بسيطاً دافئاً عن البشر والعائلة وما يمثله كل منهما للآخر، عن خيبات تلاحقنا أينما ذهبنا، ولكن ما يطمئننا دائماً هو أننا سنجد بيتاً دافئاً يحتضننا عندما تضيق بنا الحياة، وهذا ما يساعدنا على الاستمرار.