فن

My Favourite Cake: الحياة كعكة ساخنة في انتظار رفقة

تمتلك السينما الإيرانية حضوراً خاصاً يكون احتفائياً ومنتظراً بلهفة في المهرجانات العالمية.. مراجعة لفيلم My Favourite Cake الذي عرض بمهرجان القاهرة.

future ملصق فيلم «My Favourite Cake»

حكاية مخلصة لخفتها

تمتلك السينما الإيرانية حضوراً خاصاً يكاد يكون احتفائياً ومنتظراً بلهفة في المهرجانات العالمية، رغم العقبات الرقابية والسياسية التي تحاصر صناعها في الداخل الإيراني أو ربما تحديداً لذلك السبب. إذ ينتظر المتلقي الغربي من كل فيلم إيراني إدانة فنية وجمالية تفلت بأعجوبة من أنياب الرقيب، لتؤكد تصوراته المسبقة سياسياً عن إيران الإسلامية.

كثيراً ما تؤثر التوقعات المسبقة على العمل الفني قبل صنعه، وقد تتدخل في عملية صنعه نفسها، إذ تجرد الأيديولوجيا بكل صورها العمل الفني من أهدافه الجمالية وترتهنه لأجندتها السياسية، فيحدث أن يثقل العمل الفني بما لا يحتمله، وينتقل إخلاصه من شخوصه وحبكته الخاصة إلى أهدافه ومراميه العامة، فيبتذل جمالياته بمباشرة سطحية وخطابية.

قررت مشاهدة فيلم «My Favourite Cake» الإيراني، مثقلاً بالتوقعات ذاتها عن كل فيلم إيراني معاصر، خصوصاً مع متابعة أخبار منع الحكومة الإيرانية صناع الفيلم مريم المقدم وبهتاش سنيحة من مغادرة البلاد وحضور عرض الفيلم في برلين، وهو قرار سبقته بعدة أشهر إغارة حكومية على مكاتب الإنتاج صادرت مواد ونسخ الفيلم، ولولا نسخة احتياطية كانت موجودة في باريس، لم يكن الفيلم ليرى النور.

لكن ما يثير الاهتمام في فيلم «My Favourite Cake» بعد مشاهدته، أنه انفلت برقة من كل توقعاتي المسبقة، مثل بالون يحمل جمالية عصية على التوقع، لا تترك مشاهدها مع تترات النهاية إلا بدفء حزين وشجن معتذر عن توقعات الفتور المسبقة.

لا تثقل مريم وبهتاش الحكاية بالأيديولوجيا ولا يرتهنا أدواتهما الفنية كلها للاشتباك الكامل مع الواقع السياسي الإيراني، مثل فيلم «THE SEED OF THE SACRED FIG» للمخرج محمد رسولوف الذي فاز بعدة جوائز هذا العام أبرزها جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان، مراوحاً بثقل مرتبك أسلوب الفيلم بين الوثائقي والروائي مع استعراض مشاهد حية لانتفاضة المدن الإيرانية عام 2022 بسبب مقتل مهسا أميني. واتهام شرطة الأخلاق الإيرانية بمسئوليتها عن الحادث.

يمتلك «My Favourite Cake» خفة لا تحتمل، تجعله حراً تماماً من ارتهان حكايته لما يثقلها، مع فرادة ذكية في اختيار شخوصه.

بينما منح محمد رسولوف بطولة فيلمه لمراهقتين تمثلان GEN Z أو الجيل الإيراني الجديد الذي قاد أكبر موجة احتجاجات منذ الثورة الإيرانية عام 1979، يمنح «My Favourite Cake» بطولته لعجوزين في سن الـ70. يصعب أن تتمظهر عبرهما معاني الراهن والآني في إيران، لأن كليهما يمثل زمناً أقدم بكثير، وهي إيران ما قبل ثورة الخميني.

أن يحاكم الماضي لحظة راهنة

يبدأ الفيلم بالعجوز السبعينية ماهين التي ترقد بجسد سمين ومنهك في فراشها، بينما تناقض هيئتها الحالية، صورة زفاف قديمة معلقة على الحائط، تطل منها شابة عشرينية لا تشبه العجوز في شيء.

يمثل ذلك الكادر افتتاحية جمالية مؤطرة لجوهر الحكاية برمتها، تمثل ماهين أطلالاً متبقية من ماضٍ جميل، لم يعد موجوداً إلا في ذاكرة أصحابه، أطلال لا يزورها أحد، حيث يحيا أبناؤها وأحفادها في الخارج، بينما صديقاتها يزرنها مرة كل عام عندما تسمح صحتهن بقطع رحلة طويلة لمنزلها.

في مطلع عيد ميلادها الـ70، تهديها صديقاتها جهازاً لقياس الضغط، هدية تستشرف بها ماهين ما سيكون عليه الوقت المتبقي من حياتها، وهو صراع سيزيفي مع جسد يموت ببطء بفعل وطأة زمن ترى انتصاراته وأوسمته مرسومة على أجساد صديقاتها اللائي يرتدين الحفاضات ويستعرضن كل إصابة تحدث لهن باعتبارها سرطاناً محتملاً.

مشهد من فيلم «My Favourite Cake»

تظهر مقاومة ماهين الوحيدة لمصيرها المحتوم في وحدتها الليلية، عندما تغرق في مشاهدة الأفلام الرومانسية، والاستماع للأغاني القديمة، بينما تقوم بطلاء أظافرها، وتجربة أحمر الشفاه.

لا تخاف ماهين الموت الذي يقترب منها، إنما ترثي الأنثى التي ذبلت على مدار 30 عاماً منذ موت زوجها، لا تريد ماهين استعادة الماضي الذي لا يعود إنما تريد إنقاذ امرأة بداخلها أعلن الجميع احتضارها وهي بعد حية، مثلما تتقن إنقاذ نباتات حديقتها من الذبول برعايتها الحنون.

عندما تخرج ماهين من منزلها للفضاء العام، نجد الخارج انعكاساً لحالتها الداخلية، كادرات فسيحة ولكنها فارغة تليق بظهيرة كسولة، وهو الوقت الذي تستيقظ فيه ماهين وتقرر الخروج. مثل أهل كهف يخرجون في زمن لا يجيد استقبالهم، لأنه ببساطة تجاوزهم.

عندما تزور فندقاً اعتادت الجلوس فيه مع صديقاتها في شبابها، تجد كل شيء قد تغير، تعجز حتى عن طلب مشروب تحبه، عندما يخبرها النادل عن حاجتها لمسح الكود الإلكتروني بهاتفها، لا تفهم ما يعنيه وتنتهي مغامرتها بعودة للمألوف الذي تعرفه وطلبها الشاي كخيار آمن.

تبدو ماهين عالقة في زمن متقدم تكنولوجياً، وبارد في حضوره وهو ما ظهر في عاطفتها تجاه ابنتها، حيث تفشل خلال اتصال مرئي عبر الإنترنت في استعراض الغطاء الذي نسجته بيديها لحفيدها، ينقطع الاتصال بلا رحمة قبل أن تتمكن من البوح بحنينها المكتوم بكبرياء للأنس، ليتركها وحيدة في صالة منزلها.

ولكن خلال جلستها بالحديقة تُفاجأ ماهين بشرطة الأخلاق تتعنت في القبض على فتاة لارتدائها حجاباً غير لائق وزينة تبرز مفاتنها، تدافع ماهين عن الفتاة وتمنع الشرطة من القبض عليها. معرضة جسدها المنهك لاعتداء الشرطة واحتمالات سجنها.

لا تظهر ماهين في ما فعلته وعياً سياسياً، إنما هو دفاع ذاتي عن عقدتها الخاصة، وهو استبعاد أنوثتها من عيون من حولها، وهو ما تفهمه بسبب سنها المتقدمة لكنها لا تفهم كيف تحولت عقدتها الشخصية إلى مظهر أمني واجتماعي ترعاه الدولة وتفرضه على فتاة في عمر حفيدتها؟

مشهد آخر من فيلم «My Favourite Cake»

تعبر الفتاة عن امتنانها وعن حسدها في الوقت نفسه، لأن ماهين في عمر جدتها قد عاشت شبابها كاملاً، دون القلق من وضع غطاء الرأس أو ارتداء الفساتين. تحيا الفتاة في زمن تكنولوجي معقد لا تفهمه ماهين، لكنها تعبر عن أمنياتها بالعودة لزمن أكثر بدائية ولكنه أقل رعباً من الحاضر.

لا يأسر صناع العمل ظرف ماهين الخاص لصالح العام، إنما يحدث العكس، تسبغ ماهين مأزقها الخاص على المشهد الخارجي برمته، فتبدو شوارع المدينة امتداداً لمشهديتها الخاصة، أطلال قديمة لزمن أكثر رحمة، وأقل قسوة. عبر عيون ماهين الحزينة ومشيتها البطيئة المتمهلة، يحاكم الماضي الحاضر، ويبحث عن ملامحه القديمة في المشهد الراهن ولا يجدها.

الحياة، كعكة ساخنة في انتظار رفقة

في أحد المشاهد تجلس ماهين وحيدة في مطعم يقدم قسائم للمتقاعدين بجوار مائدة تستضيف مجموعة من الرجال، يشتعل رأسهم شيباً وهم يناقشون إضراباً محتملاً، تخلو مناقشتهم من الخوف، وتخلو من الأمل كذلك، فهم رجال يتحدثون عن غلاء لم يعد ممكناً معه حتى شراء القبور.

تتعلق عيناها برجل وحيد يقاربها في السن، ينهي طعامه، وتقرر تتبعه، لننتقل بخفة من مشهد متحفي لأطلال رجال من زمن مضى على وشك مواجهة فنائهم الشخصي، في ظهيرة كسولة تليق بمقبرة لا زوار لها، إلى رحلة على متنها شخصان في وصال حميمي، وهي المقاومة الأخيرة التي تقررها ماهين لمأزقها.

بينما يستمد العجائز من موتهم القريب شجاعة في تنظيم إضراب، يكفي لجمع أموال المقبرة، تستمد ماهين من الفكرة ذاتها شجاعة في خلق وصال يتذوق الحياة للمرة الأخيرة.

تعبر ماهين عن تلك الفكرة بكعكة زهر البرتقال بالفانيليا التي تجيد صنعها، لكنها تخبزها دوماً على أمل ظهور رفيق يمكن تناولها معه.

مشهد في فيلم «My Favourite Cake»

لا تتبع ماهين الغريب لوسامته أو لقوته، لا يملك الرجل جاذبية تعد بشيء، لا يمتلك سوى دفء تغلفه الوحدة مثلها، تجعله مرشحاً مثالياً لكعكتها.

أطلال يؤنسها الوصال

في سيارة أجرة عتيقة، تخبر ماهين الرجل بشجاعة أنها تريد استضافته في منزلها، يتملكها الخجل الخفي من التجاعيد في ملامحها فيقدم لها يده لترى أثر شظايا وندوب قديمة، يخبرها عن زمن كان فيه ملازماً شاباً بالجيش ثم قامت الثورة الإسلامية لتدفعه بقسوة إلى خطوط القتال الأمامية، لتحفر الحرب ندوبها على جسده ويخرج منها كافراً بجدوى الشعارات والقتال.

أقسم الرجل الذي يدعى فرامارز ألا يحمل البندقية مجدداً، وحمل مكانها آلة التار الموسيقية التي تشبه العود، والتي وضعته في مأزق مع شرطة الأخلاق، لولا تقديرهم لكونه من المحاربين القدامى فأطلقوا سراحه.

مشهد آخر من الفيلم

تخلق حكايات ماهين وفرامارز تآلفاً جمالياً وسريعاً بين روحيهما، كلاهما أطلال قديمة لزمن ولى، أطلال تحفر تجاعيدها وندوبها على أجسادهم، لا تمثل مقاومتهم العابرة لشرطة الأخلاق الحالية خطراً، فالشرطي الذي واجهته ماهين لا يرى فيها إلا عجوزاً تريد جذب الانتباه لا أكثر، والشرطي الذي واجهه فرامارز بآلته الموسيقية لا يرى فيه إلا بقايا جندي قديم.

تقول ماهين، إنها لا تغادر إيران للعيش مع ابنتها بالخارج لأن بمجرد مغادرتها ستقوم الدولة بمصادرة منزلها غير الموثق، وستدمر حديقتها وذكرياتها لأجل ساكن جديد، بينما يقول فرامارز، إن الحكومة لم تقدم له تعويضاً عن إصاباته إنما تقدم قبراً مجانياً ينتظره.

يمثل الثنائي ذاكرة قديمة تنتظر الحكومة زوالها لتؤطر حضورها كأزل لم يسبقه شيء، وأبد لا يليه شيء، ذاكرة تحتضر متروكة لتحللها البطيء، ومسلحة بشجاعة ساخرة، قوامها أنه لا يمكنك إرهاب شخص لا مستقبل له، ينسحب الهم العام وشرطته وعيونه ليتركا عجوزين في انتظار كعكة تخبز بحب وبطء لا يعير الزمن اهتمام.

العمر، ليلة مختلسة من شرطي الزمن

في أمسية دافئة، تخرج ماهين زجاجة نبيذ محرمة، ويتناول فراماز أقراصاً زرقاء موقظة لشهوة ذابلة، يفسد عجوزان ليل طهران الهادئ والخائف، بإصلاح المصابيح المعطلة، وتشغيل الموسيقى والرقص بلا خوف.

مشهدان من فيلم «My Favourite Cake»

ترتدي ماهين ثوباً تلو الآخر، كأنها تعوض ثيابها القديمة عن 30 عاماً كاملة من غبار الترك في ظلام الخزانة، يزدرد الثنائي كؤوس النبيذ دون خوف من حماقة يقود لها السكر، ويؤمما المستقبل لصالح خطط ثورية لتعتيق النبيذ ودفنه في حديقة المنزل لأجل أمسيات مستقبلية لا تكفيها زجاجة نبيذ واحدة.

تبدو أمسية ماهين وفراماز برمتها لهاثاً جمالياً ضد الزمن، تظهر ذروته عندما يستسلمان لحمام بارد بثيابهما دون وقت لخلعها أو الخوف من برودة المطر بالخارج.

لقطة من فيلم «My Favourite Cake»

تخرج ماهين كعكتها الأثيرة من الفرن، المزينة بالفانيليا وروائح البرتقال، الطقس الدافئ الذي تختزنه بعناد مع الزمن مثل زجاجة النبيذ القديمة، في انتظار المحبوب الذي أتى أخيراً وفق شروط قلبها، ولكن بوصولها لحجرة النوم، تجد فراماز ودع العالم وعلى شفتيه شبح ابتسامة.

لا تهتم ماهين كثيراً بروع موت رجل غريب بمنزلها، ولا النبيذ الذي يسري في عروقها وتخرج رائحته من فمها، وهي ظروف لا يمكن شرحها بتسامح لشرطة الاخلاق، لا تعبأ بشيء سوى أن عشيقها الموعود قد غادر العالم دون أن يتذوق كعكتها.

لقطة من الفيلم

كان هذا خوفها الوحيد، أن تموت قبل أن تقدم كعكة مخبوزة بالحب لرجل يقدم لها قلبه، وكان خوف فراماز الوحيد أن يموت وحيداً في منزله دون أن يجده أحد، تصل ماهين لمساومة جمالية مع الفقد، عندما تصطنع حفرة في حديقتها لدفن فراماز بين زهورها، فيطمئن قلبه بالأنس الذي لم يجده في حياته، وتودعه بوضع قطعة كعك في فمه ليكتمل طقسها الأثير.

تجلس ماهين في الكادر الأخير مثل جلستها في الكادر الأول، لتترك المتلقين شهوداً سريين على مغامرة عمرها ليلة واحدة، لن يعرفها أبناؤها أو جارتها الفضولية أو شرطة الأخلاق، لن يعرفها أحد سوانا كمتلقين، مغامرة جبرت 30 عاماً من الرتابة بحياة مكثفة ومدمجة في ليل قصير.

بعض النباتات تبقى للأبد

خلال ليلتهما الموعودة اختلفت ماهين وفراماز حول شيء واحد، قناعتها بأن النبتة التي نزرعها بحب تبقى للأبد، وقناعته بأنه لا شيء يستمر للأبد، تصر ماهين على حراسة أبدية أزهارها التي تسقيها كل صباح، بينما يعلمها فراماز سكب قليل من النبيذ في طقس متصالح مع الموت والزوال، فالقليل الذي ينسكب، نتذكر به موتى رحلوا دون أن يأخذوا نصيبهم من اللذة.

يصعب تحديد الرسالة التي استنفرت السلطات الإيرانية لمصادرة الفيلم ومنع مخرجيه من السفر، والتسلط على رحلة شخصية لعجوزين على وشك المغادرة، لا تحمل أرواحهما سوى أطلال زمن قديم يحتضر.

لا تحمل ماهين شيئاً من أدوات المقاومة سوى جسد عليل، وذكريات وكعكة تنتظر محبوباً قادماً، ويقين أبدي بأن الزهور التي زرعت يوماً بحب لا تموت، وهو عزاء سيختبره فارماز بجسده عندما تنبت منه الورود. ربما تلك المعاني هي ما يخلق راهنية مزعجة. لعجوزين رفضا بعناد أن يصيرا تذكاراً متحفياً لهزيمة وذبول. وهذا ما تعنيه السينما، أن تخلص القصة والحبكة لشخوصها ولعالمها الذاتي، فتترك رسائلها أثرها في الفضاء العام بلا تكلف ولا ضجيج، مثل كعكة فانيليا تخبز على مهل، لأجل زائر لا يستعجل ثمار متوقعة

# السينما العالمية # سينما # السينما الإيرانية # مهرجان القاهرة السينمائي الدولي

فيلم «دخل الربيع يضحك»: موسيقى الحياة اليومية
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن