فن

Beetlejuice 2: بيرتون في زيارة شخصية للماضي

هل يكمل Beetlejuice 2 جمالية جزئه الأول الذي تحول لكلاسيكية متفردة مهدت الطريق لمسيرة مخرجه الأسطورية وحولته من رسام فاشل لصاحب مدرسة متفردة بهوليوود؟

future الممثل والمنتج والمخرج الأمريكي مايكل كيتون، من فيلم Beetlejuice Beetlejuice (2024)

بيروقراطية كافكا تخلق سينما مثيرة

«يمكن تلخيص الكافكاوية باعتبارها اختزال الوجود في موقف بيروقراطي معقد فرضته قوانين سخيفة ومستندات لا حصر لها وضعت ترتيبها سلطة عليا غائبة ولا تحضر للتفسير، والمرعب أن هذا الموقف الوجودي في النهاية لا فكاك منه»

— سوزان برونوفسكي

عندما أراد كافكا يوماً مواجهة سلطة أبيه الطغيانية التي مهما طاولها لم يسم أبداً لتوقعاتها منه، قام بكتابة مستند بيروقراطي من 100 صفحة، يفصل فيه طبيعة علاقته بأبيه، حلاً مستمداً من المهنة التي شغلها كافكا طوال حياته وهي موظف تأمين مكتبي.

لم يقدم كافكا المستند لأبيه، ولم يواجهه كذلك، لتظل العلاقة بينهما قوامها وثيقة بيروقراطية عالقة في درج مكتب، لم تحقق وصالها بين أطرافها ولم تمنح كاتبها خلاصه.

تعد تلك الوثيقة صورة مصغرة من أدب كافكا كاملاً، حيث يستيقظ جريجور سامسا في رواية «المسخ» ليجد نفسه قد تحول إلى حشرة، ولا يجد كتيب تعليمات بيروقراطياً يخبره كيف يذهب إلى العمل بتلك الهيئة؟ ورواية «القلعة» التي يتوه بطلها العامل خلال رحلته لاستلام عمله بقلعة الكونت، ويتحول التيه من حدث عارض إلى القصة بأكملها، لن يستلم العامل وظيفته أبداً وسيظل عالقاً للأبد في متاهات بيروقراطية، بينما في رواية «المحاكمة»  يعلق المتهم «جوزيف كي» في محاكمة قانونية روتينية لا يدرك فيها تهمته ولا تتيح له جبال المستندات حتى فهم الحكم النهائي أو مصيره.

يبدو كافكا مثل رجل جاء إلى العالم من دون كتيب تعليمات بيروقراطي يخبره بما عليه فعله، حضوره أقل ملحمية من خطيئة وجودية إنما لا يعدو أن يكون خطأ مكتبياً، ورقة ضلت طريقها من تسلسل معاملات صارم حتى باتت بمفردها بلا قيمة (ربما يفسر ذلك تشديد كافكا على صديقه ماكس برود بحرق كل ما كتبه، باعتبارها أوراقاً ذات هذيانية لا مكان لها في العالم، ولكن لحسن الحظ لم يفعل برود ذلك).

يصعب أن تجد معادلاً سينمائياً لكافكا، بفرادة السينمائي «تيم بيرتون»، في عام 1988، قدم تيم بيرتون فيلمه الثاني «بيتلجوس Beetlejuice» عام 1988 الذي تحول إلى كلاسيكية متفردة مهدت الطريق لمسيرة بيرتون الأسطورية في ما بعد التي حولته من رسام فاشل ومطرود من شركة ديزني لغرابته إلى صاحب مدرسة بصرية وفنية متفردة في هوليوود.

يدور «Beetlejuice» حول زوجين سعيدين، يتعرضان لحادثة سيارة مروعة تنتهي بوفاتهما، يستيقظ الزوجان في منزلهما مثلما استيقظ جريجور سامسا في «المسخ» وقد ظنا مثله أنهما تعرضا لحلم مروع لا أكثر، ولكن بعد كثير من الوقت سيدركان أنهما ميتان!

مشهد من فيلم Beetlejuice 1988

من هنا سيقوم بيرتون بتحويل الموت إلى كابوس بيروقراطي، يبدأ بكتيب تعليمات بعنوان «دليل المقتولين حديثاً» يقود الزوجين إلى عالم الموتى الذي لا يعدو أن يكون متاهة بيروقراطية يقطع فيها الميت رقماً وينتظر لساعات قبل أن يصل إلى موظف مدني يخبره بأطنان من المعاملات عليه إنجازها.

لا يمتلك موظفو عالم الموتى أي إجابة عن أسئلة الموتى الوجودية، حول سبب موتهم أو عدالته، يعمل موظفو هذا العالم بتفانٍ مثير للإعجاب مثل تروس معاكسة لبعضها لكنها انسيابية في دورانها دون قيود، لكن لا يوجد إله أو شخص يفسر إلام تقود تلك الآلة البيروقراطية تحديداً، مثل بطل «المحاكمة» لا يدرك الزوجان طبيعة محاكمتهما ولا الحكم النهائي.

مشهد من نفس الفيلم Beetlejuice 1988

يمتلك بيرتون مثل كافكا طبيعة غرائبية من طفولته جعلت نيله المقبولية من والديه عسيراً، فهو ابن ضاحية بيربانك في كاليفورنيا، ضاحية راقية تمثل أسمى ما يتوق له المؤمنون بالحلم الأمريكي، منزلاً بحديقة وأطفالاً مطيعين وسيارة حديثة. ولكن الطفل بيرتون تعلق قلبه بالمقبرة الرابضة في نهاية حي بيربانك، التي ذهب لها وقضى فيها أغلب أوقاته، كطفل لا يمتلك أصدقاء ولا يفهمه أبواه. منحته مقابر الموتى بِصمتها المهيب موافقة على الصحبة وحباً غير مشروط.

بعد موت الزوجين في «Beetlejuice» يستوطن المنزل آل ديتز الذين تجسد ابنتهما المراهقة «ليديا ديتز» المعادل السينمائي لبيرتون، مراهقة قوطية، تصف حياتها بقبو مظلم، تمتلك ليديا هبة فريدة وهي قدرتها كبشرية على رؤية الأشباح والتحدث معهم مثلما ظن بيرتون الطفل في نفسه قدرته على وصال موتى المقبرة، تعلل ليديا ذلك بقولها:

البشر يتجاهلون كل ما هو غرائبي وعجيب، وأنا أمثل كل ما هو غرائبي وعجيب.

يتفق بيرتون وكافكا في اغترابهما الكامل عن عالمهما، وصعوبة استقائهما المعنى من الأبوين والمجتمع، وانغماسهما في الفنون كوسيلة وحيدة لمغترب لإبراز اغترابه، ولكن لا يرى «بيرتون» وجوده باعتباره خطأ مكتبياً لا حل له، ولا يصف حياته بخفة وعبثية ورقة بيروقراطية أفلتت من الدفتر الذي يمنحها المعنى، إنما يراه باعتباره ميزة تمنحه القدرة على الإطلال على عوالم يعافها سواه.

يرى كافكا الموت حلاً نهائياً لمعاناته، لا يمكن التجهز له سوى بجرد بيروقراطي أخير يدمر فيه بوصيته كل ما كتبه لكيلا يفسد نسق عالمه الرتيب بثرثرته المكتوبة، بينما يرى بيرتون الموت وصالاً مع كائنات غرائبية مثله، قد تمنحه السلوى و الأنس والأهم الحب الذي لم يجده من والديه.

لذلك يرى بيرتون أن عيد الأموات المكسيكي هو المناسبة الوحيدة التي تستحق الاحتفاء لأنه جوهر سينماه، إنه عيد يحتفي بالموت كمحطة للتعرف على جوانب منا لا يمكن أن تقدمها لنا تجربة العيش وحدها وهذا يستحق الاحتفاء.

يستقي بيرتون من الكافكاوية سخريتها ومفارقتها، ولا يستقي مصيرها، بينما ينتهي مصير أبطال كافكا بوصولهم المتاهة، تبدأ مغامرة أبطال بيرتون بالوصول، ومثلما تحتوي عوالم البشر على الغرائبيين فيها، تمتلك عوالم الموتى، كائناتها الغريبة وهنا يظهر «بيتلجوس».

شبح فوضوي في بيروقراطية منظمة

«-ما هي مؤهلاتك؟

 -حسناً، أنا خريج الجوليارد، ومدرسة هارفارد لإدارة الأعمال، عاصرت الطاعون الأسود، وشاهدت فيلم طارد الأرواح 167 مرة وكل مرة يصير أكثر إمتاعاً، لكن الأهم أنني ميت، هل يجعلني هذا مؤهلاً لمساعدتك؟»

— «Beetlejuice»

مثلما تغيب سلطة الإله وعدالته ونظامه في متاهات كافكا البيروقراطية القلقة، يغيب الإله عن تنظيم عالم الموتى في «Beetlejuice»، لذلك تظهر شخصيات طفيلية تحاول ملء هذا الفراغ، وتعبر في الوقت ذاته عن عبثية الحياة عندما تصل للضفة الأخرى من الوجود وتجد عالماً بلا إله أو نظام.

يعد «بيتلجوس» شبحاً شهوانياً فوضوياً يدعي قدرته على طرد الأحياء الجدد الذين يحاولون استيطان منازل الأشباح، فهو طارد أرواح بالمعنى العكسي، يطرد البشر من ملء المساحات التي تركها الموتى.

لقطة من فيلم Beetlejuice 1988

يقدم «بيتلجوس» نفسه للزوجين المتوفين حديثاً، باعتباره نقطة نظام مفترضة ومختصرة بدلاً من غرقهما في المعاملات البيروقراطية التي لا تنتهي لعالم الأموات. لكنه في حقيقة الأمر يستغلهما ليمنحاه دعوة حضور لعالم الأحياء الذي يمكن أن يشبع شهواته من جديد. في عالم لا تمنح فيه الآخرة جنة أو جحيماً تصير العودة للعالم الأرضي دعوة أكثر إمتاعاً لسكنى حيز نعرفه ونألفه من قبل.

جمالية مؤنسة تروض رعب المتاهة

«يمكن للأحياء والموتى أن يعيشوا معاً»

— «Beetlejuice»

لا ينتهي فيلم «Beetlejuice» بهزيمة الشبح الشهواني وحسب إنما تقف المراهقة ليديا أمام طموحات والديها الرأسمالية في تحويل فكرة وجود الأشباح إلى بيزنس تجاري يجتذب آلاف المستهلكين الذين يتوقون للتعرف على لمحة من عالم الآخرة وأشباحه. يحيا أخيراً شبح الزوجين في سلام متناغم مع أسرة ليديا الجديدة دون أن يفسد أحدهما مساحة الآخر.

 

يؤسس بيرتون بتلك النهاية رؤيته لسينماه ولعالمه، الموتى لن يعودوا أحياء من جديد، فقد مروا بتجربة العيش خاصتهم، والأحياء لا يمكنهم نزع السحر عن لغز الآخرة والموت وتحويله إلى نشاط تجاري، فالمقبرة هي المكان الوحيد الذي وجد فيه بيرتون ذاته خارج إملاءات أسرته والحلم الأمريكي، ولن يسمح بأن تحتله أضواء الشهرة الاستهلاكية المبتذلة.

يمكن فقط أن يحيا الطرفان بتجاور ساحر، تقارباً يجعل الأحياء يروضون علاقتهم بالموت، ويرونه تجربة احتفالية بحياة مضت وليس شراً، وتقارباً يمنح الأموات فرصة لزيارة أحبائهم والاستعاضة بالأنس لو لم تمنحهم الآخرة إجابة أو تفسيراً إلهياً مرضياً لتجربة العيش السابقة.

يبدو Beetlejuice 2 تجربة مكتملة وجمالية تروض فكرة كافكاوية شديدة الإرعاب بتكاتف سعيد يكسر وطأة متاهة بيروقراطية، تكاتف يجعل المتاهة أكثر أنساً وأقل كابوسية.

يعبر بيرتون عن تلك الجمالية بصرياً باعتماده المخلص على ديكور وبصريات السينما التعبيرية الألمانية التي ظهرت بعد حطام الحرب العالمية الأولى، وكسرت نسب الواقع لصالح لوحات قوطية من الأبيض والأسود والظلال.

لقطة من نفس الفيلم Beetlejuice 1988

عبرت التعبيرية الألمانية عن شخصيات غير ناضجة يرعبها المجتمع ويصيبها الزمن وفترات الانتقال بالهلع بعد تجربة الحرب المروعة، ولذلك تحولت تجربة «Beetlejuice» إلى ما يعرف بالـ CULT MOVIE وهو الفيلم الذي يمتلك طوائف محبة ومتعصبة له عابرة للأزمنة. لأن التجربة الشعورية التي يحملها الفيلم لا تزول. فالفيلم يمثل متنفساً لكل شخصية تشبه بيرتون أو ليديا أو حتى كافكا. شخصيات تعاني اغترابها الكامل عن مجتمعها، وتحتاج الأنس ولو كان بوصال عالم أشد غرائبية، وإيجاد صيغة للاحتفاء بمعادلة الوجود المعقدة حتى لو لم تعدنا بخلاص نهائي في عالم الأحياء أو الموتى.

قدم بيرتون على مدار 36 عاماً بعد فيلمه ذاك، تنويعات كثيرة عن أفكاره الفلسفية، في أفلام عن مغتربين يجدون الحب باعتباره العملة الوحيدة التي تصلح للعالمين معاً، عالم الأحياء والموتى، العاديين والغرباء، الطبيعيين بتعريف مجتمعهم والمنبوذين منه، أفلام مثل إدوارد ذي المقصات والعروس الجثة وفرانكويني.

لا يبدو الموت سيئاً للزوجين في فيلم «Beetlejuice» ما داما يواجهانه معاً، بينما تبدو العودة للحياة ناقصة للشبح بيتلجوس عندما يعجز عن فرض حبه على المراهقة ليديا لتوافق على الزواج منه.

بعد 36 عاماً يقرر بيرتون زيارة تحفته «Beetlejuice» بجزء جديد، يعود فيلمه من عالم الأموات مثلما يعود شبحه بيتلجوس، فهل يمنحنا بيرتون عبر زيارة جديدة إلى عالم الأموات جمالية لم يقلها مسبقاً، أو إجابة نحتاجها في 2024، وهل كلاسيكية خالدة من عقد الثمانينات يمكن استخدام أدواتها لوصال زمننا الحالي؟

تيم بيرتون يزور ماضيه

«لا يتعلق الجزء الثاني بجمع المال، إنما يتعلق بالوقت، كنت أحتاج لثلاثة أجيال، جدة وأم وحفيدة، وهذا يحتاج ثلاثة عقود كاملة، لذلك جاء وقت بيتلجوس 2 في عام 2024».

— تيم بيرتون

لا يبدو «Beetlejuice» سوى محاولة شخصية جداً من تيم بيرتون لزيارة ذاته القديمة، أكثر منها محاولة فنية لسرد جديد، في أحد حواراته للترويج للفيلم يقول بيرتون:-

«مع تقدمك في السن، تأخذ حياتك أحياناً منعطفاً ما، وقد فقدت نفسي قليلاً. لذلك، بالنسبة لي، كان هذا الفيلم بمثابة إعادة تنشيط، ونوعاً من العودة إلى الأشياء التي أحب القيام بها، والطريقة التي أحب القيام بها ومع الأشخاص الذين أحب القيام بذلك معهم».

بعد ثلاثة عقود من الجزء الأول، يقوم بيرتون بتقييم سينماه كاملة، بالعودة إلى منبعها الصافي أو لحظات الدهشة في أفلامه الأولى، ليقينه الشخصي كمخرج مخضرم نجح في تصدر شباك التذاكر وإخضاع هوليوود لسلطته لسنوات، أنه يصعب لفنه أن ينجو من تلك المسيرة دون أن تتأثر أصالته وتتسرب لها أمراض هوليوود نفسها.

يمكن أن نرى هذا الهاجس في تقديمه لشخصية المراهقة ليديا، التي باتت في الجزء الجديد أماً في منتصف العمر، بينما نجحت ليديا في الفيلم الأول بحماية شبح الزوجين من استغلالهما تجارياً للدعاية لعالم الموتى، نجد ليديا الحالية تمتهن الخزي الذي حاربته، المراهقة السوداوية باتت نجمة مؤثرة ببرنامج تلفزيوني يسمى «ghost house» تتناول فيه تجارب دخولها منازل الأشباح ووصال الموتى.

في الجزء الأول اختبأت المراهقة ليديا طوال الوقت خلف عدسة الكاميرا، كوسيط يعبر عن اغترابها عن عالمها الحقيقي ووصاله من خلال عدسة، وفي الجزء الثاني تنظر ليديا إلى عدسة الكاميرا وتقوم بعرض مبتذل عن عالم الأموات لإثارة العواطف والرعب بحثاً عن مشاهدات أعلى. حتى تجد شبح بيتلجوس يطاردها بين المتفرجين.

يعود بيتلجوس إلى مطاردة حبيبته الأثيرة وكذلك إلى مطاردة صانعه، الذي يحمل هاجساً مخيفاً بأنه تحول مع الوقت إلى مخرج تجاري يستغل مدرسته لابتذال فكرة وصال المجهول والموتى. مثلما يستغل بيتلجوس حاجة الأحياء والأموات للإرشاد لصالح أجندته الخاصة طوال الوقت.

تأتي تلك المساءلة من الجيل الأصغر وتحديداً ابنة ليديا «أستريد» التي تكره حياتها في ظل نجومية والدتها الثقيلة، لا توجد ليديا كثيراً لأجل ابنتها لانشغالها ببرنامجها التلفزيوني، ولا تجد أستريد عزاء في أبيها الذي فقدته قبل أعوام. تصب أستريد غضب الفقد على والدتها التي تدعي قدرتها على وصال كل الموتى لكنها تعجز عن وصال شبح الأب.

مشهد من فيلم Beetlejuice Beetlejuice 2024

كتب سيناريو «Beetlejuice 2» الكاتبان «ألفريد جوف» و«ميلز ميلر» وهما الكاتبان نفسهما لمسلسل «Wednesday» الذي شارك تيم بيرتون في صنعه لـ«نتفليكس» وحقق نجاحاً مدوياً وبخاصة بين أوساط الجيل زد. مما شجع بيرتون على استعارة نجمة العمل وكتابه في مساءلة سينماه قديماً بعيون الأجيال الأحدث.

وبعد تعثر محاولة كتابة جزء ثان لتحفته 15 مرة على مدار 30 عاماً، يعتقد بيرتون بعد نجاح «Wednesday» ونجمته جينا أورتيجا التي تمثل شراكة واعدة من الجيل الجديد لسينماه مثل شراكته القديمة مع وينونا رايدر وجوني ديب أن الوقت قد حان لمغامرة جديدة لبطلة من هذا الجيل في عالم الأموات خاصته.

تبدأ مغامرة «Beetlejuice 2» بفعل عودة مكانية إلى المنزل الذي دارت فيه فانتازيا الجزء الأول، تعود أسرة ديتز إلى منزل وينتر ريفر بولاية كونيتيكت لدفن الأب ريتشارد الذي مات بشكل سريالي بعد سقوط طائرته في المحيط ليتحول إلى وجبة للقروش ( وهي ميتة يرتعد منها بيرتون في الواقع وتمثل هاجساً حقيقياً له)

لم يتغير منزل وينتر ريفر كثيراً عن حالته الأولى، وبخفة ينقلنا بيرتون من منزل الأحياء إلى عالم الموتى الذي لم يتغير كذلك كثيراً عن الجزء الأول في بيروقراطيته العدمية وديكوره المقبض المستعار من التعبيرية الألمانية، في إشارة ذكية من بيرتون أن أرض الأموات لا تحركها البيروقراطية إنشاً نحو خلاص ولو بصري. فالزمن هنا ميت ويعكس رتابته على المكان.

يؤطر هذا الانطباع الممثل العجوز «داني ديفيتو» الذي يعد أول وجه يقابلنا عند النزول إلى عالم الأموات، وهو أحد نجوم سينما تيم بيرتون القديمة بتمثيله الأيقوني لدور الرجل البطريق في فيلمه «عودة باتمان 1992»، يبدو ديفيتو مثل عامل تنظيف ينتمي إلى عالم الموتى، وكذلك أحد وجوه ماضي بيرتون.

لقطة من فيلم Beetlejuice Beetlejuice 2024

لا تحمل ثلاثة عقود ثقلها في عالم بتلك الرتابة، فيبدو الأمر كأن أحداث الجزء الأول حدثت منذ لحظات، لا يزال بيتلجوس يجلس بحلته العشوائية، ينظر إلى صورة ليديا المراهقة ويتمنى العودة إلى عالم الأحياء من جديد ليظفر بها.

يكسر بيرتون تلك الرتابة بتقديم شخصية «دولوريس» مصاصة الأرواح التي تدخل الأحداث بطريقة كافكاوية باعتبارها خطأ بيروقراطياً، عندما تسقط من صندوق المفقودات وتعيد تجميع أجزائها على طريقة فرانكشتاين وتعيث فساداً في عالم الموتى لتكسر تلك الرتابة وتؤسس بدء مغامرة جديدة. وهي استهدافها لزوجها السابق «بيتلجوس» لتظفر بروحه بعد قتله لها في زمن سابق عبر عنه بيرتون بفقرة بالأبيض والأسود في تحية Homage لأسلوب السينمائي الإيطالي ماريو بافا الذي تأثر به بيرتون طوال مسيرته.

بينما نجحت دولوريس في إعادة أجزائها بنجاح، لتؤسس صورة الوحش في الحكاية الجديدة، ستقوم الحبكة في «Beetlejuice 2» في منتصف الثلث الأول من الفيلم بطقس عكسي لما حدث لدولوريس، عندما تتشظى وتتشعب خطوطها مثل وحش تفككت أجزاؤه وفقد بنيته.

تتوه بوصلة تيم بيرتون فلا نعرف ما هي الحكاية التي يريدنا أن نتبعها تحديداً، هل نسير في أثر وحش فرانكشتايني الطابع قادم من عالم الموتى؟ أو نتتبع خريف ليديا التي تتورط في الزواج من مدير أعمالها الذي يستغل شهرتها لأجل المال؟ أم نخلق وصالنا مع الابنة أستريد التي تقع في حب مراهق من وينتر ريفر قابلته صدفة وهو يقرأ لأديبها المفضل دوستويفسكي؟

لا تمثل الخطوط المتشعبة اضطراباً وحسب في سيناريو «Beetlejuice 2» إنما تمثل اضطراباً في رؤية بيرتون نفسها فالخطوط تحمل أشباح ثيمات متكررة في عالمه، مثل قدرة المال على تحويل أي فرادة إلى مادة للتكسب، وهاجس فرانكشتاين أو عودة الموتى بفعل الجمع والتركيب الذي قدمه في فيلمه الأول «Frankenweenie» وكلاسيكيات الأدب التي تشبه عقد أبطال دوستويفسكي التي قدمها في أفلام مثل سليبي هولو وسويني تود.

لا يبدو بيرتون مخلصاً كفاية لحبكة «Beetlejuice 2» فقد أقر في تصريحاته أنه اندفع للجزء الجديد من دون حتى أن يعيد مشاهدة الجزء الأول، إنما يريد بيرتون زيارة كل أدواته وثيماته مجدداً باشتياق. وهو ما يؤكد أن الفيلم زيارة شخصية من بيرتون لأدواته أكثر من كونه حبكة متماسكة تضيف جديداً لجمالية كلاسيكية «Beetlejuice».

ربما أكثر الشخصيات تكثيفاً لتلك الفكرة في الفيلم هي شخصية وولف جاكسون الذي يلعبها الممثل «ويليام دافو»، وولف هو ممثل لأفلام من الدرجة الثانية كان يقوم بدور محقق في سلسلة هزلية تنتمي للسبعينيات، لكنه افتتن بفكرة الأصالة أو تجربة فنه إلى أقصى درجة للتأكد من مصداقيته، مما أسفر عن موته أثناء التصوير خلال تجربة قنبلة يدوية لم يدرك أنها حقيقية، لذلك يظهر الجزء الأيسر من جمجمته عارياً من أثر الحادثة.

يتولى جاكسون ببيروقراطية منصب محقق في عالم الموتى يطارد مصاصة الأرواح دولوريس، ولكن تكمن معضلة جاكسون في تقمصه التام لدور المحقق بينما شبح سكرتيرته يذكره مراراً أنه ممثل مات في حادثة، ويستعيد دوره الأخير بتكرار لا يقدم جديداً.

مشهد من نفس الفيلم Beetlejuice Beetlejuice 2024

يبدو فيلم بيرتون «Beetlejuice 2» تنويعاً عن مأزق جاكسون، مخرج يريد أن يزور عوالمه القديمة، بينما بداخله صوت يخبره مراراً أنه عالق في تلك العوالم ولم يقدم جديداً عنها بتلك الزيارة. يحتفظ جاكسون طوال الوقت بمانترا يكررها تقول:

حافظ على الأصالة.

تبدو المانترا هي الهاجس الذي حرك بيرتون من الأساس لفيلمه الجديد، العودة إلى منابع الأصالة التي يخشى أنه خلال مسيرته الطريقة قد فقد وصاله معها بشكل أو بآخر.

نهاية سعيدة حدثت من قبل

لا نحتاج إلى حرق نهاية «Beetlejuice 2» التي تخلص في معظم أحداثها لكل الجماليات التي أقرها الجزء الأول. عبر مغامرة في عالم الأموات، ينجح شبح الأب الراحل في جسر الهوة بين الأم ليديا وابنتها أستريد.

يقوم بيتلجوس بمهارة انتهازية في تأمين عودته لعالم الأحياء لكن مثل الجزء الأول يتغلب الحب الحقيقي على شهوانيته للزواج من ليديا، بعد إفراد مساحة كافية لغرائبيته ولاستعراض يتلذذ فيه بتحريك الأحياء مثل الدمى على غرار استعراض Day-o في الجزء الأول، ولكن يستبدلها بيرتون بأغنية MacArthur Park لجيمي ويب في هذا الجزء.

يسخر الفيلم بشكل لافت من أدب دوستويفسكي وعبارته الشهيرة عن حتمية المعاناة حتى النهاية أو الموت الذي يظهر بعده تفسير كل ما سبق، وينحاز في فلسفته للكافكاوية التي لا ترى نهاية للشرط الإنساني بالجنة أو الجحيم إنما متاهة بيروقراطية يمكن أن نجمع فيها الأوراق كاملة، ولن يظهر الإله ليخبرنا عن مغزى الأمر برمته.

يتوسع الجزء الثاني في منح عالم الموتى طابعاً أكثر بيروقراطية من الفيلم القديم، نرى بجوار حجرة الانتظار، مركزاً للشرطة، ومركزاً للهجرة وأخيراً قطاراً للأرواح الذي قد يبدو أنه مجاز عن نهاية أو موت أخير للأموات لكنه إحالة ساخرة من بيرتون لبرنامج تلفزيوني من حقبة السبعينيات عن الموسيقى يحمل الاسم نفسه، لذلك يحضر ركابه في المشهد الأخير بأزياء الديسكو وكأننا نعود دائرياً لزمن ماضٍ بدلاً من الوصول لمنتهى، لتكتمل المتاهة الكافكاوية.

يؤكد تيم بيرتون على الحب كطريقة وحيدة لاحتمال عالم كافكاوي، تستعيد أستريد وليديا في عالم الأحياء جذوة الحب بين أم وابنتها، عن طريق رسول هو الأب الذي يشعر بتحقق دوره على رغم أنه لن يغادر أبداً عالم الأموات، بينما تجد الجدة «ليديا ديتز» عزاءها عندما تموت في اجتماعها من جديد بزوجها تشارلز. ويظل بيتلجوس عالقاً في عالمه من جديد في انتظار عابر تائه يغريه بحضوره كنقطة نظام وسط الفوضى.

يبدو «Beetlejuice 2» فيلماً شخصياً جداً، لا يقدم جديداً على مستوى الحبكة والرسالة ولا يكمل جمالية الجزء الأول، إنما يتخذه تيم بيرتون وسيلة وقطاراً للأرواح لزيارة ذاته القديمة وثيماته المحببة وتحية إيمانات صنعت سينماه، لكنه احتاج تأكيدها بتفصيل يصعب أن تحتمله قصة جديدة، تفصيل يحتاج وجوهاً مألوفة وحبكة لا تشغله كثيراً نهايتها. يهمس نقاد كثر أن نوستالجيا العودة لعوالم بيتلجوس لم تكن ضرورية، بينما يمكننا أن نتخيل بيرتون يستعير جملة ممثله الميت:

أردت فقط أن أتأكد من حفاظي على الأصالة.

# السينما العالمية # سينما # فن

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن