خلال العدوان الحالي على غزة انضم الملايين حول العالم إلى حملات مقاطعة منتجات إسرائيل والداعمين لها، وانتعشت حركة BDS الفلسطينية التي تتبنى تنظيم حملات المقاطعة، وحققت إنجازاتٍ هائلة لم تكن في الحسبان.
اسم الحركة هو اختصار لعبارة «المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات» Boycott, Divestment and Sanctions Movement، وقد تأسست عام 2005 على يد الناشط الفلسطيني عمر البرغوثي، وانضمت لها أعداد لا تُحصى ممن لا يعرفون الحركة ولا يعرفهم قادتها، لكن تأثيرها تغلغل في مجتمعات عديدة بسبب عمليات الإبادة الجماعية لسكان غزة.
واستطاع البرغوثي، صاحب الستين عامًا، أن يحقق ذروة النجاح من خلال اتباع نهج بسيط وواضح؛ فأهداف الحركة هي إنهاء الاحتلال وعودة اللاجئين ونيل الفلسطينيين داخل كيان الاحتلال حقوقهم، ووسيلتها هي تشجيع مقاطعة منتجات مَن يدعمون الاحتلال، فتمارس ضغوطًا إعلامية على المستثمرين والمتعاقدين مع الشركات المتورطة في جرائم الاحتلال لسحب استثماراتهم ووقف تعاملهم معها.
تُعرِّف الحركة - الفلسطينية المنشأ العالمية الامتداد - نفسها على موقعها الرسمي بأنها تسعى لمقاومة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد الإسرائيلي، من أجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة في فلسطين وصولًا إلى حق تقرير المصير لكل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، وتتبنى طموح جميع مكونات الشعب الفلسطيني وحقوقهم التاريخية، من فلسطينيي 1948 إلى قطاع غزة والضفة، وكذلك القدس والشتات.
تتبع الحركة أسلوبًا ذكيًّا وعمليًّا لجعل جهودها مؤثرة؛ فلا تهاجم كل الشركات المقصودة دفعة واحدة، بل تركز على عدد معين من الشركات المتورطة بشكل كبير في جرائم الاحتلال، فشركة إنتل - مثلًا - هي شركة أمريكية تستثمر مليارات الدولارات لدى الكيان الصهيوني، لكنها ليست مستهدفة؛ لأنها تحتكر تقريبًا تصنيع شرائح الكمبيوتر، ما قد يُفشِل أي حملة ضدها.
ومع نجاح الحملة في ضرب الكثير من الشركات الموالية للاحتلال بدأت توسع نطاق استهدافها؛ فبحسب «محمود نواجعة» منسق عام الحركة، أُطلِقت حملة لمقاطعة الأدوية الإسرائيلية للمرة الأولى في نهاية عام 2023، مؤكدًا أن الحملات سوف تتوسع إلى كل القطاعات.
فمن أجل توجيه الجهود الشعبية بنجاح يُختار هدف واضح ويُسلَّط الضوء عليه، ففي الأردن مثلًا أطلقت BDS وسم «#لنقاطع_كارفور»، ضمن حملة شعارها «لا تموِّلوا عدوكم من موائد إفطاركم»، وركز النشطاء على دور كارفور في دعم الكيان الصهيوني؛ إذ ساهمت مع مجموعة من المطاعم في دعم جيش الاحتلال عبر تقديمهم آلاف الطرود والوجبات المجانية لجنود الاحتلال.
استطاعت الحركة توجيه ضربات قاتلة للعديد من أذرع الشركات المتورطة في دعم إسرائيل؛ ففي ماليزيا أُغلِق 108 فرع من ضمن 600 مطعم تابع لسلسلة كنتاكي الأمريكية في البلاد. وعبثًا حاولت الشركة الأمريكية الادعاء بتبعيتها لشركة مملوكة لحكومة ولاية جوهور، ووزعت منشوراتٍ بذلك، ورفعت دعوى قضائية ضد الفرع الماليزي لحركة BDS، وطالبتها بدفع تعويض قدره 1.3 مليون دولار بسبب دعواتها إلى مقاطعتها.
وقالت كنتاكي ماليزيا في بيان لها إن القضية المرفوعة ضد BDS هدفها حماية حقوقها ومصالحها بشكل قانوني، وأكدت أنها «لا تدعم ولا تؤيد النزاع الحالي في الشرق الأوسط»، كما اعترفت سلسلة ستاربكس ماليزيا التي تمتلك 400 فرع بتضررها الشديد من المقاطعة.
وكشفت الحملة مفارقات تمثلت في اعتماد إسرائيل على الجمهور الإسلامي في بيع منتجاتها المتعلقة بمناسبات دينية؛ حيث إن ثلث صادرات التمور الإسرائيلية تتم خلال شهر رمضان المبارك، ويُقدَّر إنتاجها بأكثر من 100 ألف طن سنويًّا، ومجموع إيراداتها يُقارب 100مليون دولار.
وهنا يظهر الضرر الاقتصادي الكبير على إسرائيل، فحصتها البالغة 50% من سوق تمور «المجدول»، تجعلها الأكبر حول العالم في هذا السوق، ووفقًا لبيانات وزارة الزراعة الإسرائيلية، بلغت قيمة صادرات التمور 338 مليون دولار عام 2022، لكن بعد حرب غزة انخفضت صادرات التمور – مثلًا - إلى تركيا بمقدار النصف. وبسبب ذلك بدأ المنتجون الإسرائيليون في تغيير الملصقات على منتجاتهم لإخفاء منشئها لتضليل حملات المقاطعة، وعُلِّقت حملة إعلانية بقيمة 550 ألف دولار لترويج تمور المجدول الإسرائيلية، مع زيادة الاهتمام والتدقيق بين الجاليات المسلمة في الدول الأوروبية.
ولم تقتصر BDS على ذلك، بل كشفت شركات غير إسرائيلية متورطة في بيع منتجاتها داخل كيان الاحتلال، فالشركة المغربية «داري» المُنتجة للكسكسي والمعجنات أصبحت هدفًا لحملة شعارها «كسكس داري ما يدخل لداري»، بسبب بيع منتجاتها في السوق الإسرائيلية، ولم تنكر الشركة ذلك، لكنها بدأت في التراجع.
وساهمت جهود المقاطعة في خفض الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد الإسرائيلي، وتوقعت مؤسسة راند الأمريكية أن تُلحِق الحركة خسارة تتراوح بين 1% و2% من إجمالي الناتج المحلي الإسرائيلي، أي ما بين 28 و56 مليار دولار، خلال السنوات العشر القادمة.
وأجبرت الحملة شركات كبرى على الانسحاب من الاقتصاد الإسرائيلي، مثل فيوليا الفرنسية التي انسحبت بشكل كامل من الاقتصاد الإسرائيلي عام 2015، بعد أن خسرت المليارات نتيجة المقاطعة، وبعدها انسحبت كل من شركة أورانج الفرنسية وCRH الأيرلندية بالكامل. كما أعلنت عشرات البلديات الإسبانية أنها «مناطق خالية من الأبارتهايد الإسرائيلي»، بالإضافة إلى تبني بلديات في فرنسا وبريطانيا والنرويج وغيرها، قرارات مختلفة لمقاطعة الشركات المؤيدة للاحتلال.
ومع انتشار الوعي بالمقاطعة رفض آلاف الفنانين إقامة حفلاتهم في مدن إسرائيلية، وانضم للحملة مؤسسات أكاديمية واتحادات طلاب في أمريكا الشمالية والجنوبية وجنوب أفريقيا وبريطانيا وقطر وغيرها، لحركة مقاطعة إسرائيل.
ترى تل أبيب في حملة BDS «خطرًا استراتيجيًّا» وفق تعبير رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، في يونيو 2016، وقد أحال مسئولية محاربتها عالميًّا إلى وزارة الشئون الاستراتيجية لديه، كما صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، بأن حركة المقاطعة أصبحت نقطة تحول خطرة لإسرائيل.
وخصصت الحكومة الإسرائيلية ما لا يقل عن 25 مليون دولار لمحاربة الحركة، بالإضافة إلى تخصيص موارد كبيرة لاستخبارات وزارة الدفاع للغرض نفسه، وأولت سفاراتها في الخارج اهتمامًا بهذا الشأن. وفي مارس 2016، عقدت صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية مؤتمرًا في القدس المحتلة يهدف لمحاربة BDS، حضره كبار المسئولين، وكانت إحدى توصياته تكثيف التطبيع مع الدول العربية كتحرك مضاد للمقاطعة، والعمل لدى الحكومات والبرلمانات الغربية لاتخاذ خطوات لتجريم أو وقف الحركة.
وتعرَّض مؤسس الحركة للتضييق من جانب سلطات الاحتلال، فعندما كان يستعد للسفر إلى الولايات المتحدة للحصول على جائزة غاندي للسلام في جامعة «ييل» عام 2017، صدر قرار بمنعه من السفر، ومنذ خمس سنوات منعته الولايات المتحدة من الدخول إلى أراضيها رغم امتلاكه وثائق السفر.
وعانت الحركة كثيرًا من الاتهامات والهجوم المستمر، ما يعكس «النفاق الغربي الصارخ»، فبينما دعَّمت دول الغرب حركة مقاطعة روسيا بسبب حرب أوكرانيا، جُرِّمت حركة مقاطعة إسرائيل رغم جرائم الأخيرة في فلسطين، وهي «رسالة عنصرية واضحة».
ويوضح مؤسس الحركة نقطة مهمة، وهي أن حركته «تستهدف التواطؤ وليس الهوية»، أي مَن يعاونون الاحتلال وليس كل اليهود لكونهم يهودًا فقط، لذا يرى أن الحملة الغربية ضد موسكو مروعة ومخيفة؛ لأنها تستهدف الروس على أساس هويتهم وخطابهم السياسي، وليس على أساس تواطؤهم الفعلي في أي جرائم.
من المفارقات شديدة الغرابة أن هناك فئات تأثرت بالمقاطعة لم يكن من المتخيل أن تنضم إليها؛ فهناك يهود إسرائيليون أيَّدوا الحملة، ولعبوا دورًا مهمًّا في دعم حملات BDS، بشهادة مؤسس الحركة «عمر البرغوثي» نفسه.
والغريب أيضًا أن أحداث حرب غزة أثَّرت في تجار مخدرات عرب، فقرَّروا المقاطعة بسبب الحرب، منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023؛ فقد أشارت صحيفة «هآرتس» إلى أن تجار مخدر الحشيش في المغرب توقفوا عن توريد المخدرات إلى إسرائيل تضامنًا مع مأساة أهالي قطاعغزة، وذلك فرارًا من عار أن يكون بإمكان الإسرائيليين كسب عيشهم من بيع المخدرات بينما يعاني الفلسطينيون من الجوع، وذلك رغم خسارة تجار المغرب الكثير من الأموال نتيجة ذلك، وتضرر الطلاب اليهود الذين تحولوا إلى مهربين، بحسب تقارير إعلامية.
يرى عمر البرغوثي، مؤسس الحركة، أن العدوان الحالي على غزة يمثل اللحظة الزمنية الأهم التي تتطلب جهدًا يناسب حجمها، ففي مقال له نشرته صحيفة الجارديان بعنوان «لماذا أعتقد أن حركة BDS لم تكن أبدًا أكثر أهمية مما هي عليه اليوم؟»، يوجه نداءً إلى أصحاب الضمائر الحية في جميع أنحاء العالم للضغط على دولهم لفرض حظر وعقوبات ضد إسرائيل.
ودعا البرغوثي «الإسرائيليين ذوي الضمائر الحية إلى دعم هذه الدعوة، من أجل العدالة والسلام الحقيقي»، على اعتبار أن هذه الدعوة مُستوحاة من النضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والنضال المدني الأمريكي ضد العنصرية، كما أنها متجذرة في تراث عمره قرن من الزمان للمقاومة الشعبية الفلسطينية.