معرفة

52 عامًا للعبور من «العاطفي» إلى «المعرفي»: خواطر «أكتوبرية» من دفتر السيرة

من الولع العاطفي إلى الاطمئنان المعرفي: مراجعة لمصادرِ حربِ أكتوبر تعيد ترتيب الأسباب والنتائج، وتشرح كيف صنع الانتصار بفائض التنظيم، لا بفائض الخطابة.

future القوات المصرية تعبر الضفة الشرقية لقناة السويس في 7 أكتوبر 1973

إن شباب هذا الوطن -وهم جنوده- هم أبطال العصر بغير جدال، لقد مضت أيام البطولة الأسطورية على القمة، ولعلي واحد من الذين يؤمنون بأن

«الأمة التي يظهر فيها البطل الأسـطوري هي أمـة في مشكلة.. وأما الأمة التي تنتظر ظهور البطل الأسطوري فهي أمة في محنة.. العصر إذن هو عصر الرجل العادي.. بطولة الإنسان العادي، وذلك أثبتته لنا حرب أكتوبر، وهذه علامة تحول في حياتنا لا بد أن نتمسك بها»..

(محمد حسنين هيكل.. «أحاديث السلاح مع المشير أحمد إسماعيل»، الأهرام، 18 نوفمبر 1973)

لا أملّ من الكتابة عن حرب أكتوبر في مناسبتها السنوية (6 أكتوبر).. لا أملّ من ذلك أبدًا! بدأ هذا الشغف أو قل إن شئت هذا الولع، بدأ عاطفيًا وانتهى معرفيًا! بدأ متأثرًا بظروف النشأة والدعاية والتلقي العاطفي لكل أدوات ووسائل الميديا المتاحة في أواخر سبعينيات ومطالع ثمانينيات القرن الماضي، وانتهى إلى الرسو على شاطئ الاطمئنان المعرفي النسبي.. صحيح أنني استغرقت زمنًا طويلا كي أتخلص من شوائب المبالغات والفجاجة الدعائية الرخيصة التي يتصور البعض بأنهم بذلك يخلدون ذكرى الانتصار العسكري الأكبر في تاريخنا الحديث، لكني أيضًا استخلصت عبر هذه الرحلة أن (حرب أكتوبر المجيدة) بما لها تستحق الاحتفاء بقيمتها وأثرها وبطولاتها الحقيقية فعلا.

كانت حربا عظيمة خضناها بشجاعة وجسارة هائلة، بإيمان صاحب الحق وإيمان المنتمي المخلص وبعطاء وعرق ودماء الرجال.. كل هذا هو الذي عوَّض فارق الإمكانات الرهيب في التسليح والتكنولوجيا بيننا وبين العدو الصهيوني! وهذا العام الذي نحن فيه (2025) يحل العام الثاني بعد الخمسين للاحتفال بانتصارنا العظيم؛ اثنان وخمسون عامًا على الحدث الأكبر والأهم والأغلى في تاريخنا العسكري الحديث، منذ أسَّس محمد علي باشا الجيش المصري، في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

الوعي بأكتوبر: من الاحتفال إلى البحث

ولدتُ بعد الحرب بأربع سنوات فقط؛ ولكني أعتبر نفسي ممن عاصروها بالوعي والإدراك والمعرفة والقراءة؛ منذ وعيتُ وحرب أكتوبر تشكل رافدا مهمًا في تكويني الخاص؛ صحيح أنني استغرقت زمنًا طويلا كي أتخلص من شوائب المبالغات والفجاجة الدعائية الرخيصة التي يتصور البعض وهمًا أنه بذلك يخلد ذكرى الانتصار العسكري الأكبر في تاريخنا الحديث، لكني أيضًا استخلصت عبر هذه الرحلة أن (حرب أكتوبر) بما لها وبما شهدته من كل صنوف البطولة وأشكال الفداء تستحق الاحتفاء بقيمتها وأثرها وبطولاتها الحقيقية فعلًا. تفتح وعيي مبكرا على مناخ الاحتفال المنتشي بالنصر طيلة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. لكن وعيي بها (أي بحرب أكتوبر في سياق التاريخ المصري الحديث والمعاصر) تجاوز مداه العاطفي (المرتبط بالدراما والأفلام والأغاني الوطنية والكرنفال الاحتفالي العسكري المحبب كل عام) إلى مداه المعرفي؛ متوسلا طرائق البحث والسؤال والقراءة..

وهكذا اعتبرت أو ادعيت، وربما يتفق معي عدد ليس بالقليل من أبناء جيلي، من مواليد النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، والنصف الأول من الثمانينيات، أننا كنا ممن عاصروا هذه البطولة بالوعي والإدراك والمعرفة والقراءة والتقصي؛ أكثر مما عاصروها بالدعاية والأفلام والأغاني الوطنية! لم أكفّ يومًا لا عن قراءة مصادر الحرب المتاحة (في روايتها الإسرائيلية قبل المصرية، ودائمًا الفضلُ ما شهدت به الأعداء أولًا) ولا القراءة عنها في كل ما وقع تحت يدي من كتب ومذكرات قادة الحرب والمشاركين فيها، ولا ما كتب حولها من تحليلات سياسية واقتصادية وتاريخية وثقافية.. إلخ.

منذ وعيتُ وحرب أكتوبر تشكِّل رافدًا مهمًا في تكويني الخاص وثقافتي وذائقتي الشخصية؛ بل في مكتبتي الصغيرة آنذاك التي احتوت على أربع أو خمس كتب لا أنساها عن حرب أكتوبر أو تشتمل على فصولٍ تتصل بجانب أو أكثر منها؛ أتذكر جيدًا هذه الكتب: «وثائق حرب أكتوبر» لموسى صبري، و«السادات الحقيقة والأسطورة» له أيضًا، و«البحث عن الذات» للرئيس الراحل أنور السادات، و«أكتوبر 73 السلاح والسياسة»، و«الطريق إلى رمضان» له أيضًا، و«مذكرات المشير الجمسي».. وغيرها أكيد كثير، ولكن الذاكرة خوانة!

الكتاب الأول الذي قرأته بالكامل (كنت في المرحلة الابتدائية، ربما في الصف الخامس أو السادس الابتدائي) ويشتمل على تفاصيل كاملة عن حرب أكتوبر كتاب «البحث عن الذات» للرئيس الراحل أنور السادات! ولا أنكر أن الكتاب بهرني، وأعدت قراءة الفصول التي خصصها لحرب أكتوبر عشرات المرات! ثم قرأت الفصول التي خصصها الكاتب الراحل موسى صبري في كتابه «السادات ـ الحقيقة والأسطورة» وفي كتابه الآخر «وثائق حرب أكتوبر» (صدر عن سلسلة كتاب اليوم بغلاف تتصدره صورة مرسومة للرئيس أنور السادات في حلته العسكرية، بريشة الفنان مصطفى حسين).

حرب اللحم في مواجهة الصلب

أما المرة الأولى التي قرأت فيها مجلة (أكتوبر) التي حملت اسم الشهر الذي شهد النصر، واقتنيت عددًا منها، كان في النصف الثاني من الثمانينيات، ربما سنة 1986، أو 1987، لا أذكر على وجه التحديد، لكني أتذكر جيدًا أن والدي أعطاني نقودًا لشراء المجلة التي كانت تنشر مذكرات المشير محمد عبد الغني الجمسي، أحد أبطال حرب أكتوبر، ورئيس هيئة عمليات القوات المسلحة أثناءها (ثم رئيس الأركان)، وطلب مني متابعة الأعداد لاحقًا، وتجميع حلقات المذكرات كاملة.

لعل أهم ما استقيته من قراءتي للمذكرات، وأنا في هذه السن المبكرة، تلك التفاصيل والأرقام المذهلة التي كشفتها المذكرات ووثقتها بمعرفة أحد أبطالها ومخططيها الكبار، أرقام مذهلة عن الهجوم المباغت الذي شنته قواتنا المسلحة على العدو الإسرائيلي، سأشير فقط إلى نماذج بسيطة منها:

  1. أكثر من 2000 مدفع على طول جبهة القناة، ومن مختلف الأعيرة شاركت في قصفٍ مركّز لمدة 53 دقيقة بالضبط، وكان معدل القصف النيراني شديدًا بحيث سقط على المواقع التي أنشأتها إسرائيل بسيناء في الدقيقة الأولى من القصف، عشرة آلاف وخمسمائة دانة مدفعية، بمعدل 175 دانة في الثانية الواحدة.

  2. كان لنا على الضفة الشرقية للقناة في الدقائق الأولى للحرب 8 آلاف جندي مقاتل، وصلوا بعد ساعة ونصف فقط إلى 14 ألف مقاتل، وبعد خمس ساعات صاروا 33 ألف مقاتل، وفي صباح يوم 7 أكتوبر كان هناك 50 ألف مقاتل مصري على الضفة الشرقية.. ما هذه العظمة وهذا التدفق الأسطوري للقوات؟!

  3. استخدم في اقتحام القناة 750 قاربا مطاطيا، وألف وخمسمائة من سلالم الحبال لتسلق الساتر الترابي، وخلال 8 ساعات فقط من الحرب، نجح المهندسون في فتح 60 فتحة (ممرا) في الساتر الترابي، وتم إنشاء 8 كباري ثقيلة، وبناء 4 كباري خفيفة، وبناء وتشغيل 30 معدية.

  4. تسابق كبار الضباط مع الجنود على سرعة العبور، قادة الفصائل والسرايا عبروا في الدقائق الأولى للحرب، وقادة الكتائب عبروا بعد 15 دقيقة، وعبر قادة اللواءات خلال 45 دقيقة، وعبر قادة الفرق خلال ساعة ونصف فقط من الحرب، وهذا يفسر ارتفاع نسبة الشهداء من الضباط في بداية الحرب.

  5. كان رجال سلاح المهندسين الأبطال يعملون تحت قصف إسرائيلي شرس، وأجسامهم مغطاة تقريبا بالطين، ومضخات أو مدافع المياه في أيديهم لا تتوقف عن العمال، يسقط شهيد، فيحل محله آخر، استخدموا 350 مدفع مياه في فتح الممرات، التي انتقلت بها قوات العبور إلى سيناء

  6. من أعظم ملاحم الحرب صمود رجال المشاة من 6 إلى 8 ساعات بمفردهم أمام الهجوم الإسرائيلي المضاد، انتظارًا لوصول المدرعات والأسلحة الثقيلة العابرة، لأول مرة في التاريخ يصبح المقاتل الفرد في مواجهة دبابة، ومن هنا أطلق على حرب أكتوبر (حرب اللحم في مواجهة الصلب)، ونجح المشاة في الصمود، وتدمير مائة دبابة من 300 دبابة هاجمت بها إسرائيل. (يوصف جنود المشاة عمومًا بأنهم سادة المعارك، ربما كان الوصف الأنسب لجنود المشاة في حرب أكتوبر هو (أباطرة المعارك) فعلا!)

وحينما أعدتُ قراءة المذكرات كاملة بعد ذلك، واستوقفتني الأسطر التي خصصها المشير الجمسي للشهيد العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي؛ أو كما يصفه دائمًا صديقي محمود عبد الشكور «المقاتل الأسطوري» الذي ولد في يونيو 1931 واستشهد وهو على رأس قواته ظهر يوم الجمعة 19 أكتوبر عام 1973. إنه أحد أبطال مؤسسي مدرسة الصاعقة المصرية، ومن معلميها الأوائل، ذاعت شهرته مع حرب الاستنزاف بقيادته رجال المجموعة 39 «الأسطورية» التي أذاقت الإسرائيليين الويلات، واستمرت عملياتها خلال حرب أكتوبر. وحصل على أكثر من نوط ووسام عسكري توجها بنجمة سيناء عام 1974 بعد استشهاده.

(وللحديث بقية)

# حرب السادس من أكتوبر # تاريخ مصر

من الحرب النفسية إلى الخداع الاستراتيجي: جمال حمدان عن أكتوبر 73
من «افتراق الطرق» إلى «سلام السلاح»!
أنور الجندي يكتب: حرب رمضان من خلال المؤلفات العربية الحديثة

معرفة