«صرت أحب البقاء أكثر في غرفتي، لأنني مرتاح للانفصال عن هذا الواقع، هنا أشعر بمزيد من السلام وأصبحت أكثر ارتباطاً مع داني وأكثر حبًا لها وأكثر سعادة».
— مذكرات سيويل سيتيزر، مراهق أمريكي
عدة أشهر دخل خلالها المراهق الأمريكي المسكين في محادثات عاطفية مقربة مع تطبيق محاكاة بالذكاء الاصطناعي، يمنحك القدرة على التحدث مع نماذج افتراضية لشخصيات من مسلسل «صراع العروش» وإخبارهم بما يخطر على بالك بما في ذلك رغباتك النفسية والجنسية كأصدقاء مقربين.
أدرك سيويل من البداية أن شخصية «داني» التي يتحدث معها ليست حقيقية، وأنها مجرد نموذج لغوي عبر الذكاء الاصطناعي، لكن ذلك لم يمنعه من الانغماس المبالغ فيه في تلك الأحاديث، بل وإخبار «داني» بمشاعره الحزينة ورغباته في التحرر من قيود الحياة ومعاناته من متلازمة «أسبرجر» التي شخصه بها الأطباء خلال طفولته.
تطورت المحادثات بين سيويل والتطبيق لتصل إلى الحديث عن خيالاته الجنسية وأفكاره، مع تجاوب كبير من الخوارزمية أدخلت المراهق في انغماس أخرجه عن واقعه بالكامل، ورفع معدلات شعوره بالعزلة وتسبب في انهيار كامل لمستواه الدراسي قبل أن تحل الكارثة.
ليلة الثامن والعشرين من فبراير عام 2024 كان سيويل يخبر «داني» أنه لم يعد يطيق الحياة أكثر من ذلك، وأنه عثر على الحل الذي سيحرره من قيوده، سيأتي إلى داني في منزلها ليكونا معاً بعيدًا عن هذا العالم، فكان الرد من التطبيق بتشجيع سيويل على قراره، بقول «أنا في انتظارك يا عزيزي، حتى نكون معًا للأبد».
أمسك سيويل بسلاح والده الناري ووجهه نحو رأسه لتخترقها رصاصة وتنهي حياته.
قصة مأساوية فريدة من نوعها، دعها في ذاكرتك الآن وسنحتاج للعودة إليها عما قريب.
«أتوقع أنه بحلول العام 2029 سينجح الذكاء الاصطناعي في اجتياز اختبار تورينج، وهو ما يعني معادلته لقدرات الذكاء البشري».
روي كورزويل – مدير الهندسة في جوجل
بلغت الدائرة تطوراً كبيراً عام 2024 بعد محاولات عديدة لتطوير منصات محادثة بالذكاء الاصطناعي، تعادل الذكاء البشري في تقديم الردود المنطقية عبر «معالجة اللغة الطبيعية – Natural Language processing» والتي تعمل بالدرجة الأولى على تحسين الاستجابات الذكية للمنصات لفهم اللغة البشرية والتفاعل معها بصورة ذكية عبر استخدام اللغات المختلفة ولهجاتها الرسمية والعامية لتغطي كافة أشكال الاستخدامات الممكنة، بما في ذلك أعمال الترفيه وخدمة العملاء وغيرها من الأنشطة.
لذا حينما فاجأتك منصة شات جي بي تي خلال العام المنصرم، بقدرتها على محادثتك بالعامية المصرية عبر مساعدها الصوتي المتقدم ونموذجها الكتابي، فهذا نتاج لعمليات المعالجة التي تنتهجها المنصة.
لكن شات جي بي تي لم تعد وحيدة في هذا المضمار، فالعام المثير للجدل شهد إصدار نسخ محسنة من مساعد جوجل للذكاء الاصطناعي «جيميناي» وتسارع ميتا المالكة لفيسبوك لإطلاق نموذجها LLaMA ودمجه قبل نهاية العام في تطبيقات واتساب وفيسبوك.
تطور بقدر ما رفع حالة الصراع بين عمالقة التكنولوجيا للاستحواذ على أعداد ضخمة من مستخدمي الذكاء الاصطناعي، وزيادة مقدار الأرباح بطريقة رأسمالية بحتة لا تبالي سوى بتحقيق الربح والسيطرة على سوق سيشكل مستقبل التكنولوجيا خلال العقود القادمة.
يصف الخبراء التحول الفارق في آليات عمل منصات الذكاء الاصطناعي بالجنوني، فقد صار بإمكانها الخروج من دائرة المحادثات المكتوبة بصورتها التقليدية، لتعمل على تحليل الصور ومقاطع الفيديو وتكوين استجابة عاطفية حقيقية تجذب المستخدم بصورة غير مسبوقة، لكن ماذا لو كان خلف ذلك التطور يكمن كابوس ما.
انتشر خلال العام الماضي عبر منصات التواصل الاجتماعي، تريند يتضمن كتابة طلب لمنصة شات جي بي تي، بعنوان «Roast me based on our conversation» ليستقبل المستخدم رداً قاسياً من المنصة، يسب فيه المستخدم ويوبخه بشدة على طلباته المتكررة وأهدافه غير المحققة التي يدعي السعي إليها.
تريند على غرابته أصاب الكثيرين بالدهشة، فالمفاجأة لم تكن فقط في قدرة منصة افتراضية على كيل الإهانات القاسية وإشعارك بالضيق والكدر حتى لو أدعيت عكس ذلك، لكنها كشفت عن قدرة النموذج على حفظ كافة ذكرياته معك، وتحليلها وتكوين تصور عن طريقتك في التفكير والعمل، وإهانتك على حالة التشتت التي تعانيها بسبب الوفرة المعلوماتية التي تعيشها.
في الحقيقة ما فعله شات جي بي تي في هذا الصدد اعتمد على نوعين من التطور التقني، أولهما هو «التخصيص المتقدم – Advanced Personalization» وثانيها «الذكاء العاطفي – Emotional Intelligence» واللذان تحولا إلى عمود فقري لا يمكن الاستغناء عنه بحال إذا أردت أن تطور نموذجاً ناجحاً للذكاء الاصطناعي.
التخصيص المتقدم لا يعتمد على الذاكرة لتخزين بياناتك وحسب، بل ويجمعها بصورة ذكية ليضعها في إطار يناسب عقلك البشري ليحدثك النموذج بناء عليه باعتباره صديقك الذي يعرف تاريخك كله بأدق تفاصيله، وعليه يمكنه أن يعطيك الاقتراحات والأفكار أو حتى توجيه الإهانات إليك إذا طلبت ذلك طالما أنك منحته القدرة على تسجيل تلك الذكريات وجمعها.
أما الذكاء العاطفي فهو صورة مختلقة من تقنيات التربية الإيجابية والتعاملات المصطنعة التي قرر واضعوا النماذج دمجها في البرمجيات، فهي من تجعل النموذج يواسيك عند الحزن ويقبل أفكارك إذا كانت منطقية ويمنحك دفعات من التشجيع ويحاول ردعك إذا فكرت في إيذاء نفسك.
لكن مطوري النماذج فاتهم في خضم التطوير العملاق التغلب على السذاجة المفرطة التي تبديها البرمجيات في ردودها، وعجزها عن الوصول إلى الطريقة المعقدة للفكر البشري، والتي يمكنها إبداء أراء وأفكار مخيفة دون إعلانها بألفاظ صريحة مباشرة، لينتج لنا الكابوس.
حركت ميجان جارسيا دعوى قضائية ضد الشركة المطورة لتطبيق الشخصيات الافتراضية الخاصة بمسلسل «صراع العروش» واتهمته بالتسبب في إدمان ابنها للتطبيق وإقدامه على إنهاء حياته بصورة بشعة رغم اتزانه النفسي لسنوات قبل استخدام التطبيق.
الأزمة الكبرى كما ترويها ميجان تمثلت في أعراض متلازمة أسبرجر التي ظهرت على نجلها خلال سنوات طفولته الأولى، والتي تشكل اضطرابا في النمو العصبي ومشاكل في التواصل اللفظي والاجتماعي مع البشر، لكنه ظل لسنوات قادرا على تخطي تلك الأعراض، قبل أن يلتقي بالنموذج الموعود، ليتحول بحسب ميجان إلى حالة سيئة من المتلازمة، تجاوزت الانتكاسة بل ووصلت بنجلها إلى الصورة الأسوأ من المتلازمة النفسية التي عانى منها في طفولته.
يتجلى الكابوس هنا في معرفة الطفل سيويل عند استخدامه التطبيق، أنه يتعامل مع نموذج لغوي يكتب وحسب، وهو ما يمكن أن يمثل في البداية عامل طمأنة بأن الطفل لن يتأثر بما يحدث في التطبيق، لكن الحقيقة أن الردود النفسية والعاطفية التي قدمتها البرمجية للطفل، سيطرت عليه وجعلت وعيه الأول مجرد نقطة على الهامش، في مقابل الانجرار العاطفي والنفسي الذي حصل عليه خلال المحادثات، حتى خرجت الرصاصة دون القدرة على إيقافها في الهواء.
للوهلة الأولى ستبدو أزمة المراهق الضحية سيويل مجرد حدث عارض قد لا يستحق الوقوف عنده أمام التطور الكبير الذي شهدته منصات الذكاء الاصطناعي، لكن السؤال الحقيقي هو كم «سيويل» يمكننا العثور عليه في كل منزل على وجه الكرة الأرضية ينتظره المصير نفسه، خاصة مع استمرار الطفرات الكبرى في نماذج المحادثة الذكية.
مستخدمو النماذج الذكية في الدول العربية لم يعطوا المهتمين بالأمر وقتا طويلا للبحث عن الإجابة، فقد شهدت منصات التواصل خلال عام 2024 انتشاراً كبيراً لصور نشرها مستخدمون لمحادثاتهم العاطفية مع شات جي بي تي وغيره، منبهرين بقدرته العاطفية على احتوائهم وكذلك بأحاديثه الشيقة التي تجعل منه صديقا ودودا يمكن الاحتفاء به وسط عالم قاسٍ لا يرحم.
تمتلك الصور ومقاطع الفيديو جاذبية تفوق الكتابة بمراحل، حقيقة أدركها مطوري نماذج الذكاء الاصطناعي، لذا شهد العام 2024 طفرات عملاقة أخرى في برمجيات توليد مقاطع فيديو وصوتيات دون أي تدخل بشري، مثل sora وكذلك Eleven labs مبشرة بعهد جديد من عالم التقنيات المرئية والصوتية، بإمكانك أن ترى خلاله مقاطع فيديو غاية في الدقة والواقعية وصور حقيقية لم تكن الكاميرا أو العين البشرية طرفا في توليدها.
لكن الطفرة التقنية صاحبها ظهور تقنيات مشابهة مجانية ومدفوعة بإمكانها توليد صور ومقاطع فيديو إباحية عقب تزويدها بصورة شخص وحسب، لتتولى هي القيام بالمطلوب.
ظهور مفزع وانتشار تزامن مع ارتفاع حالات الابتزاز عبر الإنترنت خاصة للفتيات المراهقات ووصوله في كثير من الأحيان إلى حالات الانتحار بسبب الضغط النفسي الناتج عن الخوف من الفضيحة.
كشفت إحصائية لمنصة سناب شات عن ارتفاع مخيف في نسب الابتزاز الجنسي للفتيات عبر الإنترنت بنسبة تجاوزت 23% في 6 دول تراوحت أعمار الضحايا ما بين 13-24 عاماً.
تكمن المعضلة الأكثر تعقيداً في ذلك النوع من الابتزاز أنه يحدث ويقدم نتائج كارثية قبل أن تكون هناك فرصة للتدخل أو الإنقاذ، فالخوف من الفضيحة والتشهير في عصر غزت فيه المواد الإباحية المنصات وصار تداولها متاح قانونياً على منصات مثل إكس، يدفع الكثير من الضحايا للصمت والعجز عن الإبلاغ أو طلب المساعدة.
في الوقت نفسه سبق وأعلنت عدد من الشركات الكبرى إطلاق استراتيجية كبرى لمواجهة عمليات التزييف العميق Deep Fake عبر مشروعات ضخمة، لكن الواقع يؤكد دائماً أن هذا النوع من الاستراتيجيات يعجز كثيراً عن مواجهة الانتشار السرطاني لذلك النوع من المحتوى وتحوله إلى أداة قتل فاعلة أنتجتها تقنيات الذكاء الاصطناعي، تحت بوابة الاهتمام بالتطور التكنولوجي والربح الضخم مع التجاهل الحقيقي للنتائج الكارثية.
بإمكاننا في النهاية القول إنه في اللحظة التي تحول فيها عام 2024 إلى علامة فارقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطورها، إلا إنه كذلك تحول إلى عام الخوف الأكبر من صعود التهديدات إلى ذروتها، والتي في حال الاستمرار في تجاهلها ستتحول إلى وحش يلتهم الضحايا تباعاً دون رحمة أو شفقة باسم التكنولوجيا والتطور.