التجانية هي إحدى الفرق الصوفية في مصر، حيث نشأت في المغرب العربي في نهاية القرن الثامن عشر، وانتشر أتباعها في كثير من المناطق، وعلى مدى تاريخها كانت مثار جدل كبير، فبينما رأى البعض أن معتقداتها تخالف صحيح الدين، قال آخرون عكس ذلك، بل ذهبوا إلى أن الطريقة واجهت المستعمرين وكانت سبباً في انتشار الإسلام في أفريقيا.
والتجانية فرقة يؤمن أصحابها بجملة الأفكار والمعتقدات الصوفية، ويزيدون عليها الاعتقاد بإمكانية مقابلة الرسول محمد مقابلة مادية، واللقاء به لقاءً حسياً في هذه الدنيا، وأن النبي قد خصهم بصلاة «الفاتح لما أُغلق» التي تحتل لديهم مكانة عظيمة، حسبما يذكر محمد عبد الرحيم زيد، في كتابه: التجانية وعقائدها من خلال كتاب جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني.
ومؤسس هذه الطريقة هو أبو العباس أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد سالم التجاني، وعاش بين 1737 و1815، وكان مولده في قرية عين ماضي من قرى الصحراء بالجزائر حالياً، والتي جاء إليها جده محمد فاستوطن بها وتزوج من قبيلة فيها تدعى تجاني أو تجانا، فكانت أخوالاً لأولاده، وإليها نُسبوا.
ويروي زيد أن أحمد التجاني حفظ القرآن ودرس العلوم الشرعية، وارتحل متنقلاً بين فاس وتلمسان وتونس والقاهرة ومكة والمدينة المنورة، وخلال أسفاره تأثر بمن التقى من مشايخ الطرق الصوفية، ثم أنشأ طريقته في قرية أبي سمعون سنة 1789، وصارت فاس المركز الأول لهذه الطريقة، ومنها خرجت الدعوة وانتشرت في أفريقيا، وصار لها أتباع كثيرون في بلاد المغرب والسنغال ونيجيريا وشمالي أفريقيا ومصر والسودان وغيرها من البلاد.
ويذكر فريد دي يونج، في كتابه: تاريخ الطرق الصوفية في مصر في القرن التاسع عشر، وترجمه إلى العربية عبد الحميد فهمي الجمال، أن التجانية لم تترسخ أقدامها في مصر إلا في عام 1845-1844، عندما حوَّل رجل مراكشي يسمى قاسم الشارجي زاوية كانت قد أُنشئت بمعرفة أخيه قدور منذ عشر سنوات إلى وقف لصالح الطريقة.
وهذه الزاوية كانت تُستخدم أساساً كمكان لتجمع الحجاج الوافدين من شمال أفريقيا وغربها، وظلت بمثابة المركز الرئيسي لهذه الطريقة بالقاهرة حتى عام 1898 عندما شُيدت زاوية تجانية أخرى في حي المغربلين بمعرفة خصي من بورنو (ولاية في شرق نيجيريا) يسمى محمد سرور أغا، والذي أنشأ أيضاً وقفاً يضم ثلاثين فداناً بالقرب من دمنهور لصالحها.
وفي خارج القاهرة، انتشرت الطريقة في صعيد مصر ابتداءً من خمسينيات القرن التاسع عشر فصاعداً، وتحديداً في أسيوط وقنا وضواحيها، وذلك بفضل أعمال الدعاية التي قام بها الحجاج التجانيون القادمون من شمال أفريقيا وغربها.
وانتشرت الطريقة أيضاً في مديرية الشرقية بين بلبيس ومنيا القمح في السبعينيات من القرن نفسه، نتيجة للجهود التي قام بها رجل تونسي يسمى البشير محمد الزيتوني (1810-1905)، والذي أقام في قرية تلبانة إلى أن مات بها، بحسب يونج.
وكان هناك داعية آخر للتجانية، وهو رجل مراكشي يسمى أحمد السباعي (1844-1933)، ونشر هذه الطريقة في مديرية المنوفية التي كان يعيش فيها بالقرب من أشمون في قرية الكتامية، وذلك اعتباراً من عام 1896.
ويعد محمد عبد الحافظ بن عبد اللطيف بن سالم الشريف الحسني التجاني المصري 1898-1977 هو رائد التجانية في مصر، وقد خلَّف مكتبة موجودة الآن في الزاوية التجانية بالقاهرة، وله عدة مؤلفات؛ منها: الحق والخلق، والحد الأوسط بين من أفرط ومن فرَّط، وشروط الطريقة التجانية، كما أسس مجلة طريق الحق سنة 1950.
ويذكر يونج أن التجانيين في مصر كانوا يعتقدون أن أحمد التجاني هو القناة التي تتدفق فيها كل الانبثاقات الروحية الصادرة عن الله، مما جعل نصيبه من هذه الانبثاقات أعظم بكثير من تلك الموجودة لدى أي شخص آخر لا ينتمي لهذه الطريقة، وهذا جعلهم يعتقدون أن مؤسس هذه الطريقة وأتباعه يتفوقون تماماً على مؤسسي الطرق الأخرى وأتباعهم؛ ولذلك كان أعضاء هذه الطريقة يحرمون على أنفسهم زيارة أي أضرحة أخرى لمشايخ غير تجانيين، أو المشاركة في الموالد التي تقام تكريماً لهم.
ولهذا السبب أيضاً، لم يكن لدى التجانيين الرغبة في المشاركة في أي احتفالات ينظمها شيخ الطرق الصوفية آنذاك محمد توفيق البكري أو يشرف عليها، بل لم يسعَ أي خليفة لهذه الطريقة إلى الحصول على موافقة البكري لتولي منصبه كرئيس للطريقة في مصر، نظراً لأنهم يعتقدون أنهم يتفوقون على غير التجانيين المنتمين للطرق الأخرى.
وبحسب الموقع الرسمي لطريقة التجانية، فإن عدد مريديها في مصر حالياً يتراوح بين 35 و40 ألف شخص، وهذا العدد للرجال فقط بخلاف النساء.
وتتواجد الطريقة في عدد من المحافظات والمدن، مثل القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وميت غمر وبورسعيد والمنصورة والزقازيق وبلبيس والعدلية والزوامل وأنشاص البصل وقنا وإسنا وأسيوط وكوم أمبو وأسوان والعريش.
وهناك عدد كبير من الزوايا التي تحمل اسم الطريقة في مصر، أبرزها الزاوية التجانية الكبرى في حي المغربلين، وزاوية مصر الجديدة في ميدان روكسي بالقاهرة، فضلاً عن زوايا أخرى في الإسكندرية والشرقية وأسوان، كما تحمل مساجد كثيرة اسم التجاني في مدينتي الزقازيق وبلبيس بالشرقية، وكذلك في الإسماعيلية والمنصورة والمنيا وميت غمر والإسكندرية وأسوان وشمال سيناء.
وذكر الموقع الرسمي للطريقة أنه «على الفطرة السليمة يعيش المجتمع التجاني منشغلاً بالله وبنفسه عن سفاسف الأمور، ويجتمع الإخوان بعد ذكر الجمعة لقراءة أحد كتب التصوف، منها على سبيل المثال كتاب العهود والمواثيق المحمدية للشيخ الشعراني يومي الجمعة والاثنين من كل أسبوع بعد صلاة العشاء».
ووردت عقائد التجانية في كتاب «جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني»، والذي جمعه علي حرزام تلميذ أحمد التجاني وشملت كل أفكار مؤسس الطريقة وتعالميه. وبحسب زيد في كتابه المذكور آنفاً، فإن هذا الكتاب أشهر مؤلفات التجانية على الإطلاق، ويعد مرجعاً أساسياً لجميع مؤلفات هذه الطريقة التي جاءت بعده، بل إن البعض ذهب إلى أن كل ما أُلف بعد جواهر المعاني فهو عالة عليه.
على كلٍّ، يرى زيد أن أحمد التجاني مؤسس الطريقة غالى في نفسه، وغالى أتباعه فيه مغالاة شديدة جاوزت الحد، حين أضفى على نفسه خصائص الرسالة، بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريدوه. حيث يقول علي حرزام: «مآثر هذا الشيخ لا تُحصى، ومناقبه لا تستقصى، فقد شاعت بها الأخبار حيث صار الليل والنهار، وليس يوجد لها حد ولا مقدار، فقد يكل منها القرطاس والقلم، ويعيى في طلبها اليد والقدم، فهي في الناس أشهر من نار على علم». كما يقول: «فكمال عقله وفهمه، وقوة إدراكه وميزه، مما يبهر العقول ويخرج عن حد المعقول، وشرح ما يؤذن به يطول».
وبحسب زيد، قام التجاني بتأويل صفات الله تأويلاً ما أنزل الله به سلطان، فيقول: «إن الأصابع هي من متعلقات مشيئته، فالمشيئة بمنزلة اليد ومتعلقاتها بمنزلة الأصابع»، كما قال إن العارف بالله يسمع القرآن من الذات المقدسة سماعاً صريحاً، وفضَّل الصلاة على النبي على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة، وهي المرتبة الدنيا في نظره، كما زعم أنه يجب كتم أسرار القرآن عن العامة؛ إذ لم يرد الله سبحانه وتعالى إظهاره إلا للخاصة العليا من خلقه.
وتحدث التجاني في مقام النبوة، فقال إنه رأى النبي يقظة، وأن النبي لقَّنه الطريقة التجانية ووردها، وأذن له يقظة بتربية الخلق، وهو أمر غير مقبول، بحسب زيد، فرؤية النبي يقظة لم يقل بها أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أتباع التابعين ولا من بعدهم من الأئمة المجتهدين، ولا أحد من المسلمين، إلا ثلة قليلة من غلاة المتصوفة القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، فخالفوا بذلك إجماع الأمة خلفاً على السلف.
وذهب التجاني إلى أن المدد يفيض من الله على النبي أولاً، ثم يفيض منه على الأنبياء، ثم يفيض من الأنبياء عليه، ثم منه يتفرق على جميع الخلق من آدم إلى النفخ في الصور، ويزعم أنه يفيض أحياناً من النبي مباشرة، ثم يفيض على سائر الخليقة، ويؤمن مريدوه بذلك ويعتقدونه، بحسب زيد.
وذكر التجاني أنه يلتقي بالنبي في يومي الجمعة والاثنين، فيقول علي حرزام في كتابه: «أخبره الرسول بقوله بعزة ربي يوم الاثنين ويوم الجمعة لم أفارقك فيهما من الفجر إلى الغروب، ومعي سبعة أملاك، وكل من يراك في اليومين يكتبون الملائكة اسمه في رقعة من ذهب ويكتبونه من أهل الجنة».
كما يعتقد التجاني أن أول مخلوق خلقه الله تعالى هو روح الرسول محمد، ومن هذه الروح خُلقت جميع المخلوقات، ويعتقد أيضاً أن النبي: «كان يعلم علوم الأولين والآخرين إطلاقاً وشمولاً، ومن جملة ذلك العلم بالكتب الإلهية فضلاً عن القرآن وحده».
ويقول أيضاً: «إن الرسول قبل وجود جسده الكريم ما بعث الله نبياً ولا رسولاً في الأرض إلا كان هو (أي الرسول) ممد ذلك الرسول أو النبي من الغيب، من حيث إنه لا يتأتى لنبي أو لرسول أن ينال من الله تعالى قليلاً ولا كثيراً من العلوم والمعارف والأسرار والفيوض والتجليات والمواهب والمنح والأنوار والأحوال إلا بواسطة الاستمداد منه (أي الرسول محمد)، وهو الممد لجميعها في عالم الغيب»، حسبما نقل زيد عن حرزام.
الأكثر من ذلك، يعتقد التجاني أن النبي مبعوث إلى الملائكة، وأنه هو الذي يتلقى الوحي مباشرة من الله، وأنه هو الذي يبلغه إلى الملائكة، بحسب زيد.
وزعم أحمد التجاني وأتباعه أن منادياً ينادي يوم القيامة بأعلى صوته: «يا أهل الموقف، هذا إمامكم الذي كان منه مددكم في الدنيا». كما نصَّب أحمد التجاني نفسه في مقام النبوة يوم القيامة، إذ قال: «يوضع لي منبر من نور يوم القيامة، وينادي منادٍ حتى يسمعه كل من في الموقف: يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كنتم تستمدون منه من غير شعوركم». وفي قوله هذا تصريح بأن الأنبياء والرسل كانوا يستمدون منه، لأنهم شملهم الموقف، وهذا مُحال، بحسب زيد.
كما زعم التجاني أنه من الآمنين، وأن كل من كان تجانياً يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب مهما فعل من الذنوب.
ويقول أتباع التجاني إن لهم خصوصيات ترفعهم عن مقام الناس الآخرين يوم القيامة، ومنها تخفيف سكرات الموت عنهم، وأن يظلهم الله في ظل عرشه، وأن لهم برزخاً يستظلون به وحدهم، وأنهم يكونون مع الآمنين عند باب الجنة حتى يدخلوها في الزمرة الأولى مع الرسول وأصحابه المقربين.
على الضفة الأخرى، هناك من يرى أن الطريقة التجانية من الحركات الدينية التي كان لها دور كبير في نشر الإسلام وتصحيح العقيدة، وكذلك التصدي للاستعمار الأجنبي، كما أن مؤسسها اشتُهر بالعلم والصلاح، حسبما يذكر محمد علي عفين في دراسته: الطريقة التجانية ودورها الديني في أفريقيا جنوب الصحراء في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
وبحسب عفين، عملت التجانية على نشر مبادئها، ومنها مداومة الصلوات الخمس في جماعات، والحفاظ على الأوراد اللازمة حتى الممات، وقراءة القرآن وتعليمه، والتزام مذهب أهل السنة والجماعة، والأخذ من الدنيا بقدر الحاجة دون توسع، والمحافظة على حقوق المريدين، والمحافظة على الصدقات بعد أداء المفروضات المالية، وتعظيم حرمة الأولياء الأحياء والأموات وعدم الاستهانة بهم، وإخماد البدع والضلالات التي تشوه الإسلام، والحذر من مخالفة الأمور الشرعية.
ويذكر عفين أن التجانية انتشرت سريعاً منذ ظهورها داخل الجزائر ثم أفريقيا، وذلك بسبب التنظيم الدقيق والسير وفق منهج صوفي تربوي، واستطاع أتباعها الوصول إلى مناطق عديدة في أفريقيا ونشر الإسلام في غرب القارة ووسطها.
ولم يقتصر نشاط التجانية على نشر الإسلام فقط، فقد اعتبرتهم العديد من المصادر مقاومين، والدليل على ذلك ما قام به رجال الطريقة في مواجهة الاحتلال الفرنسي والإنجليزي والألماني، ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت حركة إرسال المكتشفين الأوروبيين إلى أجزاء مختلفة من أفريقيا للتعرف على تلك البلاد وتقسيمها، إلا أن السكان تصدوا لتلك الهجمة الشرسة، ومن بينهم بلاد كانم (برنو) شرق بحيرة تشاد، والتي كانت من الممالك التي تحولت إلى سلطنات إسلامية، كما يذكر عفين.
ومن التجانيين الذين تصدوا للغزو الأوروبي في جنوب سنجامبيا (السنغال حالياً) أحمد صمدو الذي أسس إمبراطورية هناك، حيث تجول بين القبائل الوثنية الواقعة بين البحر وبلاد سولو ودعاها إلى الإسلام والعمل بالقرآن الكريم والسنة النبوية، وكانت أولى المدن التي وجَّه إليها دعوته فولندية، حيث أرسل لملكهم سنديدو رُسلاً تدعوه للدخول في الإسلام ونبذ عبادة الأصنام، وبعد رفض الأخير وجَّه صمدو قوة للجهاد ومحاربة تلك المدينة وأدخل الإسلام إليهم، والتحق العديد من أبناء تلك المدينة بالمدارس الدينية لحفظ القرآن، واستمرت دعوة صمدو بين الوثنيين وبلغ أوج قوته عام 1881.
وفي الوقت نفسه، واجه صمدو الاحتلال الفرنسي حتى وقوعه في الأسر عام 1898، وتوفي عام 1900 بعد أن ساهم إلى حد كبير في نشر الإسلام بين الشعوب الوثنية ومحاربة الغزو الفرنسي.
أما الشيخ عمر الفوتي، والذي يعد في نظر التجانيين الفاتح الغازي الذي خرج في سبيل الله والطريقة، فقد استطاع تأسيس دولة إسلامية في مملكة غانا، أو ما كان يسمى آنذاك بدولة التوكولور، وامتدت حدوده من شنقيط إلى دولتي مالي ونيجيريا مروراً ببلاد السودان الغربي.
وخلال عشر سنوات سيطر الفوتي على كلٍّ من السودان الغربي من مدينة تمبكو حتى حدود السنغال الخاضعة للسيطرة الفرنسية، وأسس دولة إسلامية بكل معانيها، وحاول أن يمدها في الشرق ليقاوم بها التوسع الفرنسي ودحر الوثنيين من الشرق والغرب، لكن القوات الفرنسية استطاعت احتلال مدينة بانديا جارا بسبب تفوقها العسكري.
ولجأ الفوتي إلى دولة الفولاني وسوكوتو ومات هناك عام 1895، وانتهت بذلك الدولة التجانية العمرية، وأصبح سكانها المسلمون تحت الحكم الفرنسي، ولكن أتباع الفوتي ظلوا يقاومون حركة التنصير لفترات طويلة.