«البطل هو المرء الذي يقف بشجاعة في مواجهة سُلطة والده، وينتصر عليها في النهاية»
— سيجموند فرويد
تُلح في أدبيات سيجموند فرويد ثيمة بعينها، وهي المواجهة مع سُلطة الأب، والتي تتبدى في أعماله، باعتبارها قدر حتمي لا فكاك منه.
لا تتخلق فردانية المرء في مدرسة فرويد، إلا بقدرته على تجاوز سلطة أبيه.
يكسو ذلك التجاوز في حدوثه، طابعًا تراجيديًا مُروعًا، لأن المرء فيه يتخلى طوعًا عن المُعلم الذي قدم له تعريفات كل الأشياء بالعالم، وكان سدًا منيعًا بينه وبين شرور ذلك العالم، تخلي عليه أن يتقبل معه مواجهة هذا العالم وحده، بفردانية لم تُختبر بعد.
الموت الرمزي للسلطة الأبوية هو الميلاد الحقيقي لشخصية الابن المستقلة، لكنه كذلك اعتراف الابن بآلام تلك الولادة الجديدة، لأن الأب فيها لن يأتي مجددًا لإنقاذه، وأنه بتجاوز تلك السلطة يغادر طفولة عالمه للأبد، لمواجهة عالم حقيقي يُكشر عن أنيابه في استقباله.
يتحرك مسلسل «ولاد الشمس» من تلك الأرضية الفرويدية، بدءًا من عنوانه الذي يبدو ميثولوجيًا وأسطوريًا بشكل ساخر، لأنه يتحدث عن أيتام في دار تحمل اسم الشمس. أسطورتهم أنهم مثل كل الأيتام، ولدوا بهذا العالم دون إعداد ولا سلطة أبوية مُربية يُمكنهم في لحظة بعينها مواجهتها وتجاوزها نحو أعتاب البلوغ.
تبدو دار الأيتام في أي مجتمع مثل مقبرة رمزية تنعي غياب سلطة الآباء الذين يقدموا تعريفات العالم للأبناء خلوًا من أخطاره، والحنان الأمومي الذي يقدم حبًا غير مشروط، سوف نلهث طوال حياتنا بحثًا عن شريك يقدمه لنا من جديد.
تكمن مأساة اليتيم في أنه يولد بتلك المقبرة الرمزية، بدون قصة أصل Origin Story تُبرر جلبه لهذا الكون أو تخبره عن أصله وماهيته وسبب وجوده.
لا يُربي اليتيم بداخله رغبة تمرد فرويدية على سلطة الآباء لأن الآباء غائبين بالكلية، يربي بدلًا من ذلك حنينًا جارفًا لسلطة تُخبره بنقطة المُبتدأ لحكايته. ليمتلك القدرة على التحرك منها لخلق قصته.
تكمن السخرية الدرامية بحكاية «ولاد الشمس» في أن غياب الأب على قسوته، لا يُحرر هؤلاء الأيتام من تلك المعركة الحتمية التي تنبأ بها فرويد، لأن مقعد الأب الشاغر احتله رجل أسوأ، يقدم قصة أصل مروعة. لكنها تلبي نداءات الحنين بداخل الأيتام لرمز أبوي. وهو ما تعد به شخصية بابا ماجد مدير دار الأيتام وصاحبها.
محمود حميدة في مشهد من مسلسل «ولاد شمس»
لا يقدم ماجد للأيتام بديل أبوي عادي، إنما أب فرويدي لا يمكن قتله، في أدبيات فرويد يواجه الأبناء آبائهم عندما يمتلكوا الأدوات اللازمة للخروج إلى العالم دون دعم أو معونة، الأدوات التي -للمفارقة- قدمها لهم الآباء أنفسهم على مدار سنوات البلوغ.
لذلك يحرص ماجد على تقليم أجنحة أبناؤه منذ الطفولة، وتجريدهم من تلك الأدوات، عبر منحهم تعريفات ضيقة لوجودهم، لا يُمكنهم على أجنحتها الطيران إنشًا واحدًا خارج الدار.
تعريفات تبدو معها الدار مثل رحم أمومي مُصغر وبديل عن الأمومة التي لم يعرفها الأيتام أبدًا، وفي المقابل يبدو العالم خارجها مثل وحش جائع فاغر فاه لابتلاعهم.
يحافظ ماجد في تربيته للأيتام على حبسهم في طور طفولة نفسية لا يمكنهم مجاوزتها أبدًا وإن وصلوا لطور الرجولة.
يعبر ماجد عن نظريته في التربية بقصة الأسد الشهير الذي رباه مُدربه بحنان أبوي في السيرك، ليكون أسدًا، ولذلك أطاع الوحش في لحظة بعينها غرائزه والتهم أبيه.
يؤكد ماجد أنه لن يربي أبدًا أسودًا يمكنها التهامه يومًا، إنما أرانب، تمتلك رغم سرعتها الخاطفة، ذلك الجُبن الداخلي عن استخدام سرعتهم في الهروب.
يستسلم الأيتام للعمل لساعات في قبو مظلم لصالح أنشطة التهريب الإجرامية التي يديرها الأب ماجد، ولكن يبدو القبو على ظلمته ورطوبته أكثر مألوفية وأمنًا لهم من نور الشمس.
يؤطر المخرج شادي عبد السلام ذلك المعنى بالكاميرا، ويكرره حتى يتحول إلى هوية بصرية للعمل برُمته، دار تسمى (الشمس)، لكنها تعرض في صورتها ظلالًا مُظلمة لا تنتهي، يبدو مقر الدار معها مثل قصر ومتاهة مُظلمة، بينما كادرات النور والشمس هي دعوة للعالم الخارجي الذي يبدو على إشراقته، مخيفًا لكل أيتام الدار.
في مشهد البداية بالحلقة الأولى، يفر الأيتام من الشرطة في مطاردة طويلة، تُظهرها الكاميرا من علو، لنرى العالم الخارجي بوجدان أبطاله، وحش جائع، لا يُقدم رغم نور الشمس ووضوحها بالكادر، إلا متاهات معقدة، وسلطات وحشية تطاردهم بمجرد ملاحظة وجودهم.
يتفق الأبطال خلال فرارهم على العودة دومًا إلى الدار. التي تمثل المركز الآمن في عالم تم تلقينهم أنه مصمم لمطاردتهم.
«بينما الحب هو فن الحميمية، الصداقة هي فن إبقاء المسافات»
— سيجموند فرويد
تظهر الصداقة في أدبيات فرويد باعتبارها أولى محاولات المرء للخروج عن سلطة الأب والمنزل، لا يختار المرء والديه أو إخوته، لكن الصداقة هي اختياره الأول الحقيقي في ذلك العالم. الحب الأبوي حميمية قهرية لا نمتلك القوة بعد لخلق مسافة منها، لكن الصداقة حميمية طوعية، لا نصل لها إلا بوعي بمسافاتنا من الآخر وقبولنا قطع تلك المسافة نحوه.
في «أولاد الشمس» تظهر الصداقة الأخوية في دار الأيتام باعتبارها الصخرة الوحيدة الثابتة والاختيار الأول والبكر لهؤلاء الأطفال في عالم لا يُقدم لهم قصة أصل.
تظهر الصداقة في دار الشمس باعتبارها سردية بديلة، يمكن للأيتام أن يتكؤوا عليها، لخلق معنى لوجودهم خارج تعريفات الأب المسيطر ماجد، وهو ما يتبدى بقوة في صداقة مفتاح وولعة.
طه دسوقي وأحمد مالك في مشهد من مسلسل «ولاد الشمس»
رغم نشأتهم الكاملة تحت سطوة الأب ماجد، يمتلك مفتاح وولعة فرادة بعينها تميزهما عن بقية أيتام الدار، قوامها ظل بديل لسردية اليُتم التي تسجنهم. ظل لحكاية قديمة تمتلك سحر الغواية، غواية أنهم امتلكوا يومًا قصتهم الخاصة، قصة ممكن استعادتها، وباستعادتها لن يصيروا من أبناء الشمس المجهولين.
تتمظهر تلك الفرادة في صورة قصاصة قديمة يمتلكها ولعة، تحمل صورته وهو رضيع مع أمه، والذي يتحول بمجرد لمسها من شاب يتيم إلى طفل وحيد غاب للحظات عن أمه، لكنه ما إن يجدها سيعود لعالمه ونظامه. أما مفتاح يمتلك تجربة تبنّي في طفولته امتدت لأعوام ثلاثة قبل أن تلفظه أسرة التبني مجددًا للدار عندما ترزق بطفل.
يمتلك مفتاح وولعة ولاء جارف للصداقة بينهما باعتبارها مركزية وحيدة في عالم سائل، وغواية فرادة تميزهم عن بقية أيتام الدار، وهو ما يجعلهما هجين يصعب توقعه أو السيطرة عليه في غابة ماجد. ليسوا أرانب مُطيعة بل أقرب لأسود متمردة، لم تدرك قوتها بعد.
محمود حميدة وطه دسوقي وأحمد مالك في مشهد من مسلسل «ولاد الشمس»
لا ينجح ماجد في ترويض الصديقان بالابتزاز الأبوي الذي يمارسه على الجميع، إنما بتهديد قيمة الصداقة الأخوية ذاتها التي يُدرك ثقلها في عالمهم،
يستغل ماجد سلطته على بقية أطفال الدار في إجبار الصديقان على العمل المشبوه لصالحه في مقابل إعفاء بقية الأطفال من العمل بالقبو. وفي مقابل شيء أهم وهو السماح لهم بالبقاء في الدار بعد تجاوز السن القانوني!
يجيد السيناريو رسم صورة مُعقدة للبطلين مفتاح وولعة، اللذان يمتلكان كل مقومات الأصدقاء في أفلام buddy movies وهي سعة الحيلة والقدرة على الارتكان لصداقتهما في مواجهة العالم.
يرى الصديقان ذواتهما امتدادًا لذلك الخيال السينمائي، بجعل شعار صداقتهما (مين حبيب أخوه؟) مُستعار من صداقة بطلين مشابهين في فيلم سينمائي «اللعب مع الكبار» يقوم على مواجهة صديقان لعالم مخيف يوشك على ابتلاعهم.
يمتلك مفتاح وولعة فرادة تُخرجهما من حظيرة الأرانب في عالم ماجد، لكنهم ليسوا أسود كذلك!
طه دسوقي وأحمد مالك في مسلسل «ولاد الشمس»
يتجنب السيناريو رسم صورة شعبية مبالغة ومفارقة للواقع للصديقين، كصداقة الأبطال في المسلسلات الشعبية مثل «ملوك الجدعنة».
لا يظهر مفتاح وولعة كشخصيات bigger than life إنما كمتمردين، أقرب للمراهقة منهم للنضج، مراهقين يُصارعوا ماضي اليُتم وعقدة الأصل وهو صراع يطبع قراراتهم بأكملها خارج الدار.
يظهر أثر عقدة اليُتم في اختيارات الأبطال العاطفية، حيث يختار مُفتاح فتاة تجيد استغلاله، لكنه يغفل عن طبيعتها الواضحة باحتفائه الممتن بقبولها به، رغم ما هو عليه، مقبولية تمنى لو مارسها أبويه بالتبني تجاهه، بدلًا من نبذه، بينما يختار ولعة سيدة تكبره في العمر، تُخبره في كل مواجهة أنه يختارها كامرأة بديلة عن أمه، تعويذة حضور لامرأة تسكن قصاصة ورق.
فرح يوسف وأحمد مالك في مسلسل «ولاد الشمس»
لا يمتلك الصديقان أي خطة لمواجهة العالم خارج الدار، التي تمثل -رغم كل شيء ورغم تجاوزهما السن القانوني- المنزل، يُحاول ولعة إقناع حبيبته بالزواج في الدار ذاتها في إشارة تؤكد لها أنه رغم نضجه، ما زال طفلًا لا يمكنه مغادرة المنزل، والمحاولة الوحيدة التي حاول فيها الصديقان الهروب من الدار ببقية الأطفال كانت محاولة ساذجة، اتضح عوارها عندما تكدس عشرات الأطفال في شقة متواضعة، في إشارة لمخيال بطلين لم ينضجا بعد لامتلاك تصور مستقل عن المستقبل خارج عنبر الدار المُكدس بأيتام يربطهم رباط أخوي مقدس.
لا يحاول سيناريو مهاب طارق رسم أبطالًا خارقين أو مثاليين، إنما أبطالًا متمردين يتحركوا بثقل عقدتهم القديمة، وتربية مستبدة صنعت قوالبهم التي عليهم أن يتمردوا عليها، لكنها ورطتهم بشكل شعري في رابطة يصعب تجاوزها دون ألم.
رابطة لا يمكن فيها قتل أب واحد بشكل رمزي على طريقة فرويد، إنما فك روابط صداقة وأخوة وثيقة بعشرات الأطفال الذين يعتمدوا عليهم، والذين يمثل التخلي عنهم تكرار مأساوي لعقدتهم الشخصية مع تبادل الأدوار.
مشهد من مسلسل «ولاد الشمس»
لو تخلوا عن الأطفال سيتحولوا وقتها إلى آبائهم المجهولين الذين خذلوهم قديمًا وألقوهم في دار أيتام. وهو ما لا تحتمله كينونتهم أبدًا.
«في النهاية، الإله ليس أكثر من أب مُمجد»
— سيجموند فرويد
يصعب أن تُظهر علاقة الصراع الفرويدية بين سلطة أبوية جارفة مثل ماجد و كينونة متمردة مثل ولعة ومفتاح، قدر تعقيد شخصية ماجد وتنوع مفاتيح التحكم التي يمتلكها، لإبقاء عشرات الأرواح تحت جبروت سلطته من الطفولة للبلوغ.
يقول فرويد أن الألوهة بكل عنفوانها وجبروتها، لا تعدو في تعريفها أن تكون سُلطة نمنحها بإرادتنا لأب مُمجد يتقبلنا.
ينجح السيناريو في إفراد مساحة لاستكشاف هذا التعقيد وتبريره عبر شخصية عبيد، قزم السيرك الذي أنهى يومًا فقرته اليومية المُذلة، ليجد رجلًا يظهر في عالمه كما تتمظهر الآلهة للأرواح الضالة، يمنحه الحنان الأبوي. في مقابل أن يمنحه عبيد الطاعة التي يمنحها الناجون من الغرق للآلهة المُنقذة.
يؤكد السيناريو على طبيعة تلك الرابطة بالأسماء، اسم ماجد يمتلك قبسًا من المجد، واسم عبيد يمتلك طيفًا من العبودية.
محمود حميدة ومينا أبو الدهب في مشهد من مسلسل «ولاد الشمس»
رغم شيب رأسه، يظهر عبيد وفيًا لقِصَر قامته التي تُظهره في صورة الطفل الذي لم ينضج بعد.
يمثل عبيد، رمزية الطفل في أشد صور ارتباطه بالأب تطرفًا وعجزًا، لا يمثل عبيد الطفل الذي يمكن أن يكبر يومًا ليتجاوز والده ولو رمزيًا، إنما الطفل الذي يتقبل قتل نفسه كقربان لرضا الأب.
في بداية المسلسل يُقرر عبيد قتل نفسه عندما طرده الأب بشكل رمزي من فردوس طاعته لغرفة التأديب، وعندما ينجو من الانتحار، يُجيد ماجد في لحظات إعادة سرد الحكاية بتحوير سيكوباتي، ليبدو معها انتحار عبيد مُحاولة لايذائه، تتغير الأدوار ويجد عبيد نفسه يعتذر ويتوسل وهو يُمسك بجرحه النازف على فراش المرض، عن محاولته الانانية لقتل نفسه لايذاء والده!!
محمود حميدة ومينا أبو الدهب في مشهد آخر من مسلسل «ولاد الشمس»
في إحدى المشاهد يتحرك عبيد لتنفيذ نبوءة فرويد، وقتل الأب ماجد بشكل فعلي وليس رمزي، لكن ينجح الأب العجوز والأعزل، في النجاة على فراشه بدون سلاح أو طلب نجدة، فقط بنظرة أبوية لوامة، تخترق وجدان عبيد ليرتجف ويُسقط السكين.
يدرك عبيد أنه لا يمتلك تعريفًا لنفسه خارج تعريف الأب ماجد له، لذلك بمجرد هروبه من الدار بعد محاولة قتل ماجد، يعود إلى السيرك، إلى اللحظة القديمة التي بدأ منها كل شيء، لأنه لا يمتلك تعريفًا لذاته خارج السيرك الذي يُذله والأب الذي يستغله.
يمتلك عبيد أهمية قصوى في السياق الدرامي للحكاية لأنه يجسد التصور المستقبلي، لكل ما سيتحول إليه أطفال الدار لو لم يحققوا نبوءة فرويد ويثوروا على الأب، لا يمثل عبيد الأرنب وحسب في غابة ماجد وتصوره الدارويني عن العالم، إنما الشخص الذي يثق فيه الأب ورب الغابة في تربية الأطفال وقولبتهم في قالب الأرنب الخائف.
لا يحتاج ماجد سوى تربية أرنب واحد وإنفاق ثلاثين عامًا في قولبته مثل عبيد، ثم منحه مهمة قولبة عشرات الأطفال بالطريقة ذاتها. لذلك كلما نصح الأيتام عبيد بالتمرد يُعيد تذكيرهم أنهم أبناءه وأنه من رباهم، وهي طريقة الأب ماجد ذاتها في الابتزاز الأبوي له.
يمكننا ملاحظة الطريقة الداروينية التي ينظر بها ماجد للعالم، في مشهد اعترافه لعبيد بقتل قطايف اليتيم. لا يمتلك قطايف استعدادات الطاعة التي تحوله لمُربي أرانب وفي مثل عبيد، ولا يمتلك القوة للتمرد وسعة الحيلة مثل مفتاح وولعة والتي يستغلها ماجد في ابتزازهم للقيام بالمهام الصعبة لأجله.
يُروض قطايف خوفه من العالم الخارجي بالقراءة، والتهام أكثر من 30 كتاب في مكتبة الدار أملًا أن يقدموا له تصور متماسك للعالم الخارجي.
معتز هشام ومحمود حميدة في مشهد من مسلسل «ولاد الشمس»
عندما يتساءل عبيد عن سبب قتل قطايف، يتحرر ماجد للحظات من قناعه الأبوي ويتحدث باحتقار نيتشوي عن قطايف باعتباره أبله، لا قيمة له في تقسيمه الدارويني للعالم كغابة، ليس أرنبًا مطيعًًا، ولا شبلًا متمردًا. لا أحد. كيف لنكرة أن يقوم بتهديده؟
يحتقر نيتشه في كتاباته، المثقف الذي يسكن عالم الأفكار المجردة ولا يهبط بقوة يده للعالم ليشكله وفق إرادته، يبدو هذا المثقف عارفًا لكنه يسكن الأفكار والسطور لا العالم الحقيقي، ولذلك ينجح ماجد في قتل قطايف بغريزة بدائية مثل الأكل.
ينظر لقطايف وهو يلتهم الطعام مثل أرنب جائع، غافلًا عن أي احتمالية لقتله. ربما لو قرأ قطايف كتب نيتشه ضمن مجموعة كُتبه الأثيرة التي يقتبس منها باستمرار، لنجا يومها من الموت. ومن محاولة فهم الحياة عبر الكتب وحدها.
يجيد السيناريو عبر الخطوط الفرعية رسم صورة حقيقية لما تمثله سلطة ماجد وقدرتها السحرية على خلق أتباعها، وقدرتها النيتشوية على التخلص منهم لو لم يقدموا لها حلًا وباتوا تهديدًا.
رغم نجاح ولعة ومفتاح في السيطرة على الدار وسجن ماجد، لا يتحرر عبيد من سيطرة الأب، لأن ذاته عقيمة عن توليد أي تعريف لها خارج ما يقدمه ماجد.
لا يمثل ماجد الخطر في ذاته إنما في الفكرة التي يقدمها وهي السلطة التي تزرع تعريفاتها في وجدان مٌمتثل، ليصير نائبًا عنها حتى في غيابها.
بتجريد ماجد من سلطانه وعرشه، ينوب عبيد عنه في التحرك ضد أي محاولة لتحرير الدار. وتتسبب خياناته المتكررة في إيذاء الأبطال أضعاف محاولات ماجد ذاتها. ليؤكد السيناريو أن ماجد يتجاوز خطره الذاتي لخطره الفلسفي، وهو زرع فكرة الامتثال في وجدان هش وإخصائه عن أي قدرة لتوليد فكرة جديدة للنجاة وتعريف الذات من جديد.
يجيد السيناريو رسم شخصياته وصراعاتها، ويجيد كذلك رسم صورة لهشاشة مفتاح وولعة، وكيف يطبع اليُتم أو عقدتهما الأساسية اختياراتهم لشركائهم، وتصوراتهم الساذجة عن الخلاص، لأنهم في النهاية، أطفالًا لم يكبروا بشكل كامل بعد. لم يقتلوا الأب بعد.
يجيد السيناريو كذلك رسم تصور متماسك لجبروت السلطة الأبوية عبر علاقة ماجد بعبيد أخلص أتباعه، المتأرجحة بين الوعيد بالعصا والإغراء بالجزرة، وقدرته في لحظة بعينها على الخروج بحسم من طبيعته الثعبانية المراوغة وارتكاب القتل بدم بارد.
يضع السيناريو أبطاله بذكاء في مواقعهم على رقعة الشطرنج، لكنه لا يمتلك القوة ذاتها في تحريك تلك الشخصيات المعقدة في حبكة لها إيقاع حيوي ومتصاعد.
ينشغل السيناريو في منتصف المسلسل عن الصراع الرئيسي بالصراعات الفرعية التي تشكل قانونًا أساسيًا في تيمة buddy films وهي الصراع الطارئ بين الأخوين، ومحاولات الافتراق المتكررة التي تنتهي دومًا بانتصار الصداقة.
رغم قصر المسلسل (15 حلقة)، تخلو حلقات بكاملها من التركيز على الخط الأكثر حيوية وهو الصراع الأساسي بين سلطة الأبناء، والأب ماجد، الذي يُسجن لعدة حلقات، بينما يستعيض السيناريو عن تحريك الصراع للأمام، بكشف سخي لمفاجآت لم نعرفها في وقتها. لكنها لا تمتلك القوة الكافية لحفظ تماسك السرد وإيقاعه. ويعول العمل بكامل أدواته على كاريزما الشخصيات الرئيسية وأدائها المتماسك الذي يُجبر المتلقي على الاستمرار في المتابعة.
«إذا الشمس غرقت في بحر الغمام
ومدت على الدنــــــيا موجة ظلام
ومات البصر في العيون والبصاير
وغاب الطريق في الخطوط والدواير
مفيش لك دليل غير عيون الكلام»
— أحمد فؤاد نجم
لا يمتلك الأيتام صيرورة النمو الطبيعية التي تنتهي بتجاوز الأب رمزيًا، نحو مواجهة العالم الحقيقي، يتحول ذلك التجاوز في «ولاد الشمس» إلى ضرورة قتل الأب ماجد فعليًا لا رمزيًا، وهو ما يشكل في حدوثه تدمير متبادل للطرفين. لذلك يحتجز مفتاح وولعة الأب لأسابيع دون امتلاك الشجاعة لقتله.
يستعيض السيناريو عن قتل الأب وتدمير براءة البطلين للأبد، بقتل مُفتاح، أقرب شخصية في الأيتام لعتبة النُضج. ليصير موته عتبة مثالية وإجبارية لخروج الإخوة وعبيد وكل من عاشوا يومًا في عباءة الأب ماجد، من طور الطفولة النفسية للنضج المرير.
يتآكل القناع الأبوي بالكُلية ويتحول الأب ماجد في النهاية وفي نظر أبنائه إلى إنعكاس مخيف لكرونوس الإغريقي، الذي أكل أبناءه واحدًا تلو الآخر لحماية عرشه وسلطته. وكانت نهايته بالطريقة ذاتها، عندما نجا ابنه زيوس وقتله لينقذ إخوته، وينقذ ذاته.
لا يقتل ولعة الأب ماجد إنما يتمسك بنصيحة مفتاح التي قاومها دومًا، وهي التخلص من ماجد بالطريقة المناسبة. لينال عقابه القانوني في النهاية.
تكمن قوة «ولاد الشمس» رغم توسله قالب buddy movies وثيمة الصداقة الشعبية، في كونه يستخدم ذلك القالب كمدخل وحسب إلى عالم الأيتام، لينشغل العمل برُمته بعدها في استكشاف سيكولوجية اليتيم وما يعنيه أن يُزهر المرء بدون سلطة الأب؟ وما هي كينونة السلطات التي يمكنها أن تشغل مقعد الأب الشاغر؟ وما يعنيه الخروج أخيرًا بعد الحياة لسنوات في أخوية جماعية بديلة، نحو عالم يستعد للأيتام بكل آيات الوصم.
يؤكد المسلسل انحيازه لتلك الأسئلة في قراره بتحطيم حاجز الإيهام بالنهاية، عندما يختلط الواقعي بالخيالي ونقابل أيتامًا حقيقيين في موقع الدار الدرامي، يتحدثوا عن هموم وحكايات حقيقية تشبه مشاعر الشخصيات الدرامية.
يقدم العمل نماذج ناجحة لأيتام تحققوا في العالم الخارجي، ويقدم تحية خفية لأيتام ربما لم ينجحوا في مواجهة العالم وهلكوا قبل أن يصلوا للنور، أيتام يشبهوا مفتاح وقطايف، قصص مُجهضة لأحلام ماتت في الظل دون حضور.
مشهد من مسلسل «ولاد الشمس»
يخلق أيتام الشمس في الحكاية نشيدًا بديلًا يعبر عن كينونتهم، وهي أشعار نجم عن شمس غرقت في الغمام، وموجة ظلام غطت معالم الطريق، وهو مأزق الأيتام الدرامي في العمل برمته، تُنهي الأشعار الوصف بالتأكيد على الكلام والبوح كحيلة أخيرة للخروج من الظُلمة وتعويذة لاستدعاء الشمس والنور لمشهد مُظلم، وهو ما يهدف له العمل برمته، الحديث عن الأيتام بكينونتهم الحقيقية، خارج قوالب الوصم الدرامية والواقعية.
# دراما رمضان 2025 # ولاد الشمس # أحمد مالك # طه دسوقي # محمود حميدة # مسلسلات رمضان # دراما رمضان