لم تعد ورش الكتابة حدثًا عارضًا في عالم الأدب، بل صارت علامة مميزة له. وصار من المعتاد تداول جُمل مثل ورشة «تعليم تقنيّات السرد»، أو «تعليم قواعد الكتابة الروائية»، إلى آخره من الجُمل الدعائية لورش الكتابة. لكن دائمًا ما تُولد الأفكار ومعها نقدها. فتثير ورش الكتابة جدلًا واسعًا بين الكُتّاب أنفسهم، وبين النقاد والمهتمين بالأدب عمومًا.
تجدر الإشارة إلى أن جانبًا من النقد الموجه لها يكون بسبب حداثتها في حقل إبداعي يقوم على قواعد تراثية عتيقة. لكن قد لا تكون الورشة الأدبية أو ورش الكتابة أمرًا مُستحدثًا كما نظن. ففي العصور السابقة، العصر العباسي مثلًا، كانت تُقام ورش لدراسة الشعر والعَروض. وقد ترجم الجاحظ لأحد الشعراء في عصره قائلًا: إنه «كالمسن يشحذ ولا يقطع»، ويُقصَد به الأداة التي تُحوِّل نصل السيوف أو السكاكين إلى نسخ أشد حدة بعد أن تقل قدرتها على القطع مع كثرة الاستخدام. فهذا الشاعر كان مُشتغلًا في تعليم الشعر، ويصفه الجاحظ أنه «يُعلِّم الشعر أحسن مما يكتبه».
لكن مع التسليم بوجود مفهوم الورش في ثقافتنا العربية، فإنها لا تسلم من النقد أو الجدال حولها عمومًا. فمن زاوية يراها عديدون وسيلة مهمة لتوفير وقت ثمين في التجربة والخطأ. ففي عصر ما قبل الإنترنت والمدّونات، ثم ما قبل ورش الكتابة الإبداعية، كان الأديب يستغرق سنوات لتحديد مساره الأدبي، ومعرفة مصادر دراسته للفنون الأدبية. كذلك كان الأمر يستغرق وقتًا طويلًا في اكتشاف الكاتب لأخطائه في الكتابة وطريقة معالجتها بطريقة مناسبة. لكن في عصر ورش الكتابة باتت الرحلة أسهل نحو اكتشاف الذات الأدبية.
لكن هذا يفترض ضمنًا وجود الذات الأدبية بالفعل. بعبارة أخرى لا يمكن لورش الكتابة أن تخلق كاتبًا، لكنها تستطيع تعليم الكاتب الموهوب كيف يتلاشى أخطاء من سبقوه، وكيف يصل إلى هدفه أسرع. لكنها لن تغني أبدًا عن الطريقة التقليدية في التعلم: الالتزام بتمارين مملة لفترات زمنية طويلة، وأن يتقبل الكاتب فشله بصدر رحب. كما يقول صمويل بيكيت: «افشل مرة أخرى.. افشل بشكل أفضل»، فالفشل هو سبيل الكاتب المقدس للنجاح والتعلم.
لذلك، من المهم أن يدرك الكاتب أو من يريد أن يصبح كاتبًا أن ورش الكتابة لا تخلق الموهبة، بل تُمكِّن الموهوب من معرفة الأدوات المناسبة. وأنها قد توفر عليه فترة من التيه بين المدارس الأدبية. خصوصًا مع حداثة السن وتعقد المسارات والخيارات في عصرنا الحالي. وتأتي ورشة الكتابة لتكون بمثابة نقل للخبرات من الكُتّاب الأكبر سنًا والأكثر خبرة إلى الشباب حديثي الدخول في معترك الكتابة.
كذلك قد تكون الفائدة الأهم لورشة الكتابة أنها تُخبر الشخص بصراحة ووضوح أن الكتابة ليست مجاله. ففي أحد الكُتب المهمة التي تتحدث عن الكتابة «رسائل إلى شاعر شاب» لراينر ماريا ريلكه، نجد الشاب الذي تواصل مع ريلكه قد قرر في نهاية الأمر أن ينصرف عن الكتابة لمجال آخر. فورش الكتابة الجيدة تُعنى بشكل أساسي بوجود تدريبات مكثفة للقراءة والكتابة. حينها قد ينصرف عن الكتابة غير الموهوب، لأن قدرته على الصبر في هذا المضمار تكون محدودة. بينما من يرى في نفسه الموهبة أو يشعر بوجودها، يظل صامدًا وحريصًا على المعافرة حتى النفس الأخير.
هنا يمكن أن نخرج من الخلاف أو التناقض الظاهر بين ورش الكتابة والإبداع، في أن ورش الكتابة تسهم في صقل الموهبة. لكن لا يمكن أن ينتظر الشخص من الورشة أن تقدم له وصفة سريعة وجاهزة ليكون مبدعًا، أو بالمنطق الحالي «كيف تصبح كاتبًا في 30 يومًا من دون معلم».
إن الورش التي تقدم نفسها بوصفها الطريق السحري للإبداع يجب أن تكون محل تساؤل قبل التقدم لها. فمن الجوانب الجيدة في ورش الكتابة أنها تقضي على أسطورة الإلهام في الكتابة أو التصور الشائع عن أن الكتابة فعل مقدس وغامض، لا يجب أن يعرف أحد كيف يتم، وينبغي له تحضير عديد من الطقوس. هذا التصور يؤدي في غالب الأحيان إلى تثبيط من يريد الدخول في مجال الكتابة، لأنه يشعر دائمًا أن الأمر يحتاج إلى ما هو أكثر وإلى أشياء غير معروفة.
كمحاولة لاستكشاف ملامح الطريق الأدبي، ومعرفة أبرز ما يجب أن يُتقنه الشخص قبل دخوله للعالم الأدبي أو على الأقل أن يعرف ماذا يجب أن تُقدم له الورشة الأدبية، فهناك عديد من الكُتب التي تناولت هذا الموضوع يمكن الاستعانة بها ابتداء.
هذا الكتاب من تأليف روي بيتر كلارك، المتخصص في مجال تعليم الكتابة والحاصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي. يقوم كلارك في هذا الكتاب بتكثيف سنوات خبراته الطويلة في مجال تعليم الكتابة في صفحات بسيطة يستطيع الجميع الاستفادة منها.
تقول الكاتبة بثنية العيسي صاحبة كتاب «الحقيقة والكتابة» في مراجعتها لهذا الكتاب:
هذا ليس كتابًا تقرؤه من الغلاف إلى الغلاف. إنه كتابك طوال السنة، ويمكنك أن تُخصِّص لكل أداة أسبوعًا، لا سيما مع وجود تمارين ينهي بها كلارك كل فصل بما يجعل استفادتك من المحتوى أعمق. إنه مادة ممتازة للمهتمين بتقديم ورش العمل في الكتابة الإبداعية، وما أحبه في هذا الكتاب هو شموليته، فهو يبدأ من مستوى مايكرو، من الكلمة والجملة والفقرة، وحتى مستوى ميتافيزيقي يتعلق بخلق التأثير والمعنى. قُسّمت فصوله وفق هذا الترتيب الذي أجده بالغ المنطقية؛ صواميل ومسامير، مؤثرات خاصة، المخططات، وأخيرًا عادات مفيدة.
هذا الكتاب لجاربيل جارسيا ماركيز يقع ضمن ثلاثية مُستقاة من ورش العمل التي نظمها ماركيز للحديث عن كتابة السيناريو. تشمل تلك الثلاثية كذلك «نزوة القص المباركة»، و«بائعة الأحلام». يضع ماركيز في ثلاثيته كيف تتطور الأفكار لتصبح حكايات خيالية أو واقعية وكيف تختلط حتى بالأحلام.
يقول ماركيز نفسه عن الكتاب وورش السيناريو:
الشيء الوحيد الذي أتقنت عمله إلى اليوم هو رواية القصص، ولكنني لم أتصور قط أن روايتها جماعيًا ستكون ممتعة إلى هذا الحد، فهذه الورشة هي المكان الذي يرى المرء بعينيه، كيف تنمو القصة.
يناقش «جراهام جرين» في هذا الكتاب عديدًا من المسائل الأدبية مثل: هل يمكن العثور على المؤلف في شخصياته، وما الفرق بين كتابة الروائي للرواية وكتابته للقصة القصيرة؟ كما يعرض لنا عن دور الأحلام فى تشكيل شخصيات أعماله الروائية واكتمالها، إذ إن الكاتب يظل فى حالة تعايش مع شخصياته طوال الأربع وعشرين ساعة، والأحلام تسهم بشكل فعّال فى اكتمال وتكامل أعماله الروائية، فهي تُلهِمه دائمًا الحلول والمساعدة في ما يقابله من عثرات روائية.
والكتابة في رأي جرين هي لون من ألوان العلاج النفسي، ونوع من الهروب من كآبات الواقع الذي يعيشه، كما أن القصة القصيرة لديه هي نوع من أنواع الهروب من معايشة شخصياته الروائية.
هذا الكتاب الذي ترجمه أحمد الشافعي، يشمل عددًا من الحوارات التي أجرتها المجلة مع كُتّاب كبار. مثل إرنست همنجواي وميلر وبورخيس وفوينتس وكونديرا ونجيب محفوظ وبول أوستر وسوزان سونتاج، إكو. ويُعد الكتاب مدخلًا إلى أعمال كل منهم وفرصة للتعرف على جوانب من شخصياتهم. كما أنه يساعد أي كاتب ناشئ في الاستفادة من نصائحهم حول تعود الكتابة، وتدريب الإلهام كي يتواءم مع ظروف حياة كل فرد على اختلافها.
يقول الشافعي عن الكتاب:
كلنا الآن -إلا من رحم ربي- غارق في بحر المعرفة، لكنه غرق الموتى لا الغوّاصين. وكقارئ، كانت حوارات (باريس ريفيو) ولا تزال تفتح لي بابًا إلى زمان آخر. كانت قراءة هذه الحوارات ولا تزال تحقق لي جملة أهداف مجتمعة. أوضحها هو التعرف على التطور الذي مرَّ به هذا الكاتب أو ذاك من رواية إلى أخرى ومن كتاب إلى آخر. ولكن منها أيضًا، ولا يقل أهمية، الائتناس بكاتب، مجرد الائتناس، بعقل من عقول الإنسانية النادرة، بتجربة شخص رصد العالم في الفترة التي قضاها فيه، وأحال رصده هذا فنًا.
هذا الكتاب لـإيه. إم. فورستر، وهو فيلسوف وروائي وكاتب مقالات. في كتابه هذا يخبرنا كثيرًا عن الأركان السبعة للرواية: القصة، والشخصيات، والحبكة، والخيال، والنبوة، والنمط، والإيقاع. وقد تعرّض هذا الكتاب لنقد في بداية ظهوره، رغم أنه تجميع لعدد من المحاضرات التي ألقاها فورستر. ومصدر النقد هو أن فورستر حرص في الكتاب أن يقترب مما يشبه صياغة نظرية معيارية لكيفية كتابة النثر.
لكن لاحقًا بدأ الكتاب في تلقي الإشادات من كُتّاب كبار مثل فيرجينا وولف، كذلك مدح سومرست موم الكتاب قائلًا:
بعد أن قرأت الكتاب تعلمت أن الطريقة الوحيدة لكتابة الروايات هي مثل السيد إي إم فورستر
يتكون هذا الكتاب، لميلان كونديرا، من سبعة فصول، يعرض فيها تصوره عن الرواية. فهو كما يقول:
كل الروايات معنيّة بلغز الذات. حالما تخلق كائنًا مُتخيلًا، شخصية ما، فإنك بطريقة آلية تجابه بهذا السؤال: ما هي الذات؟ كيف يمكن الإمساك بها وفهمها؟
يتوجه كونديرا في كتابه للجميع، دون أن يحصر كلامه على المختصين وحسب. وينفذ إلى لُب الموضوع سريعًا، فلا يضيع وقت القارئ في استعراض مسيرته الذاتية، ولا استعراض مرسل لتاريخ الرواية عمومًا.
قد تكون الكتب الستة السابقة، مع كتاب «رسائل إلى شاعر شاب» المذكور في ثنايا المقال، بداية لمن يريد الإبحار في عالم الكتابة. لكن يمكن أن يضيف عليهم عددًا من الكتب التي ناقشت الموضوع في الناحية العربية أو المصرية، مثل: كتاب «فجر القصة المصرية» ليحيى حقي. كذلك هناك كتب اهتمت في ترجمتها بتقريب الموضوع للقارئ العربي، مثل: كتاب «كيف أصبحت روائيًا» من تأليف أرسكين كالدويل، وترجمة أحمد عمر شاهين.