أثارت كتابات وائل حلاق جدلًا واسعًا في أوساط مختلفة حول الحداثة الغربية ومشروعها السياسي والمعرفي. في كتابه «الدولة المستحيلة»، لا ينفي فقط إمكانية التوفيق بين الشريعة والدولة الحديثة، بل يكشف التعارض الجذري بينهما، فالدولة الحديثة تقوم على السيادة واحتكار العنف وفصل القانون عن الأخلاق، بينما ترتكز الشريعة على تصور أخلاقي للعدالة والمعنى.
يذهب أبعد من تفكيك صور التحيّز، إلى مساءلة البنية المعرفية التي صنعت شرقًا بلا شرعية فكرية، في مقابل غرب يُقدَّم كمرجع كوني. يُبيّن حلاق كيف تُوظّف مفاهيم تبدو محايدة لإنتاج هيمنة معرفية، عبر تحويل المعرفة إلى أداة سلطة.
تثير الجذرية النقدية في مشروع وائل حلاق سؤالًا إشكاليًا متكررًا: هل ينزلق، ولو ضمنًا، إلى ثقافوية جوهرانية؟ هل يُعيد بناء قطيعة صلبة بين الإسلام والغرب، تغفل التشابك التاريخي والتفاعل المتبادل؟
أحاول في هذه المقالة فحص هذا الاتهام، دون التقليل من أهميته. وأجادل بأن تهمة الثقافوية، رغم ما يبدو من وجاهتها، تخطئ جوهر مشروع حلاق النقدي وهدفه. فمشروعه لا يستبطن دفاعًا عن هوية مغلقة، بل يدعو لاستعادة موقع أخلاقي مستقل يُتيح للفكر الإسلامي إنتاج مفاهيمه الخاصة، مفاهيم العدل والمعنى والسلطة والدولة، دون الاضطرار إلى الاقتراض القسرى لمفردات قاموس الحداثة أو الخضوع لمرجعياتها.
هذا المسعى لا يعنى الانعزال أو التعلق بماضٍ متخيَّل، بل هو موقف نقدس من التموضع القسري داخل أنساق معرفية تصادر على المطلوب. حلاق لا ينكر إمكان التفاعل مع الحداثة، لكنه يتمسك بحق أن يتم هذا التفاعل من موقع مستقل، لا من خلال ترجمة الذات الإسلامية إلى لغة ليبرالية. المهمّ، في نظره، ليس مجرد المشاركة في الخطاب الحديث، بل القدرة على مساءلته وإنتاج معانٍ تتجاوز حدوده المفروضة.
قبل الخوض في تهمة الثقافوية الموجهة إلى وائل حلاق، من الضروري توضيح معنى المصطلح، ولماذا يُعد إشكاليًا، وكيف يظهر في النقاشات الفكرية والسياسية اليوم.
يشير المصطلح إلى نهج يُفسير الظواهر السياسية والاجتماعية من خلال التركيز على الفروقات الثقافية. تعامل الثقافة كجوهر ثابت لا متغير أو متنوع. وتُختزل أفعال الأفراد والجماعات في خلفيتهم الثقافية، متجاهلة تأثير السلطة أو السياق التاريخي، وتُغيب التنوع ضمن كل الثقافة والبعد البنيوي للصراع.
تُعد الثقافوية إشكالية محورية في دراسات ما بعد الكولونيالية، بسبب المنطق الثاوي فيها، الذي يعيد انتاج الاستشراق ولو بلبوس نقدي. في مقالها «هل تحتاج النساء المسلمات فعلًا إلى من ينقذهن؟»، تشرح ليلى أبو لغد كيف تُستدعى الثقافة لتبرير التدخل باسم الدفاع الأخلاقي أو الإنساني، عندما تُقدَّم كجوهر ثابت،. تحذّر أبو لغد من هذا التبسيط، لأنه يُحمّل الاختلاف الثقافي عبء المعاناة، ويتجاهل السياقات البنيوية والتاريخية التي تُنتجها.
وهذا يحيلنا إلى سؤال ضروري: هل يمكن لنقد أخلاقي ينبثق من داخل التقليد الإسلامي أن يتجنّب الثقافوية دون أن يتخلى عن خصوصيته؟
في منطق حلاق، الإجابة نعم مشروطة. فالنقد المنطلق من موقع مستقل معرفيًا لا هوياتيًا مغلقًا، لا يعني القطيعة مع الحداثة، بل مساءلتها جذريًا من خارج أفقها المهيمن.
لا ينكر حلاق التداخل بين التاريخ الإسلامي والحداثة الغربية، ولا يدّعي نقاءً ثقافيًا أو يدعو إلى عزلة حضارية. ما يرفضه هو العلاقة غير المتكافئة، حيث يُقبل الفكر الإسلامي فقط بقدر ما يُعاد تشكيله ضمن القوالب الليبرالية. شكلته ليست مع الهجنة بوصفها تفاعلًا، بل مع ما يسميه الهجنة المهيمنة—تلك التي تحتكر تعريف المعقول وتُحدّد شروط التفاعل سلفًا.
حتى لا ينزلق النقد الإسلامي نحو خطاب ثقافوي أو احتجاج هوياتي، لا بد أن يتجاوز الثنائية المكرورة الإسلام مقابل الغرب، دون الذوبان في منطق الإصلاح الليبرالي. المطلوب ليس دفاعًا عن هوية، بل إنتاج مفاهيم تُشتق من داخل المرجعية الإسلامية، وتشتبك مع الواقع من موقع مستقل. في تصور كهذا، لا يصبح النقد دفاعيا، بل مساءلة معرفية، تطرح بشجاعة أسئلة جديدة تتجاوز افتراضات الدولة أو السوق أو الفرد الليبرالي كمداخل بديهية لتنظيم الحياة.
ولهذا ينتقد حلاق الاستيراد السلبي للمفاهيم الليبرالية مثل الحرية أو العدالة، ليس لأنها غربية، بل لأنها محملة بافتراضات مسبقة وتُمارس الهيمنة حين تُقدَّم نفسها كمعايير كونية. حين تُعمَّم دون مساءلة، فإنها تُقيّد القدرة على التفكير الأخلاقي والسياسي خارج إطارها المفروض.
يرفض حلاق صيغ الاندماج والإصلاح، لأنها تفرض ضمنًا على الفكر الإسلامي منطق التكيف ليتماشى مع شروط الحداثة، لا محاورتها من موقع مستقل.
لا يعرض مشروعًا مغلقًا، بل يطالب بإعادة توزيع المجال الأخلاقي الكوني، بحيث لا تبقى القيم الكبرى حكرًا على أفق ليبرالي يدّعي الكونية. وما يقترحه ليس بديلاً جاهزًا، بل تفكيكًا لفكرة الجاهزية ذاتها، ورفضًا للمنطق الذي يُقصي الخطابات غير المطابقة لمعايير الصلاحية الليبرالية.
في نظر حلاق، لا تكمن الأزمة في غياب نموذج إسلامي جاهز، بل في الشروط المفاهيمية التي تجعل هذا الغياب يبدو بديهيًا ومسلّمًا به.
لا يسعى إلى الاعتراف ضمن النظام القائم، بل يوجّه سؤاله إلى مرتكزاته نفسها: من تعريف السياسة، إلى مفهوم السيادة، إلى العلاقة بين الأخلاق والقانون.
في المقابل، يدعو إلى تفاعل غير تماثلي، لا تُفرض فيه إعادة صياغة المفاهيم الإسلامية ضمن قوالب جاهزة، كما يحدث حين تختزل الشورى إلى ديمقراطية. بالنسبة إليه، التواصل لا يقتضي تطابقًا، بل يعترف بالاختلاف بوصفه شرطًا للفهم، لا عائقًا له.
تتمحور الانتقادات الموجهة إلى حلاق حول اتهامه بإعادة إنتاج ثنائية مغلقة بين إسلام مثالي في مقابل غرب هيمني، ويُخشى أن يُعيد إنتاج خطاب استشراقي مقلوب، أي تقويض الهيمنة باسم ترسيخ جوهر موازٍ لها.
هذا ما يعبّر عنه كل من أندرو مارش، نايثن براون، ولمى أبو عودة، وإن اختلفت زواياهم. يشتركون في القلق من أن مشروع حلاق يقصي فاعلية المسلمين في تشكيل الحداثة، و يُغفل تفاعلاتهم المعقدة معها.
يرى أندرو مارش، في مقاله «استحالة الدولة الإسلامية: ردّ على وائل حلاق»، أن حلاق يخاطر بتحويل الإسلام إلى نسق أخلاقي مغلق مكتفٍ بذاته، مقابل حداثة تُختزل في أدوات هيمنة. يقول:
«تخاطر رؤية حلاق بأن تصبح كونًا أخلاقيًا مغلقًا، حيث تُقدَّم التقاليد الإسلامية كنظام أخلاقي مكتفٍ بذاته، وتُختزل الحداثة إلى مجموعة من البُنى الهيمنية الغريبة. هذا التقابل يُضيّق المجال أمام وقائع التفاعل المركّبة والهجينة التي عرفها المسلمون مع الحداثة».
مارش يعتبر أن هذا الطرح يُضعف إمكانات التفاعل الداخلي والتأويلي، ويُغفل التجارب التي حاولت الجمع بين المرجعية الإسلامية والمفاهيم السياسية الحديثة، من الشورى والدستور إلى السيادة الشعبية.
في مراجعته لكتاب «الدولة المستحيلة»، يركز نايثن براون على التوتر بين الطرح الأخلاقي لحلاق والواقع المؤسسي الذي عرفه التاريخ الإسلامي الحديث.
لا يُنكر براون أهمية مساءلة الليبرالية السياسية، لكنه يرى أن حلاق يتجاهل سجلاً ثريًا من الممارسات السياسية والتشريعية التي انخرط فيها المسلمون في الأزمنة الحديثة. ويكتب «عمل حلاق يشكّل نقدًا فلسفيًا قويًا، لكنه يتركنا نتساءل: كيف ننتقل من هذا التشخيص إلى اقتراح عملي؟ كيف يبدو ‘الأخلاق الإسلامية’ عند تطبيقها، خارج نطاق المبادئ المجردة؟»، ويضيف «لم يكن المسلمون مجرد متلقّين سلبيين للحداثة؛ بل شكّلوا وتأثّروا بالأشكال السياسية الحديثة».
بالنسبة لبراون، تجاهل هذه التجارب، من الحركة الدستورية في إيران، إلى إصلاحات محمد علي، وصولًا إلى التحولات القانونية في الأزمنة الاستعمارية وما بعدها، يُضعف أطروحة الاستحالة، ويجعلها تبدو منفصلة عن إمكانات التكيّف والإبداع التي أظهرها المسلمون ضمن شروط الحداثة رغم ما فيها من إجحاف وعدم تكافؤ.
لمى أبو عودة تتبنّى مقاربة أكثر مباشرة لمشروع حلاق، تعتبره يعيد إنتاج ثنائية جوهرانية بين إسلام أخلاقي وغرب دولتاني. وترى حلاق رغم نقده المعلن للاستشراق، يقع في فخ الصور الجوهرانية التي يدّعي تفكيكها، فهو يقدم الإسلام بوصفه نسقًا قانونيًا–أخلاقيًا، في مقابل غرب علماني–دولتاني، وهو يُغفل التنوع الداخلي والتحولات التاريخية داخل كلا التقليدين.
وتُشير إلى أن هذا التصور يُسقط فاعلية المسلمين، ويختزلهم في موقع الضحايا السلبيين، بينما تُصوَّر الحداثة كقوة مفروضة من الخارج، ويُغفل ما قام به المفكرون المسلمون من جهود في الترجمة، والتأويل، وإعادة البناء.
من وجهة نظر أبو عودة أن مشروع حلاق، رغم نقده للهيمنة الليبرالية، يُقصي محاولات التفاعل الخلاق، ويُعيد ترسيخ ثنائية الشرق المتلقي والغرب الفاعل، وهي الثنائية التي سعى الخطاب ما بعد الكولونيالي لتجاوزها.
رغم أهمية هذه الانتقادات وما تطرحه من إشكالات حقيقية، خاصة في ما يتعلّق بالجوهرنة أو التعميم التاريخي، إلا أنها – في المقابل – تميل إلى اختزال مشروع حلاق في صورة نمطية لا تعكس طبيعته المعرفية ولا منطقه التفكيكي. فحلاق لا ينكر التداخل التاريخي بين الإسلام والحداثة، ولا يرفض التفاعل مع المفاهيم الحديثة جملة وتفصيلًا. ما يطرحه هو مساءلة الشروط التي يُسمح في ظلها لهذا التفاعل أن يحدث، حين يُقبل الفكر الإسلامي فقط إذا أعاد تشكيل نفسه داخل أفق ليبرالي يعتبر نفسه معيارًا عالميًا.
لا يتمحور نقد حلاق حول رفض الحداثة ككل، بل حول نقد أنماط التفاعل غير المتكافئة، والتي تُقصي المرجعيات الأخرى ما لم تخضع لمفردات الدولة القومية، السيادة، أو العقلانية الأداتية. الفكرة المحورية لديه هي أن الهُجنة ليست مشكلة بحد ذاتها، بل تصبح كذلك عندما تتحول إلى وسيلة لإعادة إنتاج الهيمنة. كما يكتب حلاق «الهُجنة ليست سيئة في ذاتها، لكنها تصبح كذلك عندما تُصبح أداةً لاستبدال المرجعية الإسلامية بمعايير غربية مُعلّبة».
وهنا يتضح التباين، فبينما يتوقع النقاد من حلاق أن يقدّم خريطة طريق أو نموذجًا تطبيقيًا، يتخذ هو موقعًا مختلفًا، ينطلق من مساءلة منطق الجاهزية نفسه. بالنسبة له، ليس غياب النموذج هو المشكلة، بل الطريقة التي يُصاغ بها السؤال أصلًا. فما يُطرح اليوم كحلول ضرورية أو عقلانية، إنما هو مشروط بسياق مفاهيمي يُعيد إنتاج التفوّق الليبرالي، يحول المرجعيات الأخرى إلى مجرد ظلٍّ باهت له.
اتهام حلاق بالثقافوية يُخطئ جوهر مشروعه. فهو لا يقدّم تصورًا مغلقًا لهوية إسلامية، ولا يسعى إلى نموذج سياسي جاهز.
منذ البداية، يرفض الانخراط في منطق يُقدّم حلولًا داخل شروط يعتبرها أصلًا جزءًا من الإشكال. لذلك، فإن امتناعه عن عرض خارطة طريق ليس خللًا نظريًا، بل موقفًا معرفيًا أعمق: من يحدد ما هو الحل؟ وما الذي يجعل تصورًا ما يبدو معقولًا أصلًا؟
مشروع حلاق لا يدعو إلى استعادة دولة إسلامية متخيّلة، بل إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الأخلاق والمعرفة والسلطة.
موقفه لا يعكس انعزالًا، بل رغبة في مساءلة الشروط التي تنظّم التفكير والعمل. لا يطلب اعترافًا ضمن قواعد اللعبة الليبرالية، بل يعيد التفكير في بنيتها ذاتها.
وما يُضاعف التباس تهمة الثقافوية أنها تتحول إلى أداة إقصاء، تُستخدم لنزع الشرعية عن أي طرح يتجاوز أفق الليبرالية التعددية. الاختلاف لا يعني الجوهرانية، ورفض المعايير السائدة لا يعني الانغلاق. بعض من يواجهون حلاق بهذه التهمة، يتعاملون مع الدولة الحديثة، حقوق الإنسان، والعقلانية الأداتية كحقائق نهائية لا تقبل المساءلة.
ما يقترحه حلاق ليس خطابًا هوياتيًا، بل نقدًا جذريًا يعيد فتح أسئلة أُغلقت قبل أوانها تحت وهم الحسم المعرفي: ما العدالة؟ ما الشرعية؟ ما الذات؟ ومتى يتحول الإصلاح إلى شكل من أشكال الخضوع؟
تهمة الثقافوية ليست في محلها، لأنها تُقارب مشروع حلاق بأدوات يعيد هو مساءلتها. تراه نقدا محافظًا بينما في جوهره تفكيكي، وتطالبه بخارطة طريق، بينما يطلب إعادة النظر في فكرة الخارطة نفسه. تطلب منه الدخول في السياسة بلغة النظام، بينما سؤاله موجه إلى ما يجعل السياسة ممكنة.
نقد حلاق لا ينبع من ثقافوية مغلقة، بل من رؤية معرفية تطالب بتعدّد الأفق الأخلاقي. لا يريد للفكر الإسلامي أن يكون ظلًا باهتًا للحداثة، بل منظورًا مستقلًا له لغته وتفسيره للعدالة والسلطة والمعنى. ومساهمته تكمن في أنه لا يسعى إلى التوفيق بين التراث والحداثة، بل يطرح السؤال المزعج: هل التوفيق هدف أصلاً؟
بكلمات أخرى، حلاق لا يعرض بديلًا جاهزًا، بل يفتح أفقًا مفاهيميًا جديدًا يعود الفكر الإسلامي إلى إنتاج المعنى من داخله، دون أن طلب ترخيصًا معرفيًا من أحد.
إذا كانت تهمة الثقافوية تُخفق في إدراك الطابع التفكيكي والجذري لمشروع حلاق، فإن ذلك يُعيد توجيه السؤال: ما الذي يمكن أن يقدّمه هذا المشروع للفكر الإسلامي اليوم؟
الجواب لا يكمن في انتظار نموذج بديل، بل في استلهام روح الاجتهاد التي مارسها الجويني وابن تيمية وابن القيم والشاطبي في مواجهة أزماتهم، اتخذوا من التحديات التاريخية فرصة لإعادة بناء أدوات للفهم والابداع أصلية، لا مجرد التكيف مع السائد، دون الانزلاق إلى التبعية أو التقوقع.
حلاق يقف في هذا الامتداد، لا بوصفه استعادة تقليدية، بل كحلقة في مسار طويل من مقاومة الاختزال، وإنتاج المعنى من موقع مستقل.