في عالم ريادة الأعمال، يخوض الجميع سباقاً يسعون فيه إلى النجاح، وواحدة من المعتقدات الرئيسة التي تحرك كثيرين هي ضرورة أن تكون فكرتك هي الأولى من نوعها في السوق؛ ظناً منهم أن المبادر الأول First mover هو الأكثر نجاحاً. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل فعلاً هذا المعتقد صحيح؟
لا خلاف على أن الشركة الأولى من نوعها في أي سوق تستفيد من ذلك بطرق متعددة، في مقدمتها أنها تأخذ زمام قيادة السوق وتوجيهه، وتكتسب ثقة وولاء الجمهور، وبطبيعة الحال ستمتلك الشركة حال نجاحها حصة سوقية كبيرة، وهذه الحصة تتيح لها التحكم في السوق مثل التحكم في عملية التسعير.
وعندما يبدأ المنافسون بالدخول إلى هذا السوق، تستفيد الشركة من المزايا التي امتلكتها سابقاً، ولا يكون من السهل على العملاء تركها والتحول إلى شركات أخرى لعوامل متعددة، بسبب الراحة التي يشعر بها العملاء حالياً وعدم رغبتهم في تغيير الوضع، وكذلك ثقتهم التي تكونت في الشركة نتيجة جهدها في إقناعهم بالفكرة، إضافة إلى تكلفة الانتقال العالية وما يترتب عليها على المستوى المادي والمجهود المطلوب والوقت المستغرق للتحول.
عند الحديث عن المبادرة الأولى من الشركات، فمن المهم فهم أنها مثل كل شيء آخر، مثلما تمنح أصحابها مميزات عديدة، فهي لها عيوب يجب استيعابها جيداً، وهذا مهم للتعامل معها بطريقة صحيحة. التحدي الأول والأكبر الذي يواجه المبادر الأول أنه يتولى مسئولية تعليم السوق، وهذه المسئولية لها تكلفة عالية.
عندما تبدأ شركة فكرة جديدة أو تنطلق في سوق جديد لا توجد به أفكار مماثلة، فإنها تكون مسئولة عن تعريف الجمهور بالمنتج الجديد، وتثقيفهم عنه وعن فوائده وترويجه لهم، والجمهور هنا غالباً لا يملك أي معرفة مسبقة، من ثم ستحتاج الشركة لجهد أكبر لإقناعهم، وستنفق أموالاً أكثر من الوضع المعتاد، ناهيك عن الوقت المستغرق لفعل ذلك وما يعنيه هذا من آثار على الشركة.
من ناحية أخرى، عندما ترتبط الفكرة بتكنولوجيا جديدة، وهذا غالباً صفة الأفكار المبتكرة في العصر الحالي، فإن هناك مشكلة أخرى تواجه الشركة، وهي أن الفكرة غير مجربة، فلا دروس مستفادة سابقة ولا نماذج مشابهة يمكن محاكاتها، وتكون الشركة هي المسئولة تماماً عن تطوير التكنولوجيا، وهذا أيضاً يزيد من تكلفة العملية ووقت تنفيذها.
ودفع تكلفة عالية لنجاح الفكرة هو الجانب المتفائل في المسألة، لكن توجد احتمالية واردة وبشدة بأن تفشل الفكرة كلياً بعد كل هذا المجهود، فتجد الشركة نفسها قد تحملت تكلفة واستثماراً كبيرين دون تحقيق أي عائد من وراء ذلك.
لا تنتهي الأمور عند هذا الحد، بل تخيل أن شركة تخوض هذه الرحلة، تثقف السوق وتعلمه عن الفكرة الجديدة، تخاطر بتجربة التكنولوجيا وتتحمل تبعات ذلك، ثم تأتي الشركات الأخرى لتحصد ثمار هذه الرحلة على الجاهز دون بذل أي مجهود، ولا يتحملون أي خسارة في المقابل.
من أهم الافتراضات عن نجاح المبادر الأول هو إمكانية تزعم السوق دائماً، فإذا كنت تعتقد في هذه الحقيقة، فقد تندهش أن مجموعة من أنجح الشركات في العالم من حولك لم تكن هي الأولى في مجالها، وفي كثير من الأحيان لم تكن حتى الثانية، ورغم ذلك هذه الشركات هي الأنجح الآن، بينما الشركات الأخرى لم تعد موجودة، وفي أفضل أحوالها لم تعد هي الرائدة.
1. «جوجل» في محركات البحث
عندما انطلق محرك بحث «جوجل» في عام 1998، لم يكن محرك البحث الأول، فقد سبقه فعلاً أكثر من محرك مثل «ياهو» (1994) و«ألتا فيستا» (1995). لكن «جوجل» تميزت في هذا السوق وذلك بتركيزها على تجربة المستخدم وتغيير أسلوب البحث كلياً عما كان عليه قبل ظهورها.
بمرور الوقت نجحت «جوجل» في السيطرة على عالم البحث، وأصبحت الخيار الأفضل للمستخدمين، حتى إننا اليوم عندما نطلب من أحد إجراء بحث نقول له: «Google it». وأين «ياهو» و«ألتا فيستا»؟ توقفت عملياتهما تماماً.
2. «فيسبوك» في التواصل الاجتماعي
«فيسبوك» مثل «جوجل»، لم تكن أول شبكة للتواصل الاجتماعي، إذ إن «فيسبوك» التي تأسست في عام 2004، سبقتها عدة شبكات مثل «فريندستر» (2002) و«ماي سبيس» (2003). ركزت «فيسبوك» على تقديم ميزات أقوى لزيادة التفاعل بين المستخدمين، مثل ميزة موجز الأخبار «News Feed» التي تستخدم لتبادل التحديثات بين الأصدقاء في الوقت الحقيقي ما يزيد من جودة التفاعل.
بمرور الوقت، أصبحت «فيسبوك» في مقدمة شبكات التواصل الاجتماعي حول العالم، تبني أو تستحوذ على منتجات أخرى ناجحة وتقود هذا السوق. وبقية الشبكات نادراً ما نسمع عنهما شيئاً حالياً، «فريندستر» توقفت تماماً في 2018 وموقعها الإلكتروني حالياً يظهر أنها ربما تعود قريباً، و«ماي سبيس» حولت تركيزها إلى الموسيقى ومشاركتها بين الجمهور، وهذا حدث بعد أن خسرت الشركتان مكانتهما لـ«فيسبوك».
«جوجل» و«فيسبوك» ليسا استثناءً في عالم الشركات في التغلب على المبادرين الأوائل في السوق، والفكرة ببساطة أن النجاح ليس حكراً على أحد، ما دامت الشركة تتبع منهجية تمكنها من تحقيق النجاح، وهذه المنهجية تتلخص في نقطتين رئيستين:
الأولى: العودة إلى الأصل
من المهم أن نفهم أن ترتيب ظهور الشركة في السوق ليس السبب الرئيس لنجاحها، فهذا في النهاية ضمن عوامل تؤثر على إمكانية نجاحها، إنما السبب الأساسي هو القدرة على تلبية احتياجات الجمهور، فهذا هو الأصل الذي يجب الاهتمام به حقاً.
إذاً لفهم كيف يمكن لشركة جديدة التغلب على شركة رائدة، يمكن ببساطة فعل ذلك عبر تحليل احتياجات الجمهور حالياً، والانطلاق من نقطة مهمة: ما المشكلة في الخدمات الموجودة الآن لدى الجمهور، وما المزايا الأخرى التي يمكن تقديمها لهم لتعجبهم؟ وعندما تجد الشركة هذه الميزة وتستغلها، يفتح لها ذلك باب النجاح.
عندما ظهرت «نتفليكس» لأول مرة، كان جزء مهم لنجاحها هو معالجة المشكلات التي واجهها المستخدمون مع نموذج عمل شركة «بلوك باستر» التي كانت تسيطر على سوق تأجير الأفلام وقتها في أمريكا.
كان التحدي هو القيود التي تفرضها الشركة في عملية التأجير، سواء مدة الاستئجار أو الرسوم الإضافية في حالة التأخير. وهنا حاولت «نتفليكس» معالجة هذه المشكلة، وأخيراً استقرت على نموذج عمل الاشتراكات، وفيه يدفع العميل للشركة مبلغاً ثابتاً شهرياً يتيح له استئجار العدد الذي يريده من الأفلام، دون وجود مواعيد نهائية لإرجاعها أو اضطراره لدفع رسوم على التأخير.
الثانية: الثابت الوحيد هو التغيير
إذا قرأت قصص الشركات الناجحة التي تحول نجاحها إلى فشل، ستجد أن القاسم المشترك بين هذه القصص غالباً هو عدم الاستجابة لتغيرات السوق، إذ افترضت هذه الشركات أن وضعها في السوق آنذاك سيكفيها للنجاح المستمر. لكن الحقيقة الأساسية في عالم الأعمال هي أنه لا ثابت سوى التغيير.
من ثَم، عندما تدرك الشركات الجديدة هذه الحقيقة وتستجيب للسوق برؤية استباقية، فإنها تتمكن من التغلب على الشركات الرائدة. بالطبع هذه الإدراك ليس حكراً على الشركات الجديدة، لكن كما ذكرنا فإن بعض الشركات أحياناً تقاوم التغيير ظناً منها أنها تبقي الأوضاع كما هي وتحافظ على مكانتها، وينتهي بها الأمر إلى الفشل.
إذا عدنا إلى مثال «نتفليكس» سنكتشف كيف أن الشركة حرصت باستمرار على الاستثمار في الابتكار والتحسين المستمر لخدماتها، وهذا دفعها مطلع القرن الحالي إلى الاستجابة لتغيرات السوق، وتحولت الشركة من نموذج التأجير التقليدي إلى منصة رقمية، وحالياً أصبحت لها الريادة في سوق المشاهدة عند الطلب، في الناحية الاخرى تقدمت شركة «بلوك باستر» بطلب لإعلان إفلاسها في 2010.
هل نود من الأمثلة السابقة الخروج بقناعة أن هناك خياراً أفضل من غيره؟ على الإطلاق، بل الهدف الأساسي منها توضيح أنه لا ضمان للنجاح سوى بالعمل المستمر، والتأكيد على أن هناك شركات لم تكن هي المبادر الأول لكنها نجحت، وفي المقابل الإشارة للتحديات التي تواجه المبادر الأول وأن كونه الأول ليس ضامناً لنجاحه ما دام غير قادرٍ على إدارة هذه التحديات.
في النهاية لا نقول إن هناك من هو الأكثر نجاحاً بين النموذجين، لا توجد حالة واحدة ثابتة تنطبق على جميع الأفكار والأسواق، وأسلوب وظروف عمل الشركة هو ما يحدد نجاحها لا الافتراضات أو الآراء الشخصية. المهم هو أن تدرك الشركة المميزات والعيوب في كل مسار.
فإن كنت المبادر الأول في السوق فعليك استغلال ذلك وتقبل التحديات المتوقعة، أما إذا كانت لديك فكرة ما ترغب في تنفيذها داخل سوق به عديد من الشركات بالفعل، فمن المهم تطوير قيمة حقيقية في فكرتك وإيجاد ميزة تنافسية واقعية تمكنك من المنافسة معهم. فسواء قررت أن تأتي مبكراً أو متأخراً؛ المهم أن تفعلها بالطريقة الصحيحة.