ماذا لو أخبرتك أن بإمكان الإنسان أن ينمي ريشاً، ويمتلك أجنحة أو أن بمقدوره أن يكوِّن الخياشيم التي تمتلكها الأسماك؟ انظر إلى أي كائن حي حولك، انظر إلى أي تركيب في جسده أو وظيفة تقوم بها أعضاؤه، وتأكد أن بإمكان جسدك أنت الآخر أن يمتلك مثلها.
كان يمكن أن تولد ولديك جراب أمامي تحتفظ بأطفالك فيه، كالذي لدى الكنغر أو أن ترصد عيونك إبرة فوق سطح مبنى من ستين عشر طابقاً كما يفعل النسر، لماذا لا تحدث مثل هذه الأشياء إلا نادراً؟ لأن جسدك اختار ألا يفعل هذا.
كل تلك التركيبات ووظائف الأعضاء لها جينات خاصة بها في مادتك الوراثية DNA لكنك اخترت ألا تفعلها، بينما قررت كائنات أخرى استخدامها، لماذا اختلف القرار بينكما؟ هذا ما اكتشفه علماؤنا الفائزون بنوبل لهذا العام.
ذهبت جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا لعام 2024 مناصفةً بين العالمين الأمريكيين فيكتور أمبروس وغاري روفكون عن دورهما في اكتشاف «الحمض النووي الريبوزي الميكروي microRNA» ودوره في تنظيم نشاط الجينات، في مرحلة ما بعد النسخ، مما كشف أحد أسرار التنظيم الجيني الموجود داخل الخلية منذ ملايين السنين، وقد يكون السر المرتقب لعلاج معظم الأمراض مستقبلاً.
حين درسنا مادة العلوم للمرة الأولى في حياتنا، علمنا أن الخلية هي وحدة بناء الكائن الحي، إذا أردت أن تنشئ مبنى فيتعين عليك ترتيب عديد من قوالب الطوب إلى جانب بعضها البعض تتجمع القوالب بطريقة معينة، وتتماسك وتتلون لتشكل الغرفة، وتتجمع الغرف مكونة الطابق الأول، فالثاني إلى آخره.
داخل جسم الإنسان تعرف القوالب تلك باسم الخلايا، والخلية هي وحدة بناء الكائن الحي التي تتجمع معاً، مكونة النسيج الذي يمثل الغرفة، وتتحد عدة أنسجة مكونة الأعضاء الموازية للطوابق، وفي النهاية ينتهي المبنى الذي يمثل جسد الإنسان.
داخل كل غرفة في هذا المبنى تجري عمليات معينة، تعتمد على أنواع الخلايا ووظائفها. إن قالب طوب أحمر لن يماثل آخر جيرياً أو ثالثاً زجاجياً، لذا فهناك داخل وحدة البناء تلك شيء آخر، أكثر صغراً، يحمل المعلومات التي تتحكم في تكوينها ووظيفتها والتي سيعرف بها الجزء الذي تمثله من المبنى في النهاية، يعرف هذا الشيء باسم الجينات.
الجينات هي وحدة المعلومات الوراثية، وبمعنى آخر هي حاسوب الخلية التي تختار منها الخلية المعلومات التي تستخدمها لاحقاً أثناء حياتها وبعد موتها، تنتقل نسخة المعلومات المنتقاة إلى الأجيال اللاحقة لتستخدمها هي الأخرى، تظل الغرفة الحمراء في هذا المبنى تقوم بهذه الوظيفة دائماً، كما ستظل المعدة في أي كائن حي تهضم البروتينات دائماً.
إن الحاسوب الموجود في خلايا المعدة لا يملك المعلومات عن هضم البروتينات فحسب، إنه يملك معلومات عن هضم الدهون، ومعلومات عن توصيل السيالات العصبية، ومعلومات عن الإحساس، ومعلومات عن النبض، أي إن الجين الموجود في خلية بالمعدة يملك معلومات وراثية عن وظائف كل خلايا الجسم بشتى أنواعها.
ليس هذا فحسب، إن تلك المعلومات ليست مقصورة على مبنى معين، بمعنى أن خلية في جسد إنسان لديها شتى المعلومات الوراثية الموجودة لدى أي كائن آخر، من ثَم فخلية معدة في جسد إنسان لديها القدرة على إنبات فراء القطط، وإنماء أشواك حيوان القنفذ، لكنها تختار ألا تفعل، لأنه ببساطة هناك عملية معقدة بعض الشيء تملي على كل خلية وظيفتها، لتضمن أن تتماشى أجزاء المبنى في تناغم ونحو الهدف المنشود.
يمثل كل جين معين وظيفة معينة، كلما زاد تطور الكائن الحي امتلك عدداً أكبر من أنواع الجينات، نعم لدى الإنسان الجينات المسببة لتكوين الفراء والريش، لكن سمكة لن تحوي جيناتها معلومات وراثية عن تكون الخلايا المسئولة عن التفكير المنطقي في الفص الجبهي لدى الإنسان، لأنها أقل تطوراً منه، وإذا جئنا لكائن أحادي الخلية فلن تملك مادته الوراثية سوى القليل جداً من الوظائف، ومن ثم فقد تختلف كمية وطول شريط المادة الوراثية من كائن إلى آخر، ناهيك عن كمية المعلومات الوراثية التي لم نكتشف وظيفتها حتى الآن.
تتوزع الجينات على شريط الحمض النووي DNA. جزيء الحمض النووي هو المرجع الذي يحمل المعلومات التي تصف شكل ووظيفة كل جزء فينا، ويتكرر داخل كل خلية.
يتكدس الـDNA على نفسه داخل الخلية في مساحة 0.000005 ملليمتر مكعب، لكنه طويل بما يكفي، إذ يصل شريط الـDNA الواحد إلى طول طول المترين، بينما لو جمعنا كل أشرطة الـDNA الموجودة في كل خلايا جسم إنسان واحد، فيما يعرف باسم الجينوم، وألصقناها معاً، سنحصل على حبل يمكنه الذهاب، والرجوع بين الأرض والشمس 300 مرة.
يتكون الـDNA من أربع قواعد نيتروجينية لو كانت الجينات لغة فهذه القواعد تمثل حروفها. لو أشرنا لكل قاعدة موجودة في الجينوم البشري بحرف واحد من حروف الكتابة، لملأت ثلاثة آلاف كتاب يحتوي كل كتاب على 500 صفحة، ولو وضعت الكتب فوق بعضها سيكون ارتفاعها أعلى من برج إيفل بنحو 13 طابقاً.
في عام 1953 اكتشف فرانسيس كريك وچيمس واطسون شريط الـDNA، واكتشفا معه الجينات وكيف حملت الأكواد التي تعبر عن المعلومات الوراثية وتفسر كل شيء في أجسادنا تقريباً، لقد كان اكتشافهم بمثابة معرفة «سر الحياة».
في عام 1960 اكتشف علماء آخرون «عوامل النسخ (Transcription factors)» التي ترتبط بمناطق معينة تحمل معلومات بعينها في شريط الـDNA لتقوم بنسخها من أجل استخدام تلك المعلومات في عملية إنتاج البروتين.
تمر عملية النسخ بعدة خطوات، ينتج عنها في النهاية جزيء حمض ريبوزي رسول (mRNA)، ويمثل الحمض الريبوزي اللغة العالمية المتعارف عليها لإنتاج البروتينات.
في عصر ما قبل الطابعات كانت الطريقة البدائية لاستنساخ نص ما، هي القيام بنحت النص بحروف بارزة معكوسة كأنه في مرآة ثم غمسه في الحبر ومن ثَم إلصاقه في ورقة بيضاء، الآن أصبح لدينا النص مرتباً.
الطريقة البدائية للطباعة
حدث الأمر نفسه في جزيء الـDNA منذ ملايين السنين. تحمل الجينات الموجودة على شريط الـDNA الشيفرات الخاصة بصنع البروتين المستخدمة لوظائف الخلية.
يلزم نسخ تلك الشيفرات كما هي من أجل ترجمتها إلى بروتين. يقوم ما قبل الحمض الريبوزي الرسولpre mRNA بمحاكاة الشيفرات تلك كأنه في مرآة، تماماً كما كانت تصنع الطابعات الأولى، من ثم نقوم بعكس الـpre mRNA مجدداً فنحصل على جزيء حمض ريبوزي رسول mRNA يحمل صورة مطابقة تماماً للجزء المنسوخ من البداية من جزيء الـDNA.
فكر في الأمر على أن صانع الطابعة الأولى في التاريخ نحت الحروف معدولة منذ البداية، لذا فعملية الطباعة ستجعلها معكوسة، ومن ثم يتوجب علينا عكسها مرة أخرى.
خيل إلينا أن باكتشافنا شريط الـDNA وصلنا إلى لغة عمل الخلايا، وأن بوصولنا إلى عملية النسخ، قد فككنا رموز اللغة تلك، لكن يبدو أن هناك طلاسم في تلك اللغة لم نكن نعلمها بعد.
في أواخر الثمانينيات كان العالمان ڤيكتور أمبروس وجاري روفكون زميلين ما بعد الدكتوراه يعملان في معمل العالم روبرت هورفيتز الذي كان قد أجرى أبحاثاً للتو على دودة الربداء الرشيقة - Caenorhabditis elegans، نال عليها لاحقاً جائزة نوبل عام 2002 مع عالمين آخرين.
درس العالمان نفس الدودة، دودة أسطوانية طولها ملليمتر واحد، ورغم حجمها المتواضع فإنها تمتلك أنواع خلايا عالية التخصص، مثل الخلايا العصبية والخلايا العضلية التي توجد في أنواع كائنات أكثر تعقيداً، مما يجعل من تلك الدودة نموذجاً مصغراً لدراسة تطور ونضج نوعية تلك الأنسجة، باستخدام إمكانيات أقل، ودون الحاجة إلى الولوج داخل أنسجة أكثر تعقيداً قد تصعب من عملية الاستكشاف، فعلى كل حال تسلك الخلية السلوك نفسه في أي مكان.
لقد شغل بال العالمين سؤال مهم، كيف تتحكم الدودة في توقيت نضجها؟ إذا كان المتحكم الرئيسي في عملية نمو وتباين الدودة هو الجينات، فكيف تعمل جينات عند وقت معين، بينما تتوقف عند وقت آخر؟
لقد ظل لغز التوقيت يشكل حيرة كبيرة، حتى اكتشف العلماء ديداناً حدثت بها طفرات عشوائية، أدت إلى تباينات شكلية، ووظيفية مكنتهم من رصد الأثر الحادث. الأمر أشبه بأن لديك تلفازاً به عديد من الأسلاك، وعندما انقطع أحد أسلاكه، توقف الصوت، إنه لحدث سيئ بالتأكيد، لكن على الأقل يخبرك أن هذا السلك مسئول عن مخرج الصوت، وربما السلك الآخر المتبقي مسئول عن الصورة.
تحتوي دودة الربداء الرشيقة على جين يسمى lin-14 يحمل المعلومات الوراثية المسئولة، عن التطور البدائي في الدودة، وانتقالها بين المراحل اليرقية. ينتج عن جين lin-14 بروتين يعرف بالاسم ذاته.
بعد فترة من الزمن يكبح هذا الجين وتقف عمليات تطور الدودة البدائية، بينما تستكمل عمليات نضجها المتقدمة، ولكن كيف يقف عمل هذا الجين إذا كان لا شيء آخر سوى الجينات هو المتحكم في عملية ترجمة المعلومات الوراثية؟
الإجابة ليست خارج الصندوق، الإجابة من قاع الصندوق، المتحكم بكل بساطة هو جين آخر، وهو آخر ما كان يخطر ببال العلماء آنذاك، وربما اكتشاف الأمر كان محض صدفة غير مخطط لها.
في مختبرهم المعتاد، رصد عالمانا ديداناً ربداء رشيقة ذات صفات شكلية غريبة، اتضح أنها مصابة بطفرات مختلفة، والطفرة هي اختلال في عمل الجينات تقوم خلاله الخلية بالتعبير عن جين لا تريده أو توقيف آخر تحتاج إليه.
في بداية تطورها، تكون الربداء الرشيقة البويضات، ثم مع نضجها، تصل الدودة بين البويضات والأعضاء الجنسية الخارجية، لتستقر البويضات خارجاً في الرحم.
رصد العلماء دودة مصابة بطفرة في جين lin-14، كانت أقل تطوراً من أقرانها، وقادت الاستنتاجات أن البروتين الناتج عن هذا الجين مسئول عن النمو البدائي للدودة، في مراحلها اليرقية الأولى.
كشف العالمان دودة أخرى ذات طفرة في جين آخر، جين lin-4، وكانت الدودة أكبر حجماً، ذات عدد أكبر من البويضات، المتكونة في المراحل الأولى للنضج، بينما كان جهازها التناسلي غير مكتمل بعد، يتكون في المراحل الأخيرة، مما يعني أن هذه الدودة اختبرت تزايدات في عمليات نضجها الابتدائية، التي يعد جين lin-14 مسئولاً عنها، أي إن الخلل في جين lin-4 يعطي اليد العليا لجين lin-14 مما يعني أن وظيفة lin-4 تحد من عمل lin-14 وهو ما استحق عنه علماؤنا جائزة نوبل هذا العام كما فعل سابقاً معلمهم على نفس الدودة في نفس المختبر.
اكتشف العلماء أن ترجمة جين lin-4 لا ينتج عنها بروتين ذو وظيفة بنائية للخلية، وإنما الـmRNA الناتج عن ترجمة هذا الجين يرتبط بجزء مخصص معاكس تماماً له -صورة مرآة- في جزيء الـmRNA الناتج عن ترجمة lin-14 مانعاً إياه من تكوين البروتين، وبعد هذا الارتباط لا يعد جزيء الـmRNA صالحاً للترجمة، مما يعني أن lin-4 يوقف عمله، ولأنه لا ينتج عنه بروتين، بل جزيء mRNA صغير الحجم، أطلق العلماء عليه اسم microRNA.
وكانت تلك المرة الأولى التي نكتشف فيها أنه يمكن للجينات تنظيم توقيت ترجمة جينات أخرى، من أجل تنظيم عملية النضج لدى الخلية.
بعد اكتشاف أمبروس، وروفكون لأول جزيء microRNA عام 1993، لم يعر الوسط العلمي الموضوع اهتماماً، لم يكن الجزيء معروفاً في الكائنات الحية، ولم يجد أحد فائدة من اكتشاف آلية التنظيم الجيني لدودة لا يزيد عدد خلاياها على 1000 خلية.
في عام 2000 فجر فريق روفكون قنبلة في الوسط العلمي، حين اكتشفوا جزيء microRNA آخر، جزيء let-7، وهو منتشر في المملكة الحيوانية. بسبب هذا المقال، تتابعت اكتشافات المئات من جزيئات الـmicroRNA المختلفة، حتى تخطى عددها الألف في الإنسان الآن، وصار استخدامها في عملية التنظيم الجيني لا مفر منه.
مع تطور الكائنات الحية، كان لزاماً كبت بعض الجينات على مدار التاريخ، إن دور جزيء الـmicroRNA محوري عبر الأجيال، وموجود منذ عمليات تطور الكائنات الأولى. اكتشف أن الآلية الخلوية المسئولة عن إنتاج جزيئات الـmicroRNA تنتج جزيئات أخرى من الـRNA في النباتات، والحيوانات تحمي النباتات من العدوى الفيروسية، وقد نال باحثون جائزة نوبل عام 2006 عن أبحاثهم حول هذا الموضوع.
تختلف تلك الجزيئات عن الـmicroRNA أنها تحطم جزيئات الـmRNA للفيروس المهاجم لتوقف عمله بخلاف جزيئات الـmicroRNA التي توقف عمل الجزيئات عبر الارتباط بها، وفي كلتا الحالتين نحصل على النتيجة نفسها بمنع تكون البروتين المنشود.
نضع أكبر آمالنا على تطبيقات الـmicroRNA لعلاج السرطان. يمتلك الكائن الحي جينات تعزز السرطان، ويمكن استخدام جزيئات الحمض الريبوزي الميكروي في استهداف تلك الخلايا، وتثبيط وظيفتها. نمتلك داخل أجسادنا أيضاً جينات كابتة للورم، يمكن استخدام الجزيء الريبوزي الميكروي في استعادة وظيفتها لمحاربة السرطان.
يفتح جزيء الحمض الريبوزي الميكروي الباب على مصراعيه لمحاربة الأمراض، ليس فقط السرطان، بس يمكن استخدامه لعلاج نطاق واسع من الأمراض، لا سيما في أجزاء الجسم التي اكتشفوا فيها جزيئات حمض ريبوزي ميكروي مختلفة، مثل أمراض القلب، داء السكري والأمراض المناعية، وغيرها.
من يدري ربما يوماً ما سنعيش لنرى نوبل تمنح لعالم اكتشف آلية يمكن بها استخدام جزيء الحمض الريبوزي الميكروي لعلاج أي مرض، وحتى يجيء هذا اليوم سنظل نأمل وستظل البشرية تحاول.