يُعدُّ الأمريكي نعوم تشومسكي أحد أهم المفكرين المعاصرين في حياتنا؛ فبخلاف عمله الأكاديمي طيلة عقود وأطروحاته الفلسفية في علوم اللسانيات التي أضافت إلى عمق الفهم البشري للعقل وتفاعله مع اللغة، فإنه كذلك لطالما كان له مواقف سياسية قوية وحاسمة، ناصر فيها الضعفاء والمهمشين حول العالم، في زمن انصاعت فيه كثير من الأقلام أمام سطوة رأس المال.
فما الذي نعرفه عن حياة تشومسكي؟ وما أهم أطروحاته الأكاديمية ومواقفه السياسية؟
ولد أفرام نعوم تشومسكي في ديسمبر 1928 بولاية بنسلفانيا في أمريكا لأبوين يهوديين أميركيين من أصول أوروبية، إذ تعود أصول والده إلى أوكرانيا، أما والدته فتعود أصولها إلى بيلاروسيا.
نشأ نعوم برفقة أخيه الأصغر ديفيد في بيئة يهودية تقليدية، حيث تعلم التحدث باللغة العبرية في طفولته، كما تربى على مناقشة نظريات الصهيونية السياسية، ويذكر تشومسكي أن عائلته تأثرت بشكل خاص بكتابات الفيلسوف الصهيوني أحاد هعام الذي يعد مؤسس ما يعرف بالصهيونية الروحية، وخرج من تحت عباءته الكثير من المفكرين الصهاينة.
بدا على تشومسكي أمارات النبوغ مبكرًا جدًا، حيث كتب مقالته الأولى في سن العاشرة، وكانت عن انتشار ظاهرة الفاشية بعد سقوط مدينة برشلونة خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وخلال سنواته اللاحقة أصبح قارئًا نهمًا للأدب السياسي، واستطاع أن يكوّن خلال تلك المرحلة المبكرة جدًا من حياته رؤية نقدية متماسكة ضد كل الأيديولوجيات الشمولية والديكتاتورية من أقصى اليمين حتى أقصى اليسار.
استهل مشواره الأكاديمي عام 1945 بجامعة بنسلفانيا الأميركية، حيث درس الفلسفة واللسانيات، حصل على درجة البكالوريوس عام 1949، قبل أن ينال درجة الماجستير بعدها بعامين، ثم درجة الدكتوراه في اللغويات عام 1955.
عاش تشومسكي في مستوطنة بإسرائيل خلال عام 1953، عقب زواجه بصديقة طفولته التي كانت تعيش في إسرائيل حينها، لكنه لم يستطع البقاء في إسرائيل لفترة طويلة، وحين سُئل عن سبب ذلك، قال: «لم أستطع تحمل الجو الأيديولوجي والحماسة القومية هناك».
ربما تكون تلك التجربة السيئة التي مر بها في إسرائيل خلال شبابه أحد الأسباب التي دفعته لاحقًا إلى تكوين موقف مناهض للاحتلال الإسرائيلي، والذي تطور تدريجيًا بتطور مواقفه السياسية ضد كل أشكال القهر والظلم والحرب على الضعفاء.
صنع تشومسكي إرثًا ضخمًا ورائدًا في فلسفة اللغة أسهم بقوة في فهم طبيعة العقل البشري وعلاقته باللغة وتفاعله معها من خلال إثباته أن تعلم اللغة لا يعتمد فقط على العامل البيئي، بل أن العقل البشري يعتمد أيضًا على بنية فطرية تعمل كآلية تلقائية تساهم في فهم الجمل الجديدة وتوليدها كذلك.
طرح تشومسكي هذه النظرية التي عرفت بالنظرية التوليدية التحويلية في كتابه «البنى التركيبية» (Syntactic Structures) الذي نُشر عام 1957، وهي تعد أهم إسهامات تشومسكي الأكاديمية، ومن بين أهم الأطروحات في فلسفة اللغة على الإطلاق.
تناقش الأطروحة فكرة قدرة البشر الفطرية على اكتساب اللغة، والتي عُرفت بالنحو العالمي، مستدلة بالقدرة التي تُمكّن الأطفال من تعلم أي لغة يتعرضون لها على نحو طبيعي وسريع.
تُقسّم الأطروحة البنى العقلية للغة إلى بنيتين أساسيتين، هما البنية السطحية والبنية العميقة، تشير البنية العميقة للغة إلى التمثيل الأساسي للجمل داخل العقل البشري، حيث تحتوي على المعنى الأساسي والبنية التحويلية للجملة، بينما تشير البنية السطحية إلى الشكل الفعلي للجملة الذي تأخذه عند التعبير عنها بالكلام أو بالكتابة، أما المقصود بالبنية التحويلية هو العملية التي يتم فيها تحول الجملة من البنية العميقة إلى البنية السطحية.
يمكن تبسيط هذه النظرية من خلال شرح مثال بسيط:
البنية العميقة للجملة: الطفل يشرب اللبن.
البنية التحويلية للجملة: يمكن تحويل هذه الجملة إلى صيغة المبني للمجهول.
البنية السطحية للجملة: يُشرب اللبن من قبل الطفل.
أما عن تأثير النظرية، فقد أحدثت النظرية التوليدية التحويلية ثورة في علوم دراسة اللغة، إذ ساهمت في تقديم إطار جديد لفهم كيفية عمل اللغة داخل العقل البشري، كما ساهمت في تحليل لغات متعددة واستخراج البنى المشتركة بينها، وهو ما عزز الفكرة القائلة بوجود ما يعرف بقواعد نحوية عالمية، كما كان لها تأثير كبير على مجالات متعددة منها علم النفس المعرفي وعلم اللغة العصبي.
بخلاف الأطروحات الفلسفية الرصينة، كان لتشومسكي أيضّا إسهاماته في نقد الواقع السياسي المعاصر، والأدوات التي يعتمد عليها، وكان في مقدمتها الإعلام، حيث قدم تشومسكي نقدًا عنيفًا لدور وسائل الإعلام في الديمقراطيات الغربية وعملها على تزييف الحقائق ودعم الأكاذيب.
نشر تشومسكي نقده للإعلام في كتابه الصادر عام 1988 تحت عنوان «صناعة الموافقة: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام» (Manufacturing consent: the political economy of the mass media)، والذي اشترك في كتابته مع الاقتصادي الأميركي إدوارد هيرمان.
تضمن الكتاب فكرة أساسية تدور حول عمل وسائل الإعلام في الديمقراطيات الغربية كآليات دعائية تستخدم لدعم مصالح النخب السياسية والاقتصادية.
ارتكزت الأطروحة على العلاقات الاقتصادية التي تتحكم في توجهات وسائل الإعلام، حيث ناقش الكتاب حقيقة ملكية وسائل الإعلام الكبرى لشركات تهدف للربح في المقام الأول بغض النظر عن الدور السياسي الذي تقوم به، وهما ما يدفعها لتجنب مناقشة الموضوعات والأخبار التي قد تضرها. كما تطرق الكتاب لدور التمويل في صناعة الأخبار، حيث تعتمد وسائل الإعلام على الإعلانات كمصدر رئيسي للتمويل، ذلك ما يؤدي بها في أحيانٍ كثيرة لتجنب المحتوى الذي قد يزعج المعلنين الكبار.
لا يكتفي تشومسكي بتفكيك الاقتصاد السياسي للإعلام الغربي وفضح علاقاته فقط، بل يذهب إلى الدور التضليلي لوسائل الإعلام، حيث يؤكد تشومسكي المثير للجدل في كتابه أن وسائل الإعلام تُستخدم من قبل النخب السياسية من أجل توجيه الرأي العام، من خلال ثنائية التركيز والإغفال.
إذ تركز وسائل الإعلام على دعم رواية بعينها، التي غالبًا ما تكون الرواية الرسمية للسلطة، من خلال التكرار الكثيف لكل المبررات التي تدعم تلك الرواية، بالتوازي مع إغفال أي تصورات معارضة، وهو ما يؤدي إلى بناء رأي عام مشوه عن قضايا المجتمع، ولا سيما الهامة والحساسة منها.
الجدير بالذكر هنا أن ذلك النقد الذي يعد بديهيًا في تلك اللحظة بعد ما شهد العالم أجمع الأداء المخزي لوسائل الإعلام الغربية أثناء تغطية حرب الإبادة الجماعية التي تقودها إسرائيل في غزة، كان في وقت نشره يعد ثوريًا بلا ريب، إذ لم يكن هناك خبرة مجتمعية كافية خاصة بالدور التضليلي لوسائل الإعلام في الديمقراطيات الغربية، حيث كان يرتبط هذا الدور دومًا في ذهنية المواطن الغربي بالاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية وما يعرف بدول العالم الثالث.
تلك الحاسة النقدية الاستثنائية كان لها انعكاس واضح على مواقف تشومسكي السياسية التي كانت دومًا نقيض للمواقف الرسمية للقوى الغربية، حيث كان من أوائل المثقفين الأميركيين الذين عارضوا حرب فيتنام بشكل علني، معتبرًا أنها لم تكن بدافع تأسيس نظام ديمقراطي في فيتنام، بل للدفاع عن المصالح الجيوسياسية لأمريكا في المنطقة من خلال محاربة الشيوعية، وهو ما أدى في النهاية لتدمير فيتنام وقتل عدد هائل من المدنيين.
كما واصل خطه النقدي المعادي للإمبريالية الغربية في أوائل الألفية الجديدة، حيث انتقد بعنف الحرب على العراق مفندًا الأكاذيب التي استندت عليها الرواية الرسمية الأمريكية، إذ جادل بأن النظام الأمريكي كذب بشأن امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، كما كذب أيضًا بادعاء أن النظام العراقي له علاقة بتنظيم القاعدة.
موضحًا أن الدوافع الأساسية لغزو العراق كانت توسيع رقعة الهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط، والسيطرة على مصادر الطاقة العالمية، بالإضافة لتعزيز مصالح الشركات الكبرى في قطاعات النفط والدفاع.
أما موقفه الأكثر جرأة فيعود بالطبع إلى القضية الفلسطينية، التي تعد الامتحان الذي رسب فيه معظم المفكرين الغربيين المعاصرين، حيث لم تمنعه أصوله اليهودية بل وإقامته في إسرائيل لفترة وجيزة من توجيه نقد لاذع للاحتلال الإسرائيلي واعتبار سياساته ضد الشعب الفلسطيني سياسات عنصرية تهدف لقتل أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولم تنجُ الولايات المتحدة من قلم تشومسكي البتار، إذ شملها بالنقد بسبب دعمها غير المشروط للاحتلال الإسرائيلي.
ذلك النقد الذي لم يخرج عن إطار فهمه العميق للمنظومة النيوليبرالية التي تحكم العالم من بعد الحرب العالمية الثانية، التي سال مداد قلمه كثيرًا في نقدها وفضح سياساتها الهادفة لتركيز الثروة في يد قلة قليلة وحرمان السواد الأعظم من البشر.
حيث لخص مأساة الشعب الفلسطيني في جملة مقتضبة يمكن أن تكون مدخلًا مناسبًا لفهم طبيعة الصراع، ليس الفلسطيني فقط، بل العالمي كله:
جزء من مأساة الفلسطينيين هو أنهم لا يحظون بأي دعم دولي، لسبب وجيه، إنهم ليس لديهم ثروة ولا سلطة، لذا ليس لديهم حقوق، هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم.
الآن، وفي ظل تهافت صفوة المفكرين الغربيين الذين يتصدرون الساحة الثقافية بعد مواقفهم الحقيرة مما يحدث في غزة، بداية من اليميني الصهيوني جوردان بيترسون، مرورًا بالألماني المخضرم يورجن هابرماس الذي وقع على عريضة تدعم ما أسماه بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها أثناء قيامها بإبادة جماعية للمدنيين، وصولُا إلى اليساري سلافوي جيجك الذي يلقب بأخطر فيلسوف في أوروبا، وهو من لم يستطع التمييز بين سلطة احتلال مدعومة من أقوى جيش في العالم، وحركة مقاومة شعبية.
في ظل ذلك المشهد الثقافي المتردي عالميًا، يصبح صوت نعوم تشومسكي ذا أهمية لا حدود لها، حتى وإن عجز صوته الحقيقي عن الخروج بعد أن ألمّ به داء في الأيام الأخيرة منعه من الكلام وهو في عامه الخامس والتسعين، لكن سيظل نبض الحق في قلمه ومواقفه نبراسًا يضيء للعالم الحر، وستعيش كلماته أكثر مما سيعيش صوته، كما عاشت ملايين الكلمات الحرة وخلدها ضمير الإنسانية.