مجتمع

نظام الملالي: إيران بين رايات الإصلاحيين والمحافظين

تشير القراءة التاريخية لوضع وتقسيم التيارات السياسية في إيران إلى أنها مسألة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه في الخارج.

future من الشمال: المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، على خامنئي، والرئيس السابع لإيران حسن روحاني، والرئيس السابق إبراهيم رئيسي

تتكون إيران من مزيج متنوع من المجموعات البشرية التي لا يجمع بينها عرق ولا لغة ولا مذهب، وتتنوع على إثر ذلك التيارات والأفكار المنتشرة بين السكان، إلا أن الحكم المركزي دائماً ما يرى في هذا التنوع خطراً وتحدياً ويحاول دمج الجميع وصهرهم في بوتقة المركز.

تعد اللغة والعرق الفارسيين والمذهب الشيعي الاثنا عشري المقومات الرئيسية التي تمثل النواة الصلبة للدولة الإيرانية الحديثة، وما سواها على الهامش، وذلك مع وجود تفاوت كبير في التهميش، ربما يبلغ أقصاه في حالة القومية البلوشية، ويكون أقل ما يمكن في حالة الأذريين الشيعة.

منذ عام 1979 تأسست الجمهورية الدينية بزعامة روح الله الخميني، بناء على نظرية ولاية الفقيه التي تعني تحكم أحد فقهاء الاثنى عشرية في مقاليد الحكم كنائب عن محمد بن الحسن العسكري الإمام الاثنى عشر الذي لا يعترف المؤرخون السنة بوجوده من الأساس؛ إذ يعتقد الشيعة أنه اختفى في سرداب بمدينة سامراء العراقية في العصر العباسي، وينتظرون خروجه في آخر الزمان.

فور وصوله إلى السلطة، فتك الخميني بمعارضي نظريته التي يستمد منها شرعية حكمه، حتى ولو كانوا من كبار أئمة المذهب، مثل: محمد كاظم شريعتمداري الحائز على لقب آية الله العظمى الذي أنقذ الخميني من الإعدام في عصر الشاه محمد رضا بهلوي، ففُرضت على شريعتمداري الإقامة الإجبارية تحت حراسة مشددة، وصودرت مدرسته، ومنع تقليده دينياً، بل منع من العلاج المناسب في أواخر عمره، وأجبر على الظهور في التلفزيون الرسمي ليعلن توبته، كالمجرمين، قائلاً: «أطلب مِن سماحة آية الله العظمى الخميني -دامت بركاته- أن يعفو عني، بعد ملاحظة أعذاري».

وهكذا طغى نفوذ الخميني خلال العقد الأول من عمر الجمهورية حتى وفاته عام 1989، وهو العام الذي شهد مجازر مروعة ضد المعارضين، وإقصاء نائب المرشد حسين منتظري بعد معارضته تلك الانتهاكات.

جدل الإصلاحيين والمحافظين

يمكن بكثير من التبسيط تقسيم معارضي النظام الإيراني إلى فريقين: الأول يطالب بإسقاطه ولا يعترف بشرعية نظرية ولاية الفقيه، والثاني يعارض النظام من الداخل، ويطالب بإجراء تغييرات يرى أنها لا تمس جوهر النظام، وهم الإصلاحيون، فهم جزء من النظام في المجمل وليسوا أعداء له.

وبينما يمثل المحافظون الدولة العميقة في إيران بزعامة المرشد الأعلى، ويمثل الحرس الثوري الذراع العسكرية لهذا التيار العقائدي، يتبنى الإصلاحيون مطالب تتعلق بالتخفف من العبء الأيديولوجي لمصلحة الاعتبارات العملية.

فمثلًا يرفض الإصلاحيون التشدد في إلزام السيدات بارتداء الحجاب، ويطالبون بمزيد من الحريات، ويؤيدون تقييد صلاحيات المرشد الأعلى، ولا يتبنون الخطاب المهاجم للولايات المتحدة، بل يرون ضرورة الانفتاح على الغرب، وبصفة عامة يميلون لمنطق الدولة أكثر من الثورة على عكس المحافظين.

وبين هؤلاء وهؤلاء طيف كبير من التصنيفات والتنوع؛ فهناك رموز من التيار المحافظ مغرقون في التشدد، وآخرون يقفون على أقرب مسافة من الإصلاحيين أو انتقلوا إلى معسكرهم مثل علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق الذي صدر قرار بعدم أهليته للترشح للرئاسة في الانتخابات الأخيرة (2024). وهناك متشددون يتسم سلوكهم بالبراجماتية مثل محمد باقر قاليباف رئيس البرلمان الحالي الذي قدم طرحاً وسطاً خلال ترشحه للانتخابات الرئاسية 2024، أيد فيه المفاوضات النووية مع الأمريكيين ولكن بتحفظ وتمهل.

يُتهم الإصلاحيون بافتقادهم رؤية واضحة للتغيير؛ وأنهم لا يمتلكون فلسفة فكرية وسياسية مغايرة لفكر النظام، فأفكارهم لا تمثل منهجًا مستقلًا وإنما خطط وآليات تنفيذ مختلفة عن المحافظين.

نجح الإصلاحيون في الوصول إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية دون أن يكون لذلك أثر واضح في الإصلاح المنشود، بل أتت حكوماتهم وبرلماناتهم وذهبت دون أن تثبت فعاليتها، لذلك فقد التيار كثيراً من مصداقيته بمرور الوقت.

حكم الثنائي خامنئي ورفسنجاني

عندما توفي الخميني عام 1989 أسهم علي أكبر هاشمي رفسنجاني، بوصفه رئيسا@ للبرلمان وعضو مجلس خبراء القيادة، في انتخاب علي خامنئي مرشداً أعلى خلفاً للخميني، منحياً نظرية ولاية الفقهاء جانباً، وهي نظرية تعني مشاركة عدد من الفقهاء في حكم جماعي للدولة، لكنه ضغط حتى اُختير خامنئي وحده في المنصب، رغم افتقاده المؤهلات العلمية. وغيّر رفسنجاني الدستور ليناسب مقاس المرشد الجديد، وتولى هو رئاسة الجمهورية.

عُرف رفسنجاني ببراجماتيته وميله للانفتاح على الغرب وخلال الحرب العراقية الإيرانية، كان القائد الأعلى للقوات المسلحة بالوكالة، ويشتهر عنه أنه هو الذي أقنع الخميني، بقبول وقف إطلاق النار في الثامن من  أغسطس 1988، لتتوقف حرب الثماني سنوات، وشارك في الاتصالات السرية مع الولايات المتحدة لشراء أسلحة من إسرائيل في الثمانينيات في ما عرف بفضيحة إيران جيت.

وخلال رئاسته حاول تحجيم نفوذ المتشددين؛ حيث قيد نشاط دوريات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعمل على إغلاق مكتب حركات التحرر التابع للحرس الثوري، الذي كان يدير شبكة من التنظيمات السرية في عدد من الدول العربية، مما أثار غضب المحافظين.

وبعد انتهاء ولايتيه الرئاسيتين عام 1997، أيد الإصلاحيين بقوة، وتعرض لهجمات الدولة العميقة وسُجن ابنه وابنته بتهم مختلفة، وهوجم في الإعلام كثيرًا، وفي عام 2013 ترشح للرئاسة، لكن مجلس صيانة الدستور المقرب من المرشد، رفض أوراقه واعتبره غير مؤهل للمنصب، فأعلن رفسنجاني أن رئيس المخابرات السابق حيدر مصلحي، وقف وراء استبعاده، واعترف الأخير بذلك لاحقاً، وبرر ذلك بالخوف من فوزه المتوقع، وأن استبعاده جاء للحفاظ على النظام.

دعم رفسنجاني ترشح الإصلاحي حسن روحاني في انتخابات 2014، وكان مؤيداً قوياً للاتفاق النووي عام 2015، وفي عام 2017 أعلن عن وفاته، واتهم البعض النظام باغتياله سراً.

محمد خاتمي

شهد عام 1997 صعوداً مفاجئاً للمرشح الرئاسي محمد خاتمي، وعقب انتخابه خفف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون العقوبات على إيران، وتقاربت الدولتان جداً وبدأتا في تخفيف التوترات بينهما وتسوية الخلافات، وتعاونت طهران مع الجيش الأمريكي في إسقاط نظامي طالبان الأفغاني والبعث العراقي، وتقاربت مع الدول العربية، إلا أن التوترات ما لبثت أن عادت من جديد على خلفية التدخلات الإيرانية في المنطقة.

وفي 1999 اندلعت تظاهرات الطلاب في جامعة طهران للمطالبة بمزيد من الحريات، ووجد خاتمي نفسه مجبراً على إدانتها والتبرؤ منها، وقُمعت بعنف، ولم ينجح خاتمي حتى نهاية ولايته الثانية عام 2005 في إقرار التغيير الذي ينشده.

أحمدي نجاد

استطاع عمدة طهران المتشدد والأستاذ بكلية الهندسة سابقًا أحمدي نجاد اختراق قواعد التيار المحافظ، وأتى من خارج رموز نخبته التقليدية، لذا وصف بأنه يمثل صعود المحافظين الجدد أو التيار النجادي، لأنه شق لنفسه طريقاً وسط المتدينين البسطاء، وتم تشبيهه بـكاوه، الشخصية الأسطورية الفارسية، لأن والده كان حداداً مثل كاوه الذي يعد رمزاً لثورة البسطاء ضد التجبر والظلم.

فاز نجاد في الجولة الثانية في انتخابات 2005، وفي عهده تم استحداث شرطة الأخلاق المثيرة للجدل، وهي وحدة أمنية مهمتها إلزام السيدات بارتداء الحجاب، وحظي بدعم المرشد الأعلى طوال ولايته الأولى.

في 2009 فاز في مواجهة مير حسين موسوي المدعوم من رفسنجاني، وكانت تلك الانتخابات فاجعة بمعنى الكلمة؛ إذ اتُهم النظام بتزوير الانتخابات لصالح نجاد وتظاهر مؤيدو موسوي رافعين شعار حملته الانتخابية الأخضر، فقمعهم الحرس الثوري بعنف وقتل واعتقل كثيرين، ومن وقتها يعيش موسوي تحت الإقامة الجبرية، هو وزميله المرشح الإصلاحي الخاسر الذي تضامن معه مهدي كروبي، ويطلقان من حين لآخر تصريحات معارضة لسياسة المرشد ونجله مجتبى صاحب النفوذ الكبير.

تجدر الإشارة إلى أن كلا الرجلين من رموز النظام؛ فموسوي تولى رئاسة الوزراء طيلة عهد رئاسة خامنئي منذ 1981 وحتى 1989 عندما نُصِب الأخير مرشداً أعلى، وترأس كروبي البرلمان مرتين (1989-1992) و(2000-2004)، لكنهما تزعما الحركة الخضراء المُعارضة منذ 2009.

تحول أحمدي نجاد إلى صفوف المعارضة بعد انتهاء ولايته الثانية عام 2013، ووجه انتقادات حادة للمرشد وتياره وقادة الحرس الثوري، ورغم بقائه في المعسكر المتشدد فإنه اتخذ وضعية المعارض الشرس خلال السنوات الماضية، وقدم أوراقه مؤخراً في انتخابات رئاسة الجمهورية 2024، فأصدر مجلس صيانة الدستور قراراً بعدم أهليته للترشح، وهو قرار كان متوقعاً نظراً لمواقفه السلبية من المرشد.

حسن روحاني

مع وصول الأستاذ الجامعي الإصلاحي حسن روحاني للحكم عام 2013، انتعشت الآمال في التغيير، وبالفعل شرع فوراً في دعم المفاوضات النووية وتكللت جهود وزير خارجيته محمد جواد ظريف بالنجاح عام 2015، ورفعت كل العقوبات الأممية دفعة واحدة، وتدفقت الاستثمارات الغربية على إيران، وتحررت عشرات المليارات من الأموال المحتجزة في الخارج منذ نهاية العهد الملكي.

لكن بحلول نهاية فترتي حكمه عام 2021، اتضح أن أداءه كان مخيباً لآمال الجمهور الإصلاحي بشكل هائل، مما جعل التيار يخسر شعبيته وتضاءل نفوذه ووجوده في السلطة، فالعقوبات عادت بعد تراجع واشنطن عن الاتفاق، والتدخلات العسكرية للحرس الثوري في سوريا والعراق واليمن بلغت ذروتها، واستنزفت خزينة الدولة، وروحاني لا حول له ولا قوة.

اشتعلت الاحتجاجات ضد روحاني والمرشد معاً عقب قرار رفع سعر البنزين في 2019، ووقعت مجازر دموية خلال قمع التظاهرات، راح ضحيتها الآلاف بين قتيل وجريح ومعتقل، ولم ينته عهد روحاني حتى فقد شعبيته وخرج مُحمَّلاً بأوزار النظام.

إبراهيم رئيسي

كان وصول الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي إلى السلطة في صيف 2021، إيذاناً بمرحلة جديدة لا دور فيها تقريباً للإصلاحيين؛ إذ تم إقصاؤهم في 2020 من البرلمان، وانزوى رموزهم في الظل محملين بتهم الخيانة والانقياد للغرب ومسئولية فشل الاتفاق النووي وانهيار الاقتصاد.

خلال عهد رئيسي صعد نفوذ الحرس الثوري والمتشددين في كل القطاعات، بالتزامن مع ازدياد النقمة الشعبية على النظام، واشتعال مظاهرات واحتجاجات دامية امتدت لأشهر طويلة تطالب بإسقاط النظام، وذلك بعد مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني، بسبب عدم ارتداء الحجاب بشكل صحيح، وكان رد فعل النظام انتهاج سياسة أكثر تشدداً في ظل إحساسه بالخطر، وتكثيف ممارسات القمع بالمعارضين.

لم يأت رئيسي ليكون رئيساً للجمهورية فقط، بل أتى ضمن ترتيبات لخلافة المرشد الأعلى الذي بلغ من الكبر عتياً، 82 عاماً آنذاك؛ إذ كان هناك اتجاه لاختيار رئيسي الذي يعد عمامة سوداء كإشارة لانتمائه لسلالة آل البيت النبوي، ليكون المرشد الثالث، بعد وفاة خامنئي. لكن ما حدث هو أن رئيسي توفي في حادث طائرة في مايو 2024، قبل أن يكمل مدته الرئاسية الأولى.

مسعود بزشكيان

رأى المرشد الأعلى في وفاة رئيسي وقدوم رئيس جديد فرصة للاستعانة بالإصلاحيين لتجديد الثقة بالنظام، وفتح بارقة أمل أمام الشعب، وتم السماح للنائب الإصلاحي مسعود بزشكيان، بالترشح والفوز بالرئاسة، وكان لافتاً تصويت المرشد له أمام الكاميرات ليتماشى مع الموجة الشعبية الهادرة التي تنشد التغيير.

لم يُسمح لأي إصلاحي بالترشح سوى بزشكيان، وهو ليس من كبار قادة التيار ولا يحظى بشعبية كبيرة، لكن رموز الإصلاحيين وقفوا بجواره ودعموه، وانتخبه كثيرون رغبةً في تخفيف قبضة المتشددين، بخاصة أنه جهر مراراً برفض سلوك شرطة الأخلاق وضرورة تخفيف الاحتقان بين الأعراق، وهو أصلاً ينتمي لأب آذري وأم كردية.

كرر بزشكيان أمام وسائل الإعلام طاعته للمرشد وتبعيته له، ووصف نفسه بأنه محافظ، وتعهد بأنه لن يخرج عن الخطوط العامة التي يرسمها خامنئي، وفعلياً لا يستطيع هو ولا غيره اجتياز هذه الخطوط سواء تعهد بذلك أم لا.

خلافات النخبة وتيارات المعارضة

تظل الخلافات بين الإصلاحيين والمحافظين من مشاغل النخبة، بينما تعد التيارات والحركات التي تمثل الانتماءات العرقية والمذهبية أكثر اتصالاً بقضايا الناس وتعبيراً عن مشاكلهم، لكنها ليس لها نصيب من السلطة أو الاهتمام الإعلامي، رغم أن مجموع الأقليات كالآذريين والأكراد والعرب والبلوش والتركمان، قد يزيد على نسبة المكون الفارسي الشيعي المهيمن على الدولة.

حتى هذا المكون الرئيسي توجد به تيارات صغيرة شتى لا تفصح عن نفسها لدواعٍ أمنية، لا يوجد لها وجود ظاهر ومؤثر، كالتيار الموالي للعهد الملكي بزعامة رضا بهلوي ولي عهد الشاه الأخير، الذي له نشاط كبير في الولايات المتحدة وأوروبا. كذلك نجد التيار القومي الفارسي المتعصب والكاره للعرب، الذي يرى أنهم يغتصبون حكم إيران على اعتبار أن ذوي العمائم السوداء ينتمون إلى آل البيت من قريش وهي قبيلة عربية. كما يوجد مجاهدي خلق وهي حركة متهمة بتنظيم هجمات مسلحة عنيفة ضد رموز النظام.

وإجمالًا تنقسم الحركات العرقية بحسب مواقفها من الدين والآراء السياسية التي تتبناها؛ فهناك الحركات الانفصالية المسلحة كمنظمة جيش العدل التي تشن هجمات عسكرية على الحرس الثوري جنوب شرقي البلاد، وهناك التيارات القومية التي تطالب بنيل بعض الاستقلالية من خلال الحكم الذاتي أو حتى الاكتفاء بوقف التمييز والاضطهاد العنصري الممنهج.

إجمالاً، تشير القراءة التاريخية لوضع وتقسيم التيارات السياسية في إيران إلى أنها مسألة أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه في الخارج، لا يمكن اختزالها فقط في التيارين المحافظ والإصلاحي. ولكن في الوقت نفسه لا يمكن فهم تلك التيارات إلا من خلال دراسة الفكر السياسي الإيراني وتطور نظام الملالي منذ عام 1979.

# إيران

تكاليف باهظة: هل يتحمل اقتصاد إيران الحرب مع إسرائيل؟
الهجوم الصاروخي على إسرائيل: إيران دولة برجماتية
حينما تفرض المدينة مصائر مأساوية

مجتمع