فن

مورجان فريمان: أن تكون منظوراً بعين فنك

استعراض لمسيرة مورجان فريمان الحافلة، الرجل الذي لا زال في محاوراته وهو في الـ86 من عمره يجلس باحثاً في انتشاء طفولي عن انعكاس موهبته في عيون من يرونه

future الممثل الأمريكي مورجان فريمان

طفل يتقن التمثيل … والأمل!

«وأنا طفل أردت إثارة انتباه من حولي، صرخت: انظروا لما أفعله!
قمت بالتمثيل … وكانوا ينظرون.
الآن وقد قاربت الثمانين ما زلت ذلك الطفل، أقول في كل فيلم ببهجة طفولية: انظروا لما أفعله! وما زال الناس ينظرون».

— مورجان فريمان

أول مرة رأيت في حياتي مورجان فريمان كان يجسد ريد في فيلم Shawshank Redemption، يسير مثل أمير مختال قائلاً: «كل سجن في أمريكا يمتلك مخادعاً مثلي، رجلاً يمكن أن يأتي لك بما تريده، مهما كان صعباً».

يمتلك ريد في الفيلم قدرة استثنائية على استجلاب أي شيء من العالم الخارجي للزنزانة؛ سجائر، براندي، كتب، يمتلك وصالاً مع كل ممكنات الخارج، إلا شيئاً واحداً لا يستطيع جلبه أبداً، الأمل!

مشهد من فيلم «Shawshank Redemption»

يحذر ريد زميله أندي من الأمل في الحرية أو الهروب من السجن، الأمل يمكن أن يقتله لأنه لن يتحقق أبداً.

في طفولته كان فريمان موهوباً، يجيد منذ سن الثامنة التمثيل أمام عائلته وأمام متفرجين لا يعرفهم على خشبة المسرح المدرسي.

كان فريمان الطفل يشبه كثيراً شخصية ريد التي سيمثلها بعد عقود، يجيد ريد استدعاء أي شيء لزبائنه، ويجيد فريمان استدعاء أي شخصية وتقليدها لمتفرجيه، كان الفارق التراجيدي أن ريد يدرك بحكمة جدران سجنه، أما الطفل فلم يدرك بعد ما هو سجنه؟

يقول فريمان مستعيداً طفولته إنه دائماً ما كان يشاهد الأفلام معلقاً ببراءة: «أنا لا أرى نفسي»!

ما عناه الطفل وقتها أنه لا يجد رجالاً سود البشرة في أي فيلم، وحتى لو حضروا فلا يسكنون الأدوار البطولية التي يمثلها لعائلته، إنما يظهرون كخدم ومهرجين.

أيقن فريمان وقتها لماذا كانت نظرة العيون المنبهرة بأدائه مقرونة دوماً بأسى؟ لأنهم رأوه موهبة خلابة لن تجد مساحة للتجلي أبداً.

كان فريمان يشبه ريد، موهبة إنسانية مهدرة في سجنها، لكنه كان يخالفه في شيء واحد، الأمل.

تعلق فريمان بالممثل الأمريكي سيدني بواتييه الذي حطم قوانين الشاشة كأول أسود يظهر في أدوار البطولة في مرحلة حجَّمت فيها هوليوود ظهور السود وفق قوالب بعينها، كان بواتييه استثناءً نادراً لتلك القواعد، لم يصدق أقران فريمان أن الاستثناء يمكن أن يصير قاعدة يوماً هو بطلها.

بطولة لا تخلدها الكاميرا

«يسألونني ماذا ستعمل لو لم تكن ممثلاً؟ حسناً سأكون ممثلاً بطريقة أو بأخرى، سأمثل وأنا أجز العشب، وأنا أقود السيارة لأحدهم، سأجد طريقة لأنني لو لم أمثل … سأموت».

— مورجان فريمان

بعد الثانوية سيختار فريمان وصال البطولة من طريق مختلف يناسب لون بشرته عبر الالتحاق بالجيش، كان الجيش التذكرة الذهبية لأي فتى جنوبي أسود مثله للخروج من ولاية المسيسبي لأمريكا الحقيقية.

بعد سنوات في الجيش سيدرك فريمان أن التمثيل ما زال لعنته التي تحرك حياته من خلف الستار.

يقول فريمان إنه التحق بالقوات الجوية بسبب حبه للأفلام الهوليوودية بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الأمريكي فيها مقاتلاً سينمائياً قادماً لتحرير بلاد بعيدة على متن طائرته، لكنه لم يجد هذا البطل السينمائي في الجيش، إنما وجد حياة عسكرية خانقة بسلطتها العنصرية، ما زال يقيم فيها وفق لون بشرته لا قدراته.

ذات يوم كان فريمان البالغ من العمر 21 عاماً جالساً في محاكٍ لتجربة قيادة طائرة T-33 المقاتلة بقاعدة نورث أيلاند، رأى نفسه يشبه أبطال السينما في كل شيء، أمسك عصا التحكم ونظر إلى الأفق متمثلاً أبطاله السينمائيين … مشهد مثالي لكنه يفتقد لشيء واحد، لم يكن منظوراً بعين خارجه، لم توجد كاميرا أو متفرج ليقول له ببهجة طفولية: «انظر لي»!

غادر فريمان المحاكي ومعه الجيش للأبد، وقرر أنه ما دام خاضعاً لقوانين زمنه التي تختزله دوماً في لون بشرته، سواء كان ممثلاً أو طياراً، فليطارد ما يحبه إذن.

النجومية في الخمسين

«لاري كينج: سيد فريمان أنت لعبت دور الرب، الرئيس، السجين، السائق، ما خدعتك؟

مورجان فريمان: الخدعة في فهم تلك العين التي تنظر لك».

يتذكر فريمان مقابلته في مكتب التوظيف عندما اختارت له السيدة ليبتون وظيفة كاتب إداري، عندها فوجئت بشاب أسود يخبرها بعصبية أنها ارتكبت خطأً، إنه ممثل.

اختار فريمان موظفة بسيطة ليلقي عليها غضبه بدلاً من مجتمعه وقوانينه، لكنه فوجئ بها تختم ورقته وتكتب فيها مهنة التمثيل ثم تخبره: «لديك ستة شهور لإثبات أنني مخطئة».

سيحتاج فريمان لما هو أكثر من ستة شهور، سينال ترشيحه الأوسكاري الأول وهو يقارب الخمسين، سيشاهد أقرانه ينالون أدواراً يتمناها، بينما هو يسلم الزبائن القهوة والدونات في محل رخيص.

مشهد من فيلم Attica 1980

يقول فريمان إن جزءاً من لعنته يكمن في إدراكه المرهف منذ أن كان طفلاً أو مراهقاً للعين التي تنظر له، العين التي لم يرَها في طائرته العسكرية فغادرها للأبد. يتوق فريمان إلى عين ترى موهبته كاملة، لا ترى القالب الذي صُب فيه بسبب لون بشرته. يفهم فريمان تلك العين العنصرية ويرفض أن يكون منظوراً بها.

يتذكر حضوره تجربة أداء لفيلم The Thing، عندها سأله صناع العمل عن رأيه في النص، أخبرهم بجرأة: «لديكم فيلم يتحدث عن 11 شخصاً في رحلة للقطب الجنوبي، ثمانية علماء بيض يجاورهم ميكانيكي وطباخ وعامل كلهم سود البشرة، ماذا تظن رأيي؟»

لم ينل فريمان دوراً في الفيلم وفي أفلام كثيرة في  الثمانينيات بسبب صراحته المخيفة، يعتز فريمان بحقيقته كرجل جنوبي من نسل العبيد، يوقن أن كل عبد يحمل بداخله جوهراً يوافق على العبودية مهما كانت صعوبة زمنه؛ لذلك قرر أنه لن يشارك في فيلم يحط من حقيقته أبداً لكيلا ينمو بداخله هذا الجوهر.

مشهد من فيلم Street Smart

عندما قدم فريمان دور قواد أسود البشرة في فيلم Street Smart أخبر المنتجين أن الرجل الأسود أنيق، ولو امتلك مالاً كافياً فلن يرتدي أسمالاً بالية، تلك القاعدة جعلته الوحيد الذي يرتدي أزياءً من ماركة أرماني، أزياءً لم يرتدِها أبطال الفيلم أنفسهم، فشل الفيلم نقدياً لكنه منحه ترشيحه الأوسكاري الأول وأعلن ميلاده كنجم يقارب الخمسين.

في كل لقاءاته يخبره محاوروه أنه يصعب تخيله في دور شرير أبداً، يتذكر فريمان فترة انهالت فيها عليه أدوار الشر والقوادة بعد Street Smart، لكنه رفضها جميعاً خوفاً من أن يؤسس بموهبته قالباً مهيناً للرجل الأسود.

نجح فريمان أخيراً في أن يثبت للسيدة ليبتون والعالم أنه ممثل، لكن أثقلته مبادئه ولون بشرته، فلم يحقق حلمه في شهور إنما عقود، كان عجوزاً راضياً عن ذاته وإن لم يرضَ بشكل كامل عن العالم.

الرب يحمل وجه رجل أسود من المسيسبي

«لو كان للرب أن يتخذ شكلاً بشرياً، فربما سيكون رجلاً وقوراً يشبه السيد فريمان».

- USA Today

في عام 1898 كتب الكاهن الأسود هنري ماكنيل مقالاً ثورياً بعنوان«God is Megro»، يقول فيه إن كل عرق إنساني تخيل الرب على صورته، البيض يتخيلون المسيح أبيض البشرة، لماذا لا يتخيل السود الرب على صورتهم؟!

يقول البروفيسور صامويل فريدمان إن أحداً لم يتخيل بعد قرن من تلك المقالة أن يظهر الرب في فيلم سينمائي كوميدي يمثله رجل أسود، وأن ينال حب أمريكا وإعجابها.

في عام 2003 حطم فيلم Bruce Almighty شباك التذاكر مسجلاً افتتاحية قدرها 100 مليون دولار. يدور الفيلم حول بروس نولان مذيع أبيض عاثر الحظ تُسرق منه ترقيته وتتأزم علاقته بحبيبته حتى يصرخ في ليلة متحدياً الرب.

يظهر الرب في صورة مورجان فريمان ويعقد معه صفقة ينال بموجبها إجازة ليدير بروس العالم عوضاً عنه، بعد أن يحقق بروس أمنياته الأنانية ويصير شهيراً، يدرك أن وظيفة الرب لا تتعلق به إنما تتعلق بحكمة ورهافة إيجاد توازن بين ملايين يريدون تحقيق أمنياتهم وعالم يجب أن يدار بعدالة خفية لا يراها الفرد أبداً وهو أسير قصته الشخصية.

خارج نجاحه التجاري الكاسح نال الفيلم إعجاب النخبة الأمريكية السوداء، وصفه أحد القساوسة بأنه رأى أخيراً حكمة السود التي كونوها على مدى عقود من الاضطهاد، لم يحضر الأسود بقوالبه المعتادة إنما حضر في أسمى صور الوجود والحكمة، صورة الرب نفسه.

مشهد من فيلم Se7en

عندما قام فريمان ببطولة الفيلم لم يكن ممثلاً واعداً، إنما بطلاً متحققاً بأفلام أسطورية بحجم شاوشانك وSe7en وUnforgiven بدا دور الرب تتويجاً سينمائياً لمسيرة أراد صاحبها دوماً ألا يحط من قدر نفسه أو جنسه.

بينما تعرض الرب في فيلم Bruce Almighty إلى محاكمة قاسية من البطل بروس لم يدرك فريمان أن مسيرته السينمائية ستتعرض لمحاكمة قاسية كذلك بأثر رجعي يمتد لكل أدواره السابقة. سيتعرض فريمان لانتقادات مفاجئة من كل اتجاه تخبره أنه من حيث أراد تحرير نفسه من قوالب البشرة النمطية، خلق قالباً جديداً للرجل الأسود!

مسيرة واعدة في قفص المحاكمة

«مورجان فريمان مثال لشخص أسود حكيم يساعد شخصاً أبيض على جلاء بصيرته، وإدراك إنسانيته. إنها صيغة هوليوودية مكررة، تنجذب لها الجماهير بيضاء البشرة التي تحب الأسود حكيماً ومرشداً لرحلتهم، ما دام لن يشكل بثورته تهديداً أبداً لتلك الرحلة».

جيرالد إيرلي

تبعاً لدراسة «الخلاص السحري للأبيض والأسود بالأفلام»، تمتلك هوليوود قالباً عنصرياً متخفياً بسحره، وهو الرجل الأسود الذي يظهر في دور مساعد ليعاون الشخصية البيضاء على اكتشاف مواطن قوتها، يقدم الأسود حكمته ليحقق الأبيض أحلامه بينما يظل الأسود ظلاً للأبيض، ساكناً للهوامش لا يتحرك منها لقلب الحبكة أبداً.

يعود هذا التقليد للعشرينيات، ويجد ذروته في فيلم زنابق الحقل الذي يعاون فيه سيدني بواتييه راهبات ألمانيات حتى يظنن أنه ملاك طيب أرسله الرب ليساعدهن على بناء الكنيسة.

ترى دراسات شتى أن مورجان فريمان سار على درب بطله المفضل بواتييه ليصنع مسيرته كاملة بذلك القالب السام.

إذا أردنا تفحص مسيرة فريمان بعد الدور الذي صنع انطلاقته في Street Smart سنجد محطته التالية فيلم Driving Miss Daisy الذي يدور حول سائق أسود ينجح في خلق رابطة مع العجوز اليهودية دايزي مروضاً طباعها المنفرة ومساعداً إياها على رؤية العالم خارج امتياز طبقتها، لتجد أخيراً تشابهاً إنسانياً لم تتخيله أبداً بينها كسيدة ثرية بيضاء وبين سائقها الأسود البسيط.

مشهد من فيلم Driving Miss Daisy

تصدم دايزي عندما يحرق معادون للسامية المعبد الذي تصلي فيه دوماً، ليخبرها سائقها هوك أن تلك العنصرية الطارئة على بني جنسها يحياها السود منذ قدومهم لأمريكا. يقدم الأسود معاناته ليرى فيها الأبيض حقيقة العالم ويتغير للأفضل.

في Shawshank Redemption يقدم السجين ريد الدعم الإنساني والصداقة التي يحتاجها البطل الأبيض أندي دوفرين لكيلا يذبل في سجنه، ييسر له الأدوات البسيطة التي يعبِّد بها طريقه للهروب، يقدم معاناته كتعويذة ضد الأمل، ولكن ينجح البطل الأبيض فيما فشل فيه صديقه الأسود، يظهر الأسود كمساعد لا أكثر. بينما يقوده الرجل الأبيض بشجاعة الأمل خارج جدران سجنه.

في فيلم Unforgiven يعود المجرم التائب ويليام لامتطاء حصانه وتذخير مسدسه لمطاردة مجرمين قاموا بتشويه عاهرة أملاً في نيل جائزة مادية يترك بها إرثاً لائقاً لطفليه، يخاف ويليام من وحشيته السابقة كمجرم عتيد لذلك يصطحب في رحلته صديقه الأسود نيد الذي يلعب دوره فريمان، يصير نيد حارساً لروح ويليام، يذكره بحقيقته وبنبل رحلته، يحرسه من نسخته القديمة ويموت فداءً لصديقه.

رغم أن نيد الأسود مات ومُثِّل بجثته على يد رجال بيض، فإن الانتقام له يأتي من كاوبوي أبيض يجد الطريق لشجاعته القديمة ويحصد الأرواح قرباناً لروح صديقه.

يمكن ملاحظة النمط نفسه في أفلام مثل Se7en وBucket List، والتي يظهر فيها فريمان في صورة معلم يقدم رؤية ثاقبة للإنسانية تساعد البطل الأبيض على تحقيق مهمته وتقبل مصيره.

تتكثف أداءات فريمان السابقة وتصل إلى ذروتها عندما يتحول في Bruce Almighty إلى إله أسود مطل من علٍ، يمنح حكمته إلى رجل أبيض عاثر الحظ.

يقول الناقد جيرالد إيرلي إن مورجان فريمان في صورة الرب ساعد بطله على إدراك جوهر الإنسانية دون أن يدفع هذا البطل ثمن أي جريمة ارتكبها.

مشهد من فيلم Bruce Almighty

الحكمة السوداء هنا مساندة ولا تهدد الرجل الأبيض أو تحاسبه أو تفكر في مقاومته، وهذا هو التصور الذي يحبه البيض وترسخه هوليوود، وهنا يمكننا أن نسأل: هل يمكن اختزال مسيرة مورجان فريمان في هذا التحليل؟ هل سقط الممثل المرهف لقوالب بني جنسه في قالب مؤسف من حيث أراد أن يتميز، أم أنه يمتلك أدوات معقدة لموهبة فريدة استدعت أن يحل في تلك القصص بأدوار بعينها؟

كيف تصنع الموهبة قالبها دون أن تخضع له؟

يقول فريمان إن صوته الساحر الذي تحول إلى بصمة مميزة تحضر في الوثائقيات العالمية التي تتحدث بلسان الرب أو الطبيعة أو الحكمة الخالدة، لم يكن هبة إلهية ولد بها.

كان فريمان مثل أي شاب من المسيسبي يمتلك لكنة الجنوب الثقيلة، والنزوع الدائم للحديث بنبرة هادرة أشد صخباً من مخاطبه، لكنه تعلم تطوير صوته في مدرسة بلوس أنجلوس عندما أخبره معلمه أبسط تمرين للحديث، التثاؤب!

تعلم صبي جنوبي متهم دوماً من معلميه وآبائه بالكسل أن التثاؤب ليس تكاسلاً، إنما طريقة لإراحة عضلات الصدر وتبسيط التنفس، عندها يخرج الصوت هادئاً مكتسباً عمقه كاملاً من مدد راحته، عندها يمتلك تأثيراً ساحراً لا يمتلكه الصياح.

كانت تلك أولى العلامات التي ميزت فريمان، رجل أسود يمتلك حكمة وهدوءًا لا يناسب إطلالته ولون بشرته.

يقول فريمان رغم الحكمة التي تكسو صوته أنه يكره كل صور الأستاذية، وكل نظريات Method Acting التي تحتاج إلى تقمص الشخصية بشكل متطرف لأدائها، يعرف فريمان ذاته بأنه ممثل حدسي كما وصفه معلمه هيربرت برجوف، يكتفي بقراءة النص أكثر من مرة ثم يترك كل شيء لعفويته.

يرفض فريمان كل محاولات محاوريه لإضفاء مسحة أسطورية على مسيرته مؤكداً أنه لا يحفر الأنفاق ولا يبني منازل، لا يقوم بعمل شاق، إنه يقوم بعمل يحبه، عمل زخمه بالكامل قائم على الحدس.

يقول مخرج فيلم Bruce Almighty توم شادياك إنه لم يختَر فريمان لدور الرب لأنه أسود البشرة أو وفاءً لقالب بعينه قررت هوليوود تدشينه، إنما ببساطة لأنه يمتلك تلك المقومات السابقة، حقيبة أدوات ساحرة يندر أن يمتلكها ممثل سواه.

أراد صناع العمل تقديم الإله في صورة رجل حكيم، يمتلك صوتاً ساحراً، لكنها حكمة ليست مثقلة بسلطوية قاسية أو بإدراك مبالغ فيه للذات، لأننا ربما لو قابلنا الرب يوماً فسنقابل رجلاً أبسط من خيالاتنا، كياناً يدرك حقيقته فلا يبالغ في تأكيد هيمنته.

امتلك فريمان رهافة تقديم الحكمة بصوت إلهي وملامح عامل بسيط وعفوية ساخرة لممثل تفيض منه الكلمات كشلال عفوي لا كسطور مدروسة.

في الفيلم يظهر فريمان لأول مرة كعامل بسيط يقوم بتنظيف الأرضية، وفي لحظة يخلع ثوب العمل ليظهر بحلة بيضاء تليق بإله، خارج تحول الثياب يظل الممثل على هدوئه وبساطته. هذا ما أراده صناع الفيلم، إله لا يكترث بإظهار كونه إلهاً، يفيض صوته بحكمة شديدة الخفة حد اقترابها من السخرية.

عندما كتب ستيفن كينج قصة شاوشانك كان ريد في الرواية رجلاً أيرلندياً أبيض البشرة، أحمر الشعر لذلك سمي ريد، ولكن أراد صناع العمل رجلاً يمتلك السمات المتناقضة نفسها، حكمة ساخرة تفيد الآخر أضعاف ما تفيد نفسها، رجلاً رابط الجأش مستسلماً لمصيره لكنه يجيد التلاعب بالتفاصيل، ليوفر بعضاً من الجنة لنزلاء الجحيم.

كان فريمان ممثلاً يستحق التضحية بالشخصية الأيرلندية الروائية لصالح حضوره السينمائي، لذلك يخبر ريد صديقه أندي بالفيلم عندما يسأله عن معنى اسمه، أنه أيرلندي، في دعابة تقدم تحيتها لفيلم غير مساره كاملاً لضم ممثل ممتاز فريد في أدواته لا رجل أسود البشرة.

لم يكن هذا الدور الأول الذي تغير بالكامل ليناسب ممثلاً بحجم موهبة فريمان، قام صناع فيلم Robin Hood: Prince Of Thieves بتطوير دور كامل يناسب مواهب فريمان لم يكن له حضور في قصة روبن هود الأصلية.

ذات يوم أوقف كلينت استوود التصوير ليعلن لفريق العمل أن فريمان ليس صديقه وحسب الذي رافقه في فيلمه الناجح Unforgiven، إنما هو ببساطة أعظم ممثل في العالم وهذا سبب وجوده بالاستوديو.

لم يختَر استوود رفيقاً أسود البشرة في فيلم ويسترن لتمرير رسالة هوليوودية، إنما ببساطة لإيمانه بموهبة صديقه، وقدرته على تجسيد صورة رجل يمتلك الحكمة الكافية لإنقاذ صديقه من شياطينه، ويمتلك العفوية الكاملة لممارسة الجنس مع العاهرات ليتمتع بصفاء كافٍ للتصويب في اليوم التالي.

تمتلك شخصيات فريمان طيفاً من المشابهة يصعب تجاهله أو تجاوزه، ولكن لا يمكن اختزاله لكونه توظيفاً سياسياً لممثل أسود البشرة لتمرير رسائل بعينها، إنما حل جمالي يحمله ممثل فريد من نوعه لقصص تحتاجه، رجل يمتلك حكمة وحضور مؤله تجاوره بساطة الملامح وعفوية ساخرة تناقض هذا الحضور، وهذا يجعله مثالياً في أدوار تقدم حكمة قد لا تستطيع تمثلها، وتقدم مدداً لبطولة قد لا تتحمل تبعاتها.

ربما النجاح الكاسح لتلك الأدوار هو ما جعلها تحتل الواجهة في مسيرة فريمان وتقولبها لصالح تفسير عرقي، لتتوارى في الظل أدوار أخرى أكثر سلطوية وتأثيراً في طبيعة مناصبها نسبة لدورها السينمائي في الحبكة مثل دور الرئيس الذي لعبه فريمان ثلاث مرات، أبرزها فيلم Deep Impact قبل سنوات من تولي باراك أوباما الرياسة، لتصر المخرجة Mimi Leder وقتها على موهبته، وتتحدى به إرادة الاستوديو الذي وصف تقديم رئيس أسود في ذلك الوقت بالخيال العلمي.

أن يختارك مانديلا ظلاً له

«عندما سُئل مانديلا عن الممثل الأنسب في العالم لأداء دوره، أجاب: لا أرى سوى فريمان».

سينال فريمان الشهادة الأرفع تكريماً لموهبته، عندما يصر مانديلا أن يكون هو انعكاسه السينمائي، ليظهر فيلم invictus عام 2007 الذي يروي السنوات الأولى في رياسة مانديلا.

في الفيلم يتحول مانديلا إلى انعكاس تاريخي لكل الانتقادات التي نالت مسيرة فريمان السينمائية، يبلور الفيلم التوترات التي تلت إصرار مانديلا على استبقاء فريق الغزلان للراجبي الذي يعشقه البيض في جنوب أفريقيا، بينما يراه السود رمزاً للحقبة العنصرية.

يظهر مانديلا رجلاً يمتلك الحكمة الكافية لإنقاذ البيض من عنصريتهم البغيضة ودمجهم في عالم جديد لا سيادة فيه إلا للمبدأ الأخلاقي الرشيد، يسخِّر فريمان أدواته مثل الصوت الساحر والتمثيل العفوي، والحكمة التي لا تثقل نفسها بإدراك ذاتها بل ترى في كل مفارقة طيفاً من سخرية.

يتوج مانديلا مسيرة فريمان وينقذها من انتقاداتها ومن القالب الذي اختُزلت فيه ليصير زعيماً أسود البشرة يقدم حكمته لإنقاذ البيض من أهم موقع للسلطة ومن موقع البطل في الحبكة.

يؤكد مانديلا أن الرجل الأسود له تجليات شتى، يمكن أن يكون ثائراً مثل مالكوم أكس وناشطاً مثل كينج ومحارباً مثل الفهود السود، ويمكن أن يكون رواقياً حكيماً يسعى لمصالحة تجاوز الأحقاد مثله.

يؤكد فريمان في مسيرته أن الممثل الأسود يمكن أن يُقولَب ليكون خادماً أو مهرجاً ويمكن أن يُقولَب مهما أجاد أدواره ليكون ظلاً للممثل الأبيض، بينما هو ممثل موهوب معتز بلونه، لكنه وفي لأدواته والشخوص التي أحياها في حكاياته والقصص التي ناسبت تلك الأدوات لا أكثر.

يقول فريمان بصراحة صادمة أن هوليوود لا تحابي الرجل الأبيض لذاته، ولا تكره الرجل الأسود لذاته، إنما حقيقة هوليوود أكثر بساطة وقسوة، هوليوود بتعبيره تمتلك عمى ألوان لا يرى إلا الدولار الأخضر. لذلك لو كانت موهبته مدرة للمال فستنجح في تجاوز القوالب المسبقة، مثلما أجبرت الاستوديوهات على قبوله رئيساً للولايات المتحدة أو مقاتل ويسترن قبل عصر الصوابية السياسية. مثلما قلبت روايات شخوصها رأساً على عقب لخلق حضور له فيها.

بطل أنقذته شخوصه

نجح فريمان في كل أدواره في تقديم مسيرة خالدة يساعد فيها البطل على تحقيق أهدافه واكتشاف ذاته، بينما كل دور من تلك الأدوار المساعدة ساعده على خلق أسطورته الخاصة وفرادته التي لا يشبه فيها أحداً.

في عام 2004 قدم فريمان دور الملاكم المتقاعد إيدي سكراب الذي تمنى أن ينال نصراً أسطورياً في مباراته التاسعة بعد المائة، لكنه نال هزيمة نكراء وفقد عينه لتتوج مسيرته في نهايتها بخزي وعاهة تصم وجهه للأبد، منح إيدي سكراب لفريمان مع اقترابه من السبعين الأوسكار الذي توج مسيرته كاملة باعتراف الأكاديمية بتفوقه.

مشهد من فيلم Bruce Almighty

قدم فريمان لشخوصه روحه وقدمت له ما تمناه دوماً، نوافذ يطل عبرها على ما تمناه دوماً، أن يكون منظوراً بعين تقدس فنه لا لونه.

في السادسة والثمانين لا يزال فريمان في محاوراته يجلس باحثاً في انتشاء طفولي عن انعكاس موهبته في عيون من يرونه، المراهق الأسود من ولايات الجنوب الذي عانى العنصرية في الجيش ولم يقُد طائرة أبداً، نجح في كهولته في امتلاك رخصة للطيران وثلاث طائرات خاصة يقودها بنفسه.

الشاب الثلاثيني الذي قضى لياليه يائساً في تنظيف الطاولات وتسليم القهوة والدونات للزبائن ليجمع الفتات اللازم للعيش تحول إلى أسطورة تقارب ثروته حالياً 250 مليون دولار.

لا يظهر فريمان أبداً بتعالٍ يناسب موهبته وثروته ومسيرته، عندما سأله محاور يوماً عن الأقراط اللامعة في أذنه وهل هي نوع من التباهي؟

أجابه ببساطة أنه رجل من الجنوب، ما يزال يحيا هناك لأنه يكره نيويورك والعواصم الباردة التي لا يصل لساكنيها ضوء الشمس ولا يعرف فيها الجار شيئاً عن جاره. رجل بسيط يشعر بالأمان في مدينته الأولى، لكنه كلما تركها خاف أن يموت وحده في بلد بعيد ولا يعرفه أحد، لذلك استعار عادة ارتداء الأقراط من البحارة الذين إذا ماتوا في جزيرة بعيدة وجد الغرباء بثمن الأقراط مالاً كافياً لشراء تابوت ودفنهم.

يصعب أن يموت فريمان في أي بقعة من العالم دون أن يجد أحداً يتعرف عليه، عندما سئل ملايين حول العالم كيف يتخيلون الرب؟ أجابوا أنهم يتخيلون صورته السينمائية التي قدمها مورجان فريمان، رجلاً من الجنوب بلكنة خفيفة، حكيماً متواضعاً يمتلك صوتاً عميقاً وحساً ساخراً. ويصعب لرجل يحمل خيال البشر عن وجه الرب، ألا يتعرف عليه أحد.

# مورجان فريمان # فن

فيلم «دخل الربيع يضحك»: موسيقى الحياة اليومية
بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها

فن