سيدة يبدو عليها أنها تجاوزت العقد الخامس من العمر بمسافة يسيرة، يظهر على ملامحها الهدوء والثبات، يمسك بها شرطي ملثم ويجرها خلفه بينما تتكلم إلى شخص يصور المشهد وهي تطلب منه أن يتواصل مع قسم الفلسفة في الجامعة ويخبره أن رئيسة القسم نويل مكافي تم اعتقالها.
هكذا تداولت منصات التواصل الاجتماعي لحظة اعتقال نويل مكافي رئيسة قسم الفلسفة في جامعة إيموري بولاية جورجيا الأمريكية، خلال الاحتجاجات التي اجتاحت عددًا كبيرًا من الجامعات الأمريكية وشارك بها طلاب وأساتذة على حد سواء، والمطالِبة بوقف الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023.
ذلك المشهد الذي أعاد إلى الأذهان قصة القبض على سقراط أبو الفلاسفة في أثينا قبل أكثر من ألفي عام، بعد أن سجنت الفلسفة خلال العقود الأخيرة داخل أسوار الأكاديميا، وانفصلت عن الشأن العام، جاءت نويل لتُذكّر أن الفلسفة هي للإنسان قبل أي شيء. فما قصة نويل مكافي؟ وما أبرز إسهاماتها في مجالات الفلسفة والفكر؟
تطرح نويل في كتابها المعنون بـ«الخوف من الانهيار: السياسة والتحليل النفسي» «Fear of Breakdown: Politics and Psychoanalysis»، والمنشور عام 2019، سؤال ما السبب وراء صعود النزعات القومية، التي تصفها بالخبيثة، في أماكن متفرقة من العالم في السنوات الأخيرة، رغم كون كثير من تلك البلدان ذات هوى يساري تاريخي. إذ تقول نويل في كتابها: «إن السبب الكامن وراء ذلك هو في الخوف المرضي من اضمحلال الهويات والأصول القومية، مقابل سيطرة المهاجرين والأقليات العرقية والدينية على المجتمع، وهو ما يشكل خطرًا حقيقيًا على مستقبل الديمقراطية، بل ومستقبل المجتمع»، مشيرة إلى أن الحل يكمن في ما يقدمه التحليل النفسي من خلال تقاطعه مع المجتمع ومشكلاته.
ذلك الحل الذي يتمحور حول فهم كيفية العمل في ظل القلق والغموض والهشاشة الذي ينطوي عليه الوجود الإنساني، دون الانجراف نحو إغراءات الإقصاء والتمترس خلف أفكارًا قومية تهدد الديمقراطيات الحديثة ومستقبل المجتمعات. فمن خلال قبول الواقع الجديد للمجتمعات الديمقراطية يمكن إنشاء منظومة سياسية حديثة تقف على أساس استيعاب التحديات المعاصرة المتمثلة في التغييرات التي طرأت على التركيبات السكانية وثقافاتها، ومن هنا يمكن إنقاذ الديمقراطية بوصفها الإطار السياسي الذي يضمن سلامة المجتمع والحفاظ عليه من التشرذم والانهيار الحقيقي.
يعد كتاب «النسوية: رحلة سريعة نحو الجذور» «Feminism: A Quick Immersion» الذي صدر عام 2021، أحد أبرز مؤلفات نويل مكافي، حيث تأخذ فيه القارئ إلى رحلة معرفية عميقة، وليست سريعة كما هو مذكور في عنوان الكتاب، نحو جذور الفكر النسوي من خلال البحث والتنقيب في أعماق العقل البشري والحضارة والفلسفة التي أنتجت مخيالًا جماعيًا يقصي المرأة ويهمش مكانتها.
يبدأ الكتاب بالسؤال عن العلاقة بين المفاهيم الميتافيزيقية وظاهرة اضطهاد المرأة تاريخيًا، أو تحديدًا، السؤال حول أيهما سبق الآخر، فمن خلال الإجابة عن ذلك السؤال يمكن فهم طبيعة التمييز السلبي ضد المرأة الذي ظل حاضرًا طوال قرون في العديد من الثقافات حول العالم.
تجيب نويل عن سؤالها التأسيسي بأن الأفكار والمفاهيم الميتافيزيقية القديمة، التي أسست للتصورات البشرية عن الوجود والمجتمع والسياسة، حملت في داخلها بذور اضطهاد المرأة والتمييز ضدها، حيث قدمت نويل عرضًا بانوراميًا للجذور الميتافيزيقية التي مهدت لمعاناة المرأة بداية من عصر الفلسفة اليونانية القديمة وصولًا إلى اللحظة الحالية. مستخلصة إمكانات تحرر المرأة من تلك القيود التي فرضت عليها من قبل المخيال الفلسفي الجمعي للعقل البشري، ومؤكدة أن الحركة النسوية على مدار تاريخها القصير كان رد الفعل المنطقي لقمع المرأة الممنهج طوال فترات كبيرة من التاريخ.
بخلاف كتبها الأكاديمية النقدية الرصينة في أعماق الفلسفة والفكر، كان لنويل إسهاماتها كذلك في نقد الشخصيات السياسية المعاصرة بشكل مباشر، وكان على رأسها دونالد ترامب، كيف لا وهو أيقونة اليمين في العقود الأخيرة!
لم تجد الفيلسوفة الشجاعة ما يمنعها من توجيه هجوم عنيف نحو الرئيس الأمريكي السابق فور وصوله إلى البيت الأبيض، حيث نشرت ورقة بحثية عام 2017 بعنوان «ترامب وسياسة المثالية المذعورة والفصامية» «Trump and the Paranoid-Schizoid Politics of Ideality»، حللت فيها شخصية الرئيس الأمريكي المثير للجدل وأنصاره الذين أوصلوه إلى كرسي الحكم. فقد قالت نويل، المهمومة بتقاطعات التحليل النفسي مع السياسة والفلسفة، في بحثها: «إن الرئيس الأمريكي ترامب يعاني من الفصام وجنون العظمة». تلك الأمراض النفسية التي انعكست على تصوراته السياسية فأخذتها نحو المثالية، ذلك ما تجلى في الشعار الذي اتخذه لحملته الانتخابية، «لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا».
إذ يوحي شعار ترامب بتصوراته السياسية المثالية عن الماضي، الذي يعتبره عظيمًا، ومن ثم المضي قدمًا نحو إعادة إحياء ذلك الماضي العظيم مجددًا من خلال تطهير المجتمع من كافة مظاهر التحديث التي طرأت عليه، والتي ترجمت إلى سياسات معادية للمهاجرين وللمختلفين بشكل عام.
تلك الرؤية التي لا ينفرد بها ترامب وأنصاره وحدهم، بل كافة التيارات القومية في شتى بقاع الأرض بحسب نويل، إذ ترتكز الحركات القومية على خطابات عنصرية تشيطن الآخر لمجرد الاختلاف في وجهات النظر.
من هنا يمكننا الانتقال إلى الموقف الذي قامت به نويل في ساحة الجامعة، الذي أدى بها إلى الاعتقال، فقد تدخلت وطلبت من شرطي التوقف عن ركل أحد المتظاهرين السلميين المناهضين للحرب على غزة، وهو ما دفع لاعتقالها بعد أن أصرّت على موقفها.
حيث يجدر الإشارة إلى أن نويل مكافي لم تبُح صراحة بموقفها من القضية الفلسطينية، إذ إنها ذكرت خلال حديث قصير بعد إطلاق سراحها أن لها موقفًا مركبًا من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، كما وصفت ما يحدث في غزة بـ«المرعب». فقد بررت موقفها بالدفاع عن قدسية الحرم الجامعي وحق الطلاب في التعبير عن آرائهم السياسية بحرية من دون معاملتهم كمجرمين، وهو ربما ما غفله كثير من المعلقين على واقعة اعتقالها، حيث اعتبرت على نطاق واسع بأن اعتقالها كان بسبب مشاركتها في التظاهرات.
لكن على الرغم من ذلك، يظل موقفها الشجاع، الذي يستقيم مع قناعاتها الفكرية وعملها الأكاديمي، جديرًا بالتقدير، ففي ظل التضييق الشديد الذي تمارسه الحكومات الغربية على كل من يشير لجرائم الاحتلال الإسرائيلي ولو بكلمة، يصبح الدفاع عن الحق في التعبير ولو في المطلق عمل بطولي.