قد يبدو للوهلة الأولى أن التنمية الاقتصادية والعدالة الجندرية مساران منفصلان: الأولى ترتبط بالنمو والمؤشرات الكمية، فيما تُحال الثانية إلى قضايا المساواة والحقوق. لكن التجارب العالمية أثبتت أن العلاقة بينهما جدلية لا يمكن فصلها. فالتنمية من دون مساواة جندرية مشروع منقوص يكرّس الإقصاء والهدر البشري، فيما تظل العدالة الجندرية من دون قاعدة تنموية صلبة مجرد خطاب نظري بلا أدوات للتطبيق. إن تمكين المرأة والمساواة بين الجنسين ليسا فقط مطلبًا حقوقيًا، بل استثمارًا تنمويًا ينعكس على الإنتاجية والابتكار واستدامة النمو، بينما يؤدي تجاهل هذا الجانب إلى فجوات في سوق العمل وتراجع في المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية.
وفقًا لتقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP 2023)، فإن الدول التي تقل فيها الفجوة الجندرية تحقق مؤشرات أعلى في التعليم والصحة والمشاركة السياسية. كما أشار البنك الدولي (2022) إلى أن سد فجوة مشاركة المرأة في سوق العمل يمكن أن يرفع الناتج العالمي بنسبة تصل إلى 20%. وتؤكد تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD أن المساواة بين الجنسين تقلل معدلات الفقر وتزيد من الاستقرار الاجتماعي.
تجربة فنلندا تقدم نموذجًا على كيف يمكن أن تصبح المساواة رافعة للنمو. فمنذ بدايات القرن العشرين رسخت البلاد مبادئ المشاركة المتساوية، ودمجت المساواة الجندرية في سياسات التعليم والرعاية الصحية والعمل. إصلاحات مثل إجازات الوالدية المتساوية، دعم الأسر، مرونة العمل، وضمان تمثيل واسع للنساء في البرلمان والقطاعات البحثية، حولت المساواة من شعارات إلى سياسات ملموسة انعكست على رفاه المجتمع، معدلات السعادة، والابتكار الاقتصادي.
الاهتمام بالمساواة في فنلندا ليس وليد اللحظة، بل جزء متجذر في تاريخها السياسي والاجتماعي. فمنذ عام 1906 أصبحت فنلندا أول دولة في العالم تمنح النساء حق التصويت والترشح للانتخابات البرلمانية، وهو ما رسخ مبكرًا فكرة أن الديمقراطية لا تكتمل من دون مشاركة النساء. ومع بناء دولة الرفاه بعد الحرب العالمية الثانية، اعتبرت الحكومات الفنلندية أن التعليم المجاني والرعاية الصحية الشاملة أدوات رئيسية لتحقيق المساواة الاجتماعية والجندرية معًا.
احتلت فنلندا المركز الأول عالميا في مؤشر اهداف التنمية المستدامة (SDG index 2023) محققه الأهداف ال 17 للتنمية التي اقرتها الأمم المتحدة؛ والجدير بالذكر ان المساواة الجندرية هي الهدف السادس بين الأهداف السبعة عشر، كما تصدرت المركز الأول في مؤشر السعادة العالمي (World Happiness Report, 2024- un SDSN) لسبع سنوات متتالية 2018-2024. ففي عام 2022اطلقت الحكومة الفنلندية برنامجًا يهدف إلى تحقيق نمو مستدام اقتصاديًا وبيئيًا واجتماعيًا، ويُضمّن ضمن أولوياته تعزيز المساواة بين الجنسين، كجزء من الإصلاحات الداعمة للنمو المستدام.
قامت فنلندا بإصلاح قانون الإجازات الوالدية (إجازات الأبوة والأمومة المشتركة) بالكامل سنة 2022 ليصبح أكثر عدلًا بين الأب والأم: مجموع الإجازة الوالدية: 320 يومًا مدفوعا بالكامل، يتم تقسيمها بالتساوي بين الوالدين ليصبح اكثر عدلا وليزيل الصورة النمطية (المرأة وحدها هي المسؤولة عن رعاية الاطفال) ،و لزيادة المرونة يمكن نقل 63 يومًا كحد أقصى من أحد الوالدين للآخر. بالإضافة الى إجازة الحمل والولادة فتبدأ إجازة خاصة قبل 30 يومًا من الولادة. مع مرونة الاستفادة من الإجازة حيث يمكن أخذ الإجازة على دفعات، وليس من اللازم ان تكون متواصلة.، ويمكن استغلالها حتى بلوغ الطفل سنتين. كما تسمح الحكومة بالجمع بين العمل الجزئي والإجازة لتسهيل التوازن.
كما يمكن لأحد الوالدين البقاء في المنزل حتى بلوغ الطفل 3 سنوات (مدفوعة جزئيًا أو غير مدفوعة لكن مع حماية وظيفية). وإجازة مؤقتة: يحق للوالدين أخذ إجازة قصيرة لرعاية طفل مريض دون خوف من فقدان الوظيفة. ويمنح القانون الفنلندي الموظف الحق في العمل المرن: يستطيع الموظف ان يحدد 50% من وقت عمله بنفسه، بالإضافة ان الانتقال للعمل عن بُعد شائع ومدعوم منذ ما قبل الجائحة.
الدولة تدفع بدلات إجازة الوالدية عبر مؤسسة التأمين الاجتماعي (KELA). كما يوجد دعم مالي خاص للأسر التي تختار رعاية أطفالها في المنزل بدل الحضانة. بالرغم من توفير الدولة حضانات عالية المستوي مدعومة من الدولة.
هذا وتعتمد فنلندا نموذج دولة الرفاه مع مجانية شاملة وخدمات تمولها الضرائب انعكست في توفير خدمات دعم أسري وصحي للنساء والرجال مدى الحياة.
تعد فنلندا كذلك من أعلى معدلات التوظيف النسائي في أوروبا (73%).مع ضمان تمثيل النساء بنسبة تتجاوز 46% في البرلمان، بذلك استطاعت إطلاق الطاقات الكامنة لنصف المجتمع. كما شجّعت مشاركة المرأة في القطاعات التكنولوجية والبحثية، مما عزز من الابتكار والاستدامة في الاقتصاد. وتعد فجوة الأجور الجندرية اقل من 10% وهو من أدني المعدلات في الاتحاد الأوروبي.
نتاج تلك السياسات كان رفع مشاركة النساء في سوق العمل: لأن الأم تستطيع ان توازن بين العمل ورعاية الطفل. زيادة دور الأب في التربية مما يخفف العبء عن الأم ويعزز المساواة. وأيضا تحقيق توازن حياتي يقلل من التوتر والإرهاق، ويرفع الإنتاجية.
يشجع هذا المناخ الأسر على الإنجاب في بيئة داعمة (على عكس كوريا الجنوبية (أدنى خصوبة عالميا)) مما يدعم الاستدامة السكانية.
اللافت أن هذا التقدم لم يكن مجرد تحسين لمؤشرات المساواة، بل انعكس اقتصاديًا واجتماعيًا: فقد سجّلت فنلندا أعلى معدلات الرفاه الاجتماعي، وانخفضت الفجوات في الدخل، وارتفعت نسب الثقة بالمؤسسات العامة. ويؤكد تقرير UN Women أن إدماج النساء في السياسات الاقتصادية والاجتماعية يضاعف فرص تحقيق أهداف التنمية المستدامة ويُسرّع وتيرتها.
هذا النموذج جعل فنلندا تُعتبر من الدول الرائدة عالميًا في سياسات العائلة والعمل، وواحد من الأمثلة الناجحة على كيف أن المساواة بين الجنسين تؤدي مباشرة إلى نمو مستدام واقتصاد قوي.
في المقابل، تظهر كوريا الجنوبية الوجه الآخر: فغياب السياسات الداعمة للمساواة وتنامي الخطاب المناهض للنسوية عمّقا الفجوات الجندرية في سوق العمل، حيث تحتل كوريا أحد أدنى المراتب في مؤشرات العدالة الجندرية داخل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. انعكست هذه الفجوات على الاقتصاد والديموغرافيا، إذ سجلت كوريا أدنى معدل خصوبة عالمي مع مؤشرات مقلقة على صعيد الاستقرار الاجتماعي والتنموي.
في كوريا الجنوبية، ساهمت السياسات والمواقف المعادية للمساواة الجندرية — التي تصاعدت منذ منتصف العقد الماضي مع تنامي الخطاب السياسي المناهض للنسوية — في تعميق الفجوة بين الجنسين في سوق العمل والمجتمع. رفض الحكومة تبني إصلاحات جذرية لمعالجة فجوة الأجور (31.5% وفق OECD 2023) وغياب تشريعات فعّالة لمكافحة التمييز الوظيفي حدّا من اندماج النساء اقتصاديًا، مما أدى إلى خسائر مباشرة في الإنتاجية والنمو.
اعتمد الرئيس السابق يون سوك-يول Yoon Suk-yeol خلال حملته على خطاب مناهض للنسوية، ووعد بإلغاء وزارة المساواة والأسرة، الأمر الذي جذب تأييدًا من فئة “الرجال الشباب المتذمرين”، ما ساعده في الفوز بالانتخابات. إلغاء وزارة المساواة ليس مجرد تغيير هيكلي؛ بل له انعكاسات مباشرة على المساواة، النمو الاقتصادي، حماية المرأة، ومؤشرات الإنجاب، وهجرة الكفاءات النسائية بحثا عن فرص أكثر عدالة.
تعتمد كوريا الجنوبية نظام اجازات والدية يقر سنة غير مدفوعة للأمهات، إجازة الأب غالبًا 3–10 أيام فقط، ولا دعم للحضانات، فالحضانات غالية نسبيًا مع دعم حكومي محدود ما يعيق موازنة النساء بين العمل والأسرة مع غياب تام للمشاركة الوالدية. ويجدر بالإشارة أيضا انه لا مرونة في ساعات او أيام العمل، فمازال قطاع الاعمال الكوري يعتمد ثقافة ساعات عمل طويلة وقاسية.
في القطاع الصحي، تعتمد كوريا الجنوبية أكثر على الاشتراكات الفردية والمدفوعات المباشرة، مما يخلق تحديات في العدالة الاجتماعية. لا تزال النساء يتحملن العبء الأكبر من الرعاية الأسرية والصحية، ولا تواجد لحاضنات مدعمه بل انها عالية الكلفة نسبيا. مما يؤثر على مشاركة النساء الاقتصادية والتنموية وهو ما يعد هدرا لقرابه نصف الموارد البشرية.
كما يوجد في قطاع العمل في كوريا الجنوبية، حوالي 46% من العاملات فتيات يعملن بعقود غير دائمة، مقارنة بـ30% من الرجال، مما يعكس هشاشة الأوضاع المهنية. هشاشة وظيفية للنساء تصعب من توازنهم بين العمل والأسرة. كما ان كوريا لديها أكبر فجوة في الأجور بين الجنسين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)—النساء يكسبن نحو 31% أقل من الرجال. بل وتشكل النساء حوالي 19.1% من أعضاء الجمعية الوطنية، أقل من المتوسط في دول OECD .
مؤشر «السقف الزجاجي» الذي تصدره صحيفة ذا إيكونوميست The Economist يصنف كوريا في المراتب الأدنى بين دول OECD باستمرار بسبب تفاوتات في التوظيف والدخل والمقاعد التنفيذية.
أدى ذلك إلى وصول كوريا الجنوبية إلى أدنى معدل عالمي للمواليد عند 0.72 مولود لكل امرأة وفق (Statistics Korea 2023) وعزوف متزايد عن الزواج، هدر لرأس المال البشري بسبب عزوف النساء عن سوق العمل أو الهجرة. وهو ما انعكس سلبًا على استقرار البنية السكانية والديموغرافية. أما على الصعيد التنموي فانه يهدد استدامه التنمية، فقد أشار تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2022 إلى أن استمرار الفجوة الجندرية يضع كوريا في مرتبة أدنى من مثيلاتها اقتصاديًا مثل اليابان وسنغافورة، مما يحدّ من قدرتها على تحقيق مسارا تنمويا مستداما ويزيد من أعباء الدولة في مجالات الرعاية الاجتماعية والصحي
تشير مديرة صندوق النقد الدولي (IMF) إلى أن رفع مشاركة النساء في القوى العاملة إلى مستوى الرجال بحلول 2035 قد يُزيد الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بأكثر من 7%. كما توصي بصقل سياسات تعزيز الخدمات (الحضانة، إجازات الوالدين، تحسين التوازن بين العمل والحياة).
كما أكدت دراسة اقتصادية أن الإنفاق على البنية الاجتماعية (تعليم، حضانة، رعاية صحية) يزيد من التوظيف الذكوري والأنثوي محليًا ودوليًا، ويساهم في نمو الإيرادات والإنتاج. وهذه البنى هي إحدى مهمات الوزارة المعنية بالمساواة.
تثبت المقارنة أن المساواة ليست ترفًا، بل سياسة تنموية جوهرية: فنلندا جسّدت معادلة أن المساواة تعني مشاركة كاملة تؤدي إلى تنمية مستدامة، بينما أظهرت كوريا أن غياب المساواة يخلق فجوات هيكلية تهدد استمرارية النمو. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن لدولة عربية أن تستلهم النموذج الفنلندي، فتجعل من المساواة مشروعًا وطنيًا يقود إلى تنمية شاملة؟