لا، ليس هذا عوداً على بدء. ولم يُفقد جزء من تلك المقدمة أثناء التحرير. وليس سؤال العنوان معطوفاً على حدث كان يجدر البدء بالإشارة له. ولكنها غريزة بشرية تُستثارُ فور رؤية الوجه المتجهم لنجم اليونايتد السابق روي كين على الشاشة، وسماع صوته وهو يسلق الجميع بألسنةٍ حِداد، تدفع للتساؤل: من الذي أغضب هذا الرجل؟ ولماذا يبدو على الدوام وكأنه يتميز غيظاً من شيءٍ ما؟
يذكر الجميع بوضوحٍ تام ذلك المشهد الذي يترك فيه الإيرلندي الغاضب الكرة والملعب وزملاءه، ويركز على الخصم المسكين آلف-آنجي هالاند، على ركبته تحديداً، ليجتث قدميه من فوق الأرض، مسبباً له إصابة كانت السبب الرئيس في نهاية مسيرته.
كان وراء ذلك التدخل العنيف قصة بالطبع، لكنه – وإن كان الأكثر تهوراً وعنفاً - لم يكن الوحيد الذي بُنيت حوله سيرة الغضب في مسيرة كين، الطفل واللاعب والمدرب والمحلل فيما بعد.
في إحدى حلقات بودكاست «Stick To Football» الذي يتشارك الرباعي جاري نيفيل وجيمي كاراغر وإيان رايت وروي كين في تقديمه. قام نيفيل بعرض مُفصل للبطاقات الحمراء التي حصل عليها الإيرلندي في مسيرته مع الشياطين الحمر.
إحدى تلك البطاقات كانت عندما دهس كين لاعب أستون فيلا وقتها وقائد المنتخب الإنجليزي فيما بعد جاريث ساوثجيت متعمداً في بطنه أكثر من مرة. تكررت تلك الواقعة بشكلٍ مشابه مع حارس بورتو فيتور بايا، ولكن الدهس جاء تلك المرة من الظهر. بطاقة أخرى نالها كين حين قذف آلان شيرر بالكرة في ظهره، ثم أتبعها بلكمةٍ في الوجه. البطاقة الرابعة استحقها قائد الشياطين الحمر إثر تدخل عنيف من الخلف على قدم لاعب تشيلسي جوس بويت، والبطاقة الخامسة التي نالت الضجة الكبرى، كانت من نصيب آلف هالاند، والد المهاجم آيرلينج هالاند.
يستعيد كين تلك المواقف ولا يشعر إزاءها بأي ندم أو تهور، بل يرى أن ساوثجيت استحق ذلك التدخل، وأنه استمتع بلكم شيرر، وأن الحارس أظهر طراوة غير عادية لدهسة بسيطة على الظهر، وأن التدخل على لاعب تشيلسي كان عنيفاً، لكنه كان جيداً. وأن الزمان لو عاد؛ لكرر كل ما فعل مرةً أخرى، حتى ما فعله مع هالاند الأب.
كان هالاند الأب لاعباً لليدز يونايتد عام 1997، عندما دخل كين المنطقة وسقط. وقف هالاند فوق رأسه وحدجه بنظرة وقال كلمة أو اثنتين عن الغطس وادعاء الإصابة. لكن ما تبين بعد ذلك أن كين كان قد أصيب بالفعل بتمزق في أربطة الركبة الداخلية، أبعده عن الملاعب لما يقارب السنة تقريباً. لم ينسَ كين تلك الكلمات ولا تلك النظرة، ظل يحملها في صدره جمرةً متقدةً لثلاث سنوات ونصف، حتى كان اللقاء والحادث العنيف.
يصف الإيرلندي ذلك المشهد في سيرته الذاتية الأولى، التي نُشرت عام 2002، وفيها أفرد مساحة للحديث عن تدخلاته العنيفة بصراحةٍ فجة: «كنتُ قد انتظرتُ بما فيه الكفاية، لقد ضربته بعنفٍ شديد. كان تدخلاً على الكرة على ما أظن. خذ هذه أيها الوغد. ولا تقف أبداً عند رأسي هازئاً بالإصابات المزيفة.»
عُوقب كين مرتين إثر تلك الحادثة، الأولى بالطرد والإيقاف لثلاث مباريات وغرامة 5000 باوند، والثانية بعد ذلك التصريح، بغرامة قدره 150 ألف باوند والإيقاف لخمس مباريات. لكن أحداً لم يتساءل: من أين جاء ذلك العنف؟
وُلد روي كين عام 1971 في ضاحية مايفيلد، إحدى ضواحي مدينة كورك في جنوب إيرلندا. عُرفت تلك الضاحية بأنها مستقر الكثير من الأسر الفقيرة المنتمية للطبقة العاملة، ومن بينها أسرة كين. كانت تلك الفترة من سبعينيات القرن الماضي، فترة بطالة وشدة، ولم تكن حال أسرة كين بأيسر كثيراً مما كان عليه حال معظم الأسر في تلك الضاحية، لكن عمل الأب في مصنع للنسيج ضمن لزوجته وأولادهما الخمسة ما يسد رمقهم.
كان كين في وسط كل ذلك، صبياً فقيراً خجولاً نحيلاً مقارنة بسنه. يُبرحه كبار زملائه ضرباً؛ حتى قرر أن يتعلم الملاكمة ليساعد نفسه ويقيها الضرب والإهانة. تعلم كين الملاكمة بسرعة، والتحق بصفوف متقدمة فيها في سن الحادية عشرة، وكان يربح معظم النزالات التي يخوضها؛ فاشتهر بين زملائه بحدته وعنفه. وقد أعانته تلك السمعة على الفوز بكثير من المشاجرات أو تجنبها على الأقل.
ثم ظهرت كرة القدم في حياته، وكان عليه أن يختار بينها وبين الملاكمة؛ فاختار الكرة. لكن ضآلة حجمه حرمته فرصاً جيدة، ينالها من هم في مثل سنه بسهولة إن كانوا أشد بأساً منه. ظل حب كين للملاكمة مسيطراً عليه، يمكن أن تتأكد من ذلك برؤيته ينفذ بعض حركاتها في الملعب، حتى بعدما احترف كرة القدم، ظلت عقلية الملاكم مسيطرةً عليه.
يرى كين أن نشأته جعلته أكثر حمية في الملعب، فقد اعتاد أن ينتزع كل شيء يخصه بشق الأنفس. وإلى ذلك أيضاً ذهب أحد أصدقاء طفولته، أن ذلك الضعف الجسماني ترك بصمته على شخصية كين وعقليته، لقد جعله يبذل جهداً مضاعفاً من أجل تعويض ذلك النقص، ولم تغادره تلك العقلية حتى في مسيرته الكروية.
ساهم ذلك التكوين في خلق حالة من الوحدة والانزواء الاجتماعي، لم يستطِع كين مجابهتها إلا بالشراب. وقد كان كين صاحب كاس، يغادر فور نهاية مباريات فريقه نوتنجهام فورست الأسبوعية ليشرب في حانات مدينة كورك الرخيصة. ولم يتغير ذلك الوضع عندما استقر داخل أسوار الأولد ترافورد، بل إنه كتب في سيرته الذاتية أنه لما وجد في القلعة الحمراء ثقافة الشراب شائعة؛ شعر ببهجة وارتياح رهيب.
تزعم كثير من الدراسات وجود ارتباط وثيق بين معاقرة الشراب والميل إلى العنف. إحدى تلك الدراسات نُشرت في مجلة «Frontiers» عام 2021، ركزت على إجراء دراسات دماغية متعلقة بشرب الكحول. تبين أن شرب الكحول لفترات طويلة، يحفز تغييرات شكلية في مناطق الدماغ المسئولة عن ضبط النفس واتخاذ القرارات والمعالجة العاطفية، مما يعني ميلاً أكثر للعدوانية والعنف.
في مسلسل تيد لاسو يقود فريق ريتشموند الكابتن روي كينت، متوسط الميدان الذي سبق أن فاز بالألقاب مع ناديه السابق تشيلسي. يتمثل الغضب في كل خلجةٍ من خلجاته، في الصوت الغليظ والمزاج العكر والوجه المتجهم على الدوام. هل يذكركم ذلك الوصف بلاعبٍ تحدثنا عنه قبل قليل؟
لم يبذل صناع المسلسل جهداً في إخفاء استلهام شخصية الإيرلندي الغاضب، وإن لم يكن ذلك واضحاً من الاسم المتطابق تقريباً، فإن براندن هانت، أحد صناع العمل، فقد حرص على أن يتأكد الجميع من ذلك.
حظيت واقعة طرد كين من معسكر منتخب إيرلندا قبيل كأس العالم 2002، وشجاره مع مدرب الفريق ميك مكارثي بإعجاب هانت. وعندما حان دور وضع العقبات والصراعات في طريق المدرب اللطيف المبتسم دوماً تيد لاسو، كان لا بد من وجود نموذج بشري يمثل تلك العقبات، وكان ذلك سهلاً على هانت، الذي استدعى شخصية كين على الفور.
دعنا ندَّعي ولو قليلاً أننا نتحدث عن شخصين مختلفين، ثم دعنا نتفق على أن أول ما يجمعهما هو ذلك السلوك العدائي.
يرى ديفيد تشيستر البروفيسور في علم النفس، وصاحب مختبر خاص بعلم النفس الاجتماعي وعلوم الأعصاب والمهتم حصراً بدراسة العنف والعدائية، أن الميل للعنف ليس رغبةً فقط في التخلص من مشاعر سلبية مؤرقة كالغضب، بل يكون أحياناً مبعث شعور جيد لدى البعض، أولئك الذين تكمن متعتهم في إيذاء الآخرين أو رد الأذى على الأقل.
يبدو كينت في المسلسل غاضباً من الماضي، وحاقداً على حاضر يعلم أنه لم يعد موجوداً فيه، وذلك مبعث ضيقه وضجره. أما كين فقد كان يعجبه عنفه، ولم يجد مانعاً من الإيذاء مع سبق الإصرار والترصد، لمجرد أن يدرك الضحية أنه لم ينسَ ما حدث.
قُبيل انطلاق الموسم الثالث من المسلسل، سألت مذيعة قناة سكاي سبورتس الحضور وفيهم كين عن الشبه الواضح بينه وبين الشخصية التلفزيونية، ليجيب كين بدهشة واضحة: «شبهي أنا؟ لا بد أنكم تمزحون، إنني ألطف منه بكثير، وأنتم تعلمون ذلك.»
حقاً؟