استحوذ بافل دوروف، مؤسس منصة تليجرام ومديرها التنفيذي،على صدارة عناوين الصحف في الأسابيع الماضية عقب اعتقاله من قبل السلطات الفرنسية في الأيام الماضية، ورغم أن الحكومة الفرنسية خرجت في بيان رسمي كشفت عن أسباب هذا الاعتقال، ثم أخلت سبيله مؤقتاً مع طلب بعدم مغادرة البلاد، إلا أن هذا لم يهدئ من وطأة الأخبار والتغطية الصحفية حول عملية الاعتقال.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي استولى دوروف فيها على عناوين الصحف العالمية، فقد عُرِف بأنه شخصية مثيرة للجدل حول العالم عبر تصرفاته وتصريحاته، والأهم من ذلك المواقف التي تتخذها منصته ضد الرقابة على المحتوى، بشكل جعلها الخيار الأول لكل من يرغب في التواصل دون وجود أي قيود حول ما يقوم بمشاركته أوالتحدث فيه، بدءاً من مناضلي حماس وحتى عصابات الجرائم السيبرانية، وهذا ما يطرح تساؤلاً محورياً حول أسباب اعتقال فرنسا للشخصية التي تقف وراء أكثر منصات التواصل الاجتماعي السريع حرية.
ولد دوروف في عام 1984 لعائلة روسية تقطن في موسكو، وسرعان ما ترك البلاد برفقة أسرته للانتقال إلى إيطاليا بسبب انتقال أعمال والده، ولاحقاً عاد دوروف مع أسرته إلى موسكو عقب انهيار الاتحاد السوفيتي بصحبة شقيقه الأكبر نيكولاي الذي شاركه في تطويرالمنصة وإدارتها.
نبغ طفلا دوروف منذ نعومة أظافرهما في مختلف العلوم، وكان هذا بارزاً بوضوح في العلوم الرياضية التي شارك الشقيقان في مسابقاتها المدرسية وتمكنا من تحقيق المراكز الأولى فيها، واستمرهذا النبوغ حتى تخرجا في الجامعة حين أسسا منصة التواصل الاجتماعي الأولى لهما في روسيا تحت اسم «فكونتاكتي –Vkontakte»، واختصاراً VK، عام 2006.
حققت منصة VK نجاحاً باهراً منذ اللحظة الأولى لإطلاقها، وجذب هذا النجاح ملايين المستخدمين الروس في وقت قياسي؛ مما أدى إلى التفات الكرملين للمنصة محاولاً السيطرة عليها وضمها تحت جناحه، وهو الأمر الذي نجح فيه بشكل كامل عام 2014 عندما باع دوروف حصته في الشركة لصالح إيفان تافرين، المدير التنفيذي لشركة الاتصال الروسية ميجافون، والمعروف بولائه للكرملين وبوتين،ثم انتقل للعيش خارج روسيا.
في وقت سابق، أعلن بافل دوروف عن ابتكاره الجديد في أيامه الأخيرة بروسيا وتحديداً عام 2013، وهو منصة تواصل اجتماعي مملوكة لمؤسسة غير ربحية تعتمد على آليات تواصل مؤمنة بالكامل ومشفرة بشكل سري لا يمكن اختراقه من أي مؤسسة خارجية أو من المنصة نفسها، وأطلق على هذه المنصة اسم تليجرام.
تمكَّنت منصة تليجرام من تحقيق نجاح باهر في مختلف دول العالم منذ اللحظة الأولى لولادتها؛ إذ نجحت المنصة في جذب 35 مليون مستخدم في عامها الأول، وهو الرقم الذي تضاعف بعد عامين في عام 2018 عندما تخطت 80 مليون مستخدم، واليوم يصل عدد مستخدميها إلى 900 مليون مستخدم نشط.
أصدرت تليجرام بياناً فور اعتقال بافيل دوروف، وفي هذا البيان وضحت أن مديرها التنفيذي لم يخطئ، وأن آليات مراقبة المحتوى وتنقيحه متفقة مع العديد من الإجراءات القياسية في صناعة منصات التواصل الاجتماعي، وأكدت أنها ومؤسسها بريئان من أي استخدام سيئ للمنصة.
بيان المنصة أكد أيضاً أنها لا تنوي ترك أي باب خلفي للسلطات من أجل الوصول إلى رسائل المستخدمين ومعلوماتهم، وهو موقف ليس جديداً على إدارة المنصة، حيث اتبعت موقفاً مماثلاً مع السلطات الهندية حين رفضت الكشف عن بيانات بعض المستخدمين المشاركينفي قضية جارية في المحكمة متعلقة بخرق لحقوق الملكية لبعض الملفات التي شُورِكت عبر المنصة.
ولكن كيف تمكنت تليجرام من إثارة كل هذا الجدل؟ ولماذا اتخذت هذه المكانة بين منصات التواصل الاجتماعي المختلفة وأصبحت رمزاً للحرية؟ للإجابة على هذا التساؤل يجب النظر إلى آليات التشفير المستخدمة في منصات التواصل الاجتماعي المختلفة.
تعتمد غالبية منصات التواصل الاجتماعي على آليات تشفير ثنائية الأطراف، وهذا يعني أن الأطراف المشاركة في المحادثة فقط هي من تستطيع الوصول إلى المعلومات الموجودة بها، ورغم أن هذه الميزة موجودة في تليجرام ومنافسيها من واتساب وفيسبوك، فإنها تعمل بطرق مختلفة في كل منصة.
وبينما تعتمد منصات التواصل الاجتماعي الأخرى على آليات التشفير ثنائي الأطراف فقط، فإن تليجرام تضيف طبقة إضافية من الخصوصية، حيث ترفض الشركة وممثلوها وصول أي أطراف خارجية إلى المحادثات، وتعتبر هذا الأمر خيانة مباشرة لاتفاقياتها مع العملاء.
لذا فإن قوة المنصة الحقيقية تكمن في تراخي آليات مراقبة المحتوى والتسامح مع الكثير من أنواع المحتوى المشارَك عبرها، ورغم أن هذا الأمر يفيد أصحاب النوايا الإجرامية والسيئة، فإنه أيضاً يفيد أصحاب القضايا الحقيقية.
في عام 2021، نُشرت دراسة تتحدث عن دور تليجرام في تنظيم المظاهرات في مختلف دول العالم، مثل هونج كونج والمظاهرات التي أُجريت بها، كذلك ساهمت المنصة في تنظيم المظاهرات القائمةبالبرازيل العام الماضي.
وبشكل عام، يمكن العثور على دور تليجرام في جميع المظاهرات الكبيرة التي اندلعت في مختلف بلاد العالم خلال السنوات الماضية، إما للتنظيم قبل حدوث المظاهرة، أو حتى للتنسيق أثناء حدوث المظاهرات نفسها، وربما كان ما حدث في مظاهرات بريطانيا الشهر الماضي خير دليل على ذلك، حيث كان للمنصة دور كبير في تنظيم التظاهرات وتوحيد جهودها.
كذلك كان الأمر في مظاهرات 2015 حين اصطدمت السلطات الفرنسية مع النشطاء البيئيين، ونتج عن ذلك مقتل 130 متظاهراً، فضلاً عن دور المنصة في تنظيم جهود المتظاهرين في اقتحام مبنى الكابيتول عام 2021، وذلك وفق التحقيقات التي أُجريت عقب إلقاء القبض على المنظمين.
ولا يقتصر هذا الأمر على المظاهرات المعارضة فقط، بل يمتد إلى حركات المقاومة، وفي مقدمتها حماس التي تعتمد على المنصة لمشاركة أنشطتها المستمرة عبر مجموعة متنوعة من القنواتوالحسابات التابعة لها.
بالطبع، جذبت منصة تليجرام هذه الحركات والتنظيمات بفضل سياسة الرقابة المرنة التي تتبعها الشركة، والتي تتيح لهم مشاركة أي نوع من أنواع المحتوى بسهولة ودون الخوف من حظر الحسابات، ورغم أن المنصة في بعض الأحيان تحظرها، فإنها في النهاية تترك الحسابات الجديدة وتجعلها تعمل بكفاءة.
يحمل دوروف عدداً من الجنسيات المختلفة، ومن ضمنها الجنسية الفرنسية والإماراتية، فضلاً عن جنسية موطنه روسيا، وهو ما دفع الإمارات وروسيا إلى اتخاذ تصرف قانوني يساعد دوروف على الخروج من الأزمة.
رسمياً، قالت الحكومة الفرنسية إن دوروف سهَّل مهام غسيل الأموال لعدد كبير من العصابات الإجرامية، فضلاً عن تسهيل نشرمحتوى الاتجار بالأطفال، ولكن هل يمكن أن تكون هناك أسباب أخرى لهذا الاعتقال؟
قبل اعتقال دوروف بأيام، تواجد رئيس تليجرام التنفيذي في أذربيجان، وبالمصادفة البحتة تواجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الدولة نفسها، لكن بحسب بيان المنصة والحكومة الروسية، فإن الطرفين لم يتقابلا.
لذا لا يمكن التأكد حقيقة من سبب الاعتقال، وربما تكشف الأيام القادمة عن هذا السبب، ولكن من الأكيد أن تبعات هذا الاعتقال ستظهر في المستقبل القريب، وبسببها قد نخسر واحدة من أكثر منصات التواصل الاجتماعي حرية، حرية لا تحبها كثير من الحكومات كما يبدو.