أولع الإنسان منذ وجوده بمعرفة ما حدث في الماضي والتساؤل بشأنه، وقد ظهر ذلك جلياً في ثقافة اليونان منذ زمن طويل، ثم تزايد الاهتمام بذلك وانتشر في مختلف الأمم.
ويعد ظهور الإسلام منعطفاً خطيراً في حياة العرب؛ فقد غيَّر مسار حياتهم وأسس تفكيرهم، فكوَّن بذلك القاعدة الفكرية اللازمة لوحدتهم بعد حياة الفرقة والشتات التي كانوا يعيشونهما في ظل القبلية، وما فرضته عليهم طبيعتها من حروب ومشاحنات.
ولكن قبل أن يصبح التاريخ فناً أو علماً له نظرياته وأسسه الفلسفية وقوانينه لدى ابن خلدون (ت: 808هـ/ 1406م) ومن جاء بعده، كانت الكتابات التاريخية عند العرب تسير وفق أنماط تتفاوت في أهدافها، ولا بد لنا من إلمامة بتطور تلك الكتابات التاريخية، ورصد أنماطها، وتمحيص ما يتصل بها من حوادث واتجاهات سياسية واجتماعية.
لم يكن السوسيولوجيا أو علم الاجتماع بتعبيرنا المعاصر، أو علم العمران بحسب تعبير ابن خلدون، مطروحاً كمادة للدراسة والبحث قبل ظهور مقدمة ابن خلدون. وكانت الطريقة التاريخية الغالبة - قبل ابن خلدون - التي اشتُهر أعلامها وحازوا قصب السبق فيها؛ مثل: الواقدي وابن الكلبي وسيف ابن عمر التميمي وأبي مخنف لوط بن يحيى والطبري، تصف الحوادث التاريخية وصفاً مجرداً من أي تحليل يحاول استخلاص فرضيات أو قوانين تتعلق بطبيعة الحوادث، وكانت نتيجة طبيعية لحصر هؤلاء لحركة التاريخ في شريحة واحدة، هي شريحة الملوك والخلفاء، الذين يمثِّلون مساحة ضئيلة جداً مقارنة بمساحة الأمة.
وكان أقطاب هذه المدرسة التاريخية يحرصون على ذكر معلوماتهم بطريقة حشد الروايات وتوثيق الأسانيد دون القيام بنقد الأخبار؛ فعندئذٍ حصروا منهج التاريخ كَمَّاََ في أهل السياسة، وحصروه كَيفاً في الاكتفاء بذكر الروايات المسندة، فيتخلصون بذلك من العهدة في الخبر؛ إذ يقول أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: 310هـ/ 923م) - إمام هذه المدرسة - في مقدمة كتابه تاريخ الرسل والملوك: «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنًى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤتَ في ذلك من قِبلنا، وإنما أُتي من قِبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا».
وحتى لو عالج أصحاب هذه الطريقة بعض نظم السياسة والاقتصاد والاجتماع، فإنما يعالجونها بطريقة مفككة، لا صلة لها بنسيج المجتمع العام، ولا بحركته، بل كثيراً ما كانت الأحداث التاريخية تتفكك تبعاً للأعوام أو الحدود الجغرافية والسياسية.
ومع ذلك، فقد احتفظ تاريخ الطبري بأكبر قدر من التفصيل بالمصادر المفقودة التي لم تصل إلينا، وتستخدم الدراسات الحديثة هذا الكتاب باعتباره أهم المصادر المبكرة وأغزرها مادة بالنسبة إلى القرون الأولى للعلم في المجتمع الإسلامي، وعد عبد العزيز الدوري «بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، ص55» تاريخ الطبري قمة ما وصلت إليه كتابة التاريخ في فترة التكوين. وترجع أهمية تاريخ الطبري إلى أننا نعتبره ممثلاً لفترة التحول بين الكتابة التاريخية القديمة والكتابة التاريخية الجديدة التي تبعته، حيث وصلت الكتابة التاريخية التقليدية مع الطبري إلى ذروتها، ومع ذلك فإنه لا يوجد تصور واضح للمصادر التي اعتمد عليها الطبري.
ويؤكد فؤاد سزكين «تاريخ التراث العربي، مج1، ج2، ص159-160» أن الطبري لم يأخذ مادته في تاريخه من روايات شفوية أو مصادر مدونة متفرقة، لكنه نقل مادته - مثل كل مؤرخي ومُحدِّثي عصره - عن الكتب التي أتيحت له.
ونستطيع اليوم - استناداً إلى علم أصول الحديث ومصادر الطبري التي وصلت إلينا - أن نثبت أن الطبري استمد مادته من كتب كان له حق روايتها، ومن كتب أخرى لم يكن له حق روايتها. وتشير سلاسل الإسناد التي جاء بها إلى حق الرواية كما يتضح من عبارات مثل: حدثنا وأخبرنا وكتب. أما الكتب التي لم يُجَزْ بروايتها فقد قدَّم لمادتها بعبارات منها: قال وذكر وروى وحدثت.
ويعود فؤاد سزكين فيؤكد أن تاريخ الطبري لا يمثل حشداً من الروايات الشفوية أو الأحاديث، بل هي كتب جامعة للكتب التي أتيحت للطبري، والتي كانت قد أُلِّفت في القرنين السابقين عليه، أي في الفترة بين سنة 50 و250هـ على وجه التقريب؛ حيث إنه لم يستخدم - بصفة عامة - كتب معاصريه، وكان ينقل مقتبساته ويأخذها بنصها. ولمراعاة اختلافات النصوص في المصادر المختلفة كان الطبري - مثل أغلب المؤلفين القدماء - يأخذ أخبار الحدث الواحد من جملة مصادر ويثبت نصها.
ودرس جواد علي موارد تاريخ الطبري، وتمكن من الوصول إلى أن الطبري استقى مادته من مصادر مدونة عن طريق الكتب التي وصلت إلينا عند محمد بن إسحاق النديم في كتاب الفهرست، وبذلك فإنه يمكننا الآن إعادة بناء عدد كبير من هذه المصادر اعتماداً على ما جاء عنده من اقتباسات.
ومع ذلك، فهناك انتقادات واسعة يمكن توجيهها إلى الطبري؛ فبالرغم من أنه حاول أن يتناول في كتابه كل التاريخ الإسلامي، فإنه لا يشير إلى مصر أو الشام بالقدر الذي يتناول به تاريخ العراق أو المشرق الإسلامي، كذلك فإنه قد تجاهل تماماً في كتابه تاريخ بلاد المغرب والأندلس، الأمر الذي لاحظه عريب بن سعيد القرطبي (ت: 369هـ/ 979م) الذي كتب كتابه صلة لتاريخ الطبري، استدرك فيه هذا النقص.
ولقد بلغ التأليف التاريخي أوجَّه مع كتاب «تجارب الأمم وتعاقب الهمم» لأبي علي أحمد بن محمد بن يعقوب، المعروف بمسكويه (ت: 421هـ/ 1030م)، وهو عنوان ذو دلالة؛ إذ اعتبر مسكويه - بحسب ما ذكر د. أيمن فؤاد سيد (الكتابة التاريخية ومناهج النقد التاريخي عند المؤرخين المسلمين، ص76) - التاريخ مستودعاً للتجربة الإنسانية، وصراعاً بين الفضيلة والانحراف، وفسره تفسيراً أخلاقياً.
وقد نشأ مسكويه في مدرسة تاريخ الطبري، غير أن مؤهلاته التي مكنته من تأليف كتابه في التاريخ كانت - كما يقول «مرجليوث – Margolouth» (دراسات عن المؤرخين العرب، ص142-143) - أعظم بكثير من مؤهلات سلفه، وكانت لديه ميزة كبيرة في أخبار عصره من معرفته الشخصية بالرجال المشهورين، حيث استمد معلوماته بصفة رئيسية من رجلين بارزين في عصره هما: أبو محمد المهلبي وزير معز الدولة البويهي، وأبو الفضل ابن العميد وزير ركن الدولة البويهي، وكان مسكويه نفسه خازن مكتبة ابن العميد، الأمر الذي مكَّنه من الحصول على المعلومات من مصادرها الأصلية.
ورغم أن مسكويه اعتمد على تاريخ الطبري، فإنه لم يعتمد منهجه؛ فهناك فرق كبير بين طريقة تناول كلٍّ منهما للأحداث؛ فقد كان مسكويه يعلل ويبرر ويستخلص ويستنتج ويعرض ما يورده من أخبار على العقل مع استبعاد ما لا يقبل العقل حتى ولو كان مقدساً، مع التركيز على المصالح السياسية ودورها فيما أطلق عليه التدابير البشرية؛ أي إنه كان حريصاً على التمييز بين ما يمكن أن نطلق عليه السياسة الدينية الشرعية والسياسة الوضعية العقلية.
كذلك فقد أولى مسكويه السياسات الاقتصادية اهتماماً كبيراً باعتبارها العامل المؤثر في السياسة، بل في العمران كله. واعتمد مسكويه كذلك على مصادر فارسية وجدها في مكتبات البويهيين، خاصةً ما يتعلق بعهد أردشير، والسيرة الذاتية لكسرى أنوشروان التي وقف عليها بخطه. وكان هو نفسه شاهداً على كثير من الأحداث التي دوَّنها، وعلى الأخص الفترة من سنة 340 إلى سنة 369هـ، رغم أنه عاش إلى سنة 421هـ/ 1030م.
لا شك أن عبد الرحمن بن خلدون أحد كبار العلماء الذين أثَّروا في تاريخ الإنسانية بآرائه وأفكاره المبتكرة، وبما أنشأه من علوم جديدة كعلم العمران المدني وعلم الاجتماع. واهتم العلماء والدارسون بدراسة أفكاره ونظرياته التي ضمنها مقدمة كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر»، حتى يمكننا القول بأن الفكر التاريخي الإسلامي بلغ ذروته مع ابن خلدون. ومع أن ابن خلدون لم يكن مجرد فيلسوف للتاريخ، بل كان مؤرخاً مثله في ذلك مثل أي مؤرخ مسلم آخر يتوقف ما يسجله عن تواريخ الأمم على إحالته على المصادر السابقة عليه، فلا شك أنه أنموذج لمؤرخ التاريخ الذي هضم معارف عصوره السابقة ومعارف عصره، كما أنه لم يعمد إلى كتابة التاريخ بل إلى إعادة كتابته، وتساءل عن أسباب قيام الدول وسقوطها وعن عوامل تزاحمها وتعاقبها، بحيث إنه لم يقنع مثل المؤرخين السابقين بتجميع النصوص وتصنيفها، بل أعاد تقويم المادة المقدمة ليوجد تركيبة جديدة لها توافق الغرض الذي سعى إليه.
ولن نستطيع تقييم ابن خلدون كمؤرخ ووضع كتابه في مكانه الصحيح بين حوليات التاريخ الإسلامي، إلا بعد دراسة نقدية شاملة للطرق والمناهج التي استخدم بها جميع مصادره التي نقل وأفاد منها في جميع كتاباته التاريخية؛ فإن ابن خلدون يعد واحداً من المؤرخين المسلمين القلائل الذين أشاروا بدقة إلى مصادرهم التي استمدوا منها معلوماتهم، والذين تكثر في الوقت نفسه في كتاباتهم الاقتباسات من العديد من المصادر السابقة.
وقد عرض ابن خلدون في فاتحة مقدمة كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر» للمشكلة الرئيسة للكتاب بشكل مكثف بقوله: «فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال … إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول … وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق».
ثم ينتقل ابن خلدون من وصف خصائص التاريخ إلى وصف خصائص المؤرخين فيقول: «إن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهِموا فيها أو ابتدعوها … واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها وأدوها إلينا كما سمعوها».
أما المؤرخون الذين امتازوا بالأمانة من أعلام الكتابة التاريخية في رأي ابن خلدون فإنهم: «قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل … مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي».
ومن جاء بعد هؤلاء لم يكونوا سوى مقلدين لهم؛ فإنهم - بحسب ابن خلدون - كانوا يوردون الحوادث دون أن يظهروا أصولها ويتحققوا من فصولها؛ ثم جاء بعدهم مؤرخون أفرطوا في الاختصار وأخلُّوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين؛ لذلك عزم ابن خلدون على إنشاء كتاب في التاريخ حاول فيه أن يُظهر أصل العمران والدول مع ذكر أسباب قيامها وانهيارها، ورتَّبه على مقدمة وثلاثة كتب، وجعل المقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها.
ويحدد ابن خلدون في «المقدمة» فوائد فن التاريخ، وأهمها الاطلاع على سير الماضين من الأمم والأنبياء والملوك، والاقتداء بفضلائهم، ولكنه يلاحظ أن المؤرخين لم يكونوا إلا مجرد نقلة عمن سبقهم، يأخذون عنهم الأخبار على علاتها دون التأكد من صحتها وتحكيم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، فضلوا عن الحق، وخاصة في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر.
ويسوق ابن خلدون عدداً كبيراً من الأمثلة يدلل بها على عدم تحري المؤرخين الأخبار عند من سبقهم وافتقادهم إلى النظرة النقدية، وتخدم هذه الملاحظات ما قصده ابن خلدون بباطن التاريخ وهو النظر والتحقيق والتعليل أو بحث أسباب الأحداث والقوانين التي تتحكم فيها، ومن ثم نرى أن ابن خلدون إنما سعى إلى تخليص الكتابات التاريخية من الأخبار الكاذبة، وإنشاء أداة يستطيع بفضلها الباحثون في التاريخ التمييز بين ما يحتمل الصدق وما لا يمكن أن يكون صادقاً من الأخبار المتعلقة بظواهر الاجتماع؛ بحيث يستبعدون ما لا يحتمل الصدق استبعاداً تاماً، وأن تقتصر جهودهم على ما يمكن وقوعه من شئون الاجتماع الإنساني وحوادثه.
وتقوم نظرية ابن خلدون على الشك في المعرفة التاريخية القديمة وفي منهج المؤرخين القائم على الرواية والنقل فحسب، وبما أنه لا يمكن أن يُكتفَى في الدراسات التاريخية بمجرد الرواية بل لا بد من النقد والتفسير والتعليل، نجد أن ابن خلدون - بحسب ما يرى دكتور علي عبد الواحد وافي - يفطن إلى العملية الثنائية من عمليتي النقد التاريخي، وهي التركيب، أي الربط بين مهمة الناقد ومهمة المؤرخ.
ويرى ابن خلدون أن تمحيص الأخبار والروايات لتمييز الصحيح منها من الباطل لا يُكتفى فيه بمجرد نقد الرواة؛ بل لا بد من نقد الرواية نفسها، والتأكد من معقولية مضمون الخبر ومطابقته لما يقره العقل؛ إذ يقول إن تمحيص الخبر: «إنما هو بمعرفة طبائع العمران وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى نعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما ما كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح، ولقد عد أهل النظر من المطاعن في الخبر استحالة مدلول اللفظ أو تأويله إن تُؤوِّل بما لا يقبله العقل … [وإنما] وجب أن ينظر في إمكان وقوعه، وصار ذلك فيها أهم من التعديل ومقدماً عليه».
غير أن ابن خلدون في كتابه العبر لم يسِر فيه وفق المنهج الذي رسمه للمؤرخين في «المقدمة»، ولم يستخدم الطريق الذي نصح لهم باستخدامه لتمييز صحيح الأخبار من كاذبها، بل نقل روايات ضعيفة لا تثبت أمام النقد وليس لها سند موثوق، ومن ثم إذا نظرنا إلى ابن خلدون - بحسب ما يقول المؤرخ الإنجليزي روبرت فلينت (1838-1910م) («تاريخ فلسفة التاريخ - History of philosophy of History PP. 161-162») «كمؤرخ وجدنا من يتفوق عليه من كتَّاب العرب أنفسهم، وأما كواضع لنظريات في التاريخ فإنه منقطع النظير في كل زمان ومكان».
وإذا كان ابن خلدون لم يستطِع أن يطبق نظريته في الجزء التاريخي من كتاب «العبر»، فإن تلميذه المؤرخ المصري الشهير تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (766-845هـ/ 1365-1442م) كان أكثر تلاميذ المدرسة التاريخية التي أسسها ابن خلدون في مصر، بعد انتقاله إليها واستقراره بها سنة 784هـ/ 1382م، استفادت منه في مجال التاريخ، وخاصة التاريخ العمراني والاقتصادي والاجتماعي، وإسهامات المقريزي من الكثرة بحيث تستحق مقالاً منفرداً.