جاريث بيل هرب، شدَّ شدَّ هرب!
في نهائي كأس كوبا ديل راي عام 2014، مرَق الجناح الويلزي كالسهم، مخترقًا الرواق الأيسر، مجاوزًا المدافع بسرعةٍ جنونية، محرزًا هدف الفوز للنادي الملكي أمام برشلونة في آخر الدقائق.
في سكرة الهدف الجميل انبرى بعض المهتمين بالإحصاءات لمنح تلك السرعة الخاطفة سياقًا رقميًّا، فقدروا أن سرعة بيل في هذا الهدف بلغت معدلًا مقاربًا جدًّا للرقم القياسي المسجل باسم العدَّاء الجامايكي الأشهر يوسين بولت، الذي حُقِّق في سباق 100 متر في بطولة العالم عام 2009.
مثل تلك المقاربات، إن صحَّت، تفتح بابًا أمام سؤالٍ شرعي له وجاهة، حتى إن عدَّه المختصون في كلا الرياضتين ساذجًا؛ إذا كان لاعبو كرة القدم يسجلون أرقامًا قياسية في السرعة تقترب في بعضها من أرقام قياسية لعدَّائين تاريخيين؛ فما المانع من تبادل الأدوار؟ ما المانع أن يربح «مبابي» مثلًا ميدالية ذهبية في سباق 100 متر، وأن يصير «يوسين بولت» جناحًا خارقًا في الملعب؟
عام 2021 أنشأت شركة Skill Corner نموذجًا لقياس سرعة الركض القصوى للاعبي البريميرليج، وسجل مدافع توتنهام الهولندي ميكي فان دي فين، أسرع انطلاقة على النموذج منذ إنشائه، في مباراة فريقه أمام برينتفورد في شهر يناير الموسم الحالي.
وحسب الموقع الرسمي للبريميرليج؛ فإن سرعة فان دي فين، بلغت 10.38 متر في الثانية أو ما يعادل 23.23 ميل في الساعة، وهو رقم قريب جدًا من الرقم القياسي للعداء الجامايكي يوسين بولت الذي بلغ متوسط سرعته 10.44 متر في الثانية، أو ما يعادل 23.58 ميل في الساعة.
قد يجد البعض صعوبة في إدراك الفارق بين سرعة العدّاء وسرعة لاعب كرة القدم، فالسرعة عندهم مطلقة، فكلاهما يركض للأمام، في ميدان مهيأ للركض، فما الفارق بين ميكي وبولت؟
يوضح جوناس دودو، الذي عمل مدربًا للجري لصالح أندية أرسنال وليستر والاتحاد الإنجليزي، أن اللاعب الذي يمكنه الركض بسرعة بين 10.2 و10.5 متر في الثانية يعد من صفوة لاعبي كرة القدم، في حين أن ذلك المعدل هو الشائع في صفوة العدائين من فئة السيدات.
ولا يعد ذلك انتقاصًا من لاعبي الكرة؛ لأن وظيفتهم ليست الركض، وإنما لعب الكرة، فالعداء الذي يركض بسرعة كبيرة (sprint) لمسافة 100 متر مرة واحدة؛ سيفعل ذلك ثم يستريح بعدها. بينما أثبتت دراسة صدرت عام 2021 عن مركز البحوث الصحية بجامعة ألميريا الإسبانية، أن لاعب كرة القدم يركض بسرعة كبيرة بمعدل عشر مرات في المباراة الواحدة، قد تصل إلى 16 مرة للأجنحة، وتنخفض إلى خمس مرات للاعبي خط الوسط.
ذلك الاختلاف بين طبيعة الرياضتين، وبالتالي غرض الركض؛ يؤدي إلى اختلاف طرق التهيئة الجسدية والنفسية والتمارين اللازمة لكليهما.
فكما يوضح جاسون جاردنير، العداء الحاصل على ذهبية أولمبياد 2004 في سباق التتابع (4×100)، أن العدّاء يركض في خط مستقيم بسرعة ثابتة، أما لاعب الكرة فنادرًا ما يتحرك في خط مستقيم، وإنما حركة للأمام وأخرى للأطراف ثم الارتداد والعودة للخلف، بالكرة أو بدونها، وهكذا.
ذلك الاختلاف في أنماط الركض يمنح الأرقام والمعدلات سياقًا آخر، لا يمكن إغفاله أو إبقاؤه على الهامش.
حتى الآن لا يوجد دليل مادي قوي يمنع تبادل الأدوار المزعوم، فماذا يعوق بولت أو أي عداء أولمبي محترف أن يصير جناحًا خارقًا مثل مبابي ورونالدو؟
عام 2011 أنتجت شركة كاسترول إيدج فيلمًا وثائقيًّا يختبر القدرات البدنية والذهنية للنجم البرتغالي كريستيانو رونالدو، أحد تلك الاختبارات كان سباق سرعة بين رونالدو والعداء الإسباني الأولمبي، أنخيل دافيد رودريغيز.
أُجري السباق على مرحلتين؛ الأولى للركض لمسافة 30 مترًا في خط مستقيم، والثانية لركض المسافة نفسها في مسار منحنٍ. كسب رودريغيز الأولى بفارق 0.3 ثانية، وكسب رونالدو الثانية بفارق يقترب من نصف الثانية.
يفسر توني كلارك، مدرب الركض الذي عمل مع بعض لاعبي البريميرليج مثل فيل فودن، تلك النتيجة بالرجوع لمفهومي التسارع والإبطاء، فلاعب كرة القدم يمكن أن يركض لعشرة أمتار، ثم تتباطأ سرعته تمامًا، وينحرف مساره لاتجاه آخر، بينما العداء المحترف لا يمتلك تلك المهارة.
انعكس ذلك على الطريقة التي ركض بها رونالدو ورودريغيز في المسار المنحني، نجد رونالدو يقفز بكلتا قدميه عند الانحناءات مستخدمًا إحداهما كابحًا، والأخرى محفزًا لانطلاقة جديدة في وضعية أفضل، وهو ما وفر له أجزاءً من الثانية، على عكس رودريغيز الذي يستخدم القدم نفسها للوقوف ثم الانطلاق مرة أخرى.
خروجًا من نطاق التجارب المعدَّة سلفًا ونزولًا للملعب، فلحسن الحظ أننا نمتلك تجربة واقعية، حاول فيها بولت العدَّاء الأشهر على الإطلاق، لعب كرة القدم على مستوى احترافي بعض الشيء.
عاد لبولت بعد الاعتزال شجن قديم، ورغبة في لعب كرة القدم للنادي الذي أحبه منذ الطفولة؛ مانشستر يونايتد، على إثره التحق لفترات قصيرة بأندية ماميلودي صن داونز وبروسيا دورتموند وغيرها، من أجل الحصول على حصص تدريبية احترافية، قبل أن يستقر به المقام في نادي سنترال كوست مارينرز في الدوري الأسترالي.
تجربة لم تستمر لأكثر من شهرين؛ أدرك معها بولت أن كرة القدم ليست له، وأن من الأفضل له وللشياطين الحمر أن يبقى في صفوف المشجعين.
أدرك بولت أن تلك الرياضة لا تحتاج لسرعته الخارقة؛ فنادرًا ما اضطر للركض لمسافة تصل إلى 50 مترًا، بل على النقيض عانى من مشكلات العدَّائين مع التباطؤ الضروري للضغط والتسديد والمراوغة وغيرها.
لم يكن بولت لاعبًا جيدًا كما كان يعتقد، ولم يكن لسرعته أي قيمة بمصطلحات كرة القدم، سيخبرك ذلك بنفسه. إنه يحتاج لـ 20 أو 30 ياردة، حتى يصل إلى سرعته القصوى، ولا تتاح لك تلك المساحة في ملعب كرة القدم.
— روس ماكورماك، لاعب اسكتلندي لعب بجوار بولت
يختلف ديل بوسكي المدرب الذي حقق بطولة كأس العالم 2010 وبطولة اليورو 2012 مع المنتخب الإسباني، مع الإهمال التام لسرعة بولت في كرة القدم، ويدَّعي أنها تحتاج فقط للتوظيف المناسب. فإذا كان الفريق يعتمد في أسلوب لعبه على الهجمات المرتدة والتحولات السريعة واستغلال المساحات؛ فإن بولت سيكون خيارًا جيدًا.
لكن تلك التحليلات تغفل أمرًا غاية في البداهة؛ أن بولت دخل تلك التجربة بعمر 32 عامًا، بعد عقودٍ من الركض لا بد أنها أخلَقت قدميه. مع غياب الحد المطلوب من أساسات ومهارات كرة القدم، في مركز هجومي كالجناح، يتطلب حدة في الاستلام والمراوغة والتسديد، والتحرك بسرعة عالية بالكرة، ودخول منطقة الجزاء لمقابلة الكرات العرضية في التوقيت المناسب، والتباطؤ الذي سبق ذكره. وكلها مهارات لم يكن يجيدها بولت بحد يؤهله لممارسة الكرة على مستوى احترافي تنافسي.
إن لم تمارس كرة القدم منذ نعومة أظفارك وتشحذ مهاراتك وأسلوبك؛ فسيكون من الصعب جدًا بل من المستحيل أن تنتقل في سن متقدمة إلى رياضتنا هذه، وتلعب في أعلى المستويات!
— آنجي بوستيكوجلو، مدرب توتنهام الحالي
على الجانب الآخر لدينا تجارب عديدة للاعبين تحولوا إلى مضامير الجري، أكثرهم شهرة آدم جيميلي، الناشيء في صفوف نادي تشيلسي، الذي قرر عام 2012 أن يصبح عدَّاءً ليربح بعد عامين بطولة أوروبا 200 متر، ويكون ضمن الفريق الذي ربح ذهبية بطولة العالم في سباق التتابع (4×100) عام 2017.
سُئل بولت إذا ما كان بإمكان مبابي أن يسبقه في سباق 100 متر، وأجاب مازحًا بالنفي القاطع، وسئل مبابي عن ذلك، فأجاب جادًّا بالنفي القاطع أيضًا. ربما اتفق الرجلان انطلاقًا من الاحترام المتبادل بينهما كاثنين من وجوه الرياضتين اللتين يمثلانهما، أو ربما لأن كلا الرجلين قد فهم معضلة السرعة فهمًا عميقًا.