يقع وادي الحجير في الجنوب اللبناني في قلب مثلث رؤوسه هي مناطق مرجعيون وبنت جبيل والنبطية، ونظراً لأهمية الوادي الطبيعية والتراثية، فقد أعلن عنها بوصفها محمية طبيعية في عام 2010. وتمتد هذه المحمية من الشمال إلى الجنوب من مجرى نهر الليطاني في قاقعية الجسر أسفل مدينة النبطية، وصولاً إلى بلدة عيترون في منطقة بنت جبيل.
ارتبط اسم هذا الوادي في الجنوب اللبناني بواحدة من أبرز الحروب في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، وهي حرب يوليو 2006 التي تعرف في الغرب وإسرائيل باسم حرب لبنان الثانية. اندلعت الحرب يوم 12 يوليو 2006 بعدما شن مقاتلو حزب الله هجوماً على دورية إسرائيلية أسفر عن مقتل ثمانية جنود إسرائيليين، وأسر اثنين من المصابين (توفيا في الأسر لاحقاً).
على الفور، شنت إسرائيل هجوماً واسعاً ضد لبنان، كان بنك أهدافه معداً مسبقاً، وكان عماده القصف الجوي والصاروخي الذي دمر عديداً من البنى التحتية اللبنانية لا سيما الطرق والجسور والمطارات والموانئ، وألحق دماراً واسعاً بمعاقل حزب الله في لبنان لا سيما الضاحية الجنوبية لبيروت وقرى وبلدات الجنوب اللبناني.
على مدار أكثر من شهر، لم يتوقف القصف الوحشي الذي راح ضحيته قرابة ألف ونصف لبناني جلهم من المدنيين والنساء والأطفال، ودمرت عشرات الآلاف من المنازل والمرافق العامة والخاصة، ورد الحزب بإطلاق أكثر من 100 صاروخ في الأقل يومياً على شمال فلسطين المحتلة، مما أسفر عن نزوح كثير من سكان الشمال إلى وسط وجنوب إسرائيل، وسقوط العشرات من القتلى من المستوطنين في حيفا وعكا ونهاريا وغيرها من مدن الشمال.
لم ينجح القصف الوحشي جواً وبحراً وبالمدفعية في إيقاف إطلاق الصواريخ على شمال الكيان المحتل، ولذا اضطر القيادة الإسرائيلية إلى الشروع في توغلات برية في الجنوب اللبناني بدأت يوم 22 يوليو 2006، وشهدت بعض بلدات الجنوب اللبناني القريبة من الحدود مثل بنت جبيل ومارون الراس، ملاحم صدامية عنيفة، بين القوات الإسرائيلية ومقاتلي حزب الله وبعض المتطوعين اللبنانيين من فصائل أخرى مثل حركة أمل والشيوعيين والحزب القومي السوري.
تعرض لواء النخبة الإسرائيلي جولاني لعدة كمائن دموية، في بنت جبيل، أسفر أحدها عن مقتل ثمانية من جنوده وضباطه خلال بضع ساعات، وذلك رغم الدمار الواسع الذي ألحقه القصف بالمدينة، الذي ظن العدو أنه كان كافياً لإسكات بؤر المقاومة داخل المدينة.
يقول آلان بيلليغريني قائد قوات يونيفيل في لبنان إبان حرب 2006، في كتابه «صيف من نار في لبنان»:
«مر أكثر من أسبوعين على الشروع في العمليات العدائية، ولم يتمكن الجيش الإسرائيلي حتى من الاستيلاء على خط الدفاع الأول لحزب الله. ولم يستطع الطيران -على رغم معدل 400 طلعة في اليوم- وقف إطلاق الصواريخ».
طوال أيام شهر يوليو 2006 اللافحة، شهدت محاور التقدم في الجنوب اللبناني اشتباكات عنيفة بين المقاومة اللبنانية والقوات الإسرائيلية المتوغلة، التي كانت تتقدم ببطء، تحت بعض المناطق المفتوحة، وأجزاء من البلدات الجنوبية المدمرة، من دون أن تنجح في القضاء التام على جيوب المقاومة فيها.
كثيراً ما أتاحت الأنفاق والبنى التحتية في بطن الجنوب اللبناني الفرصة لمقاتلي حزب الله أن ينفذوا عمليات التفافية ضد قوات العدو المتوغلة، وإطلاق الصواريخ صوب شمال إسرائيل من مناطق اعتقد العدو أنه قد أحكم السيطرة عليها فوق الأرض.
صباح كل يوم جديد من أغسطس 2006، تصاعدت لدى الإسرائيليين ما يمكن أن نسميها حمى الوصول إلى نهر الليطاني، لتحقيق نصر عسكري وسياسي ولو رمزي. ولذا ركزوا جهدهم في تلك الأيام الحاسمة على الجزء الشرقي من الجنوب اللبناني الملاصق لإصبع الجليل شمال فلسطين المحتلة، حيث يمتاز هذا الجزء بوجود أقصر مسار يمكن أن يؤدي إلى نهر الليطاني، وهذا المسار يحتاج إلى عبور وادي السلوقي، فوادي الحجير، وبعده يوجد الليطاني بعد بضعة كيلومترات.
أطلق العدو على تلك العملية البرية الواسعة في المحور الشرقي اسم عملية تغيير الاتجاه 11، وسبب هذا الاسم أن تفاصيل العملية تعرضت لتغيير وتبديل 11 مرة، منذ اندلاع الحرب وحتى يوم التنفيذ.
اعتمد مجلس الوزراء الإسرائيلي تنفيذ العملية بعد اجتماع طويل وعاصف يوم 9 أغسطس، شهد مشادات عنيفة بين بعض الوزراء. خصصت إسرائيل لتنفيذ العملية أربعة ألوية وقرابة 30 ألف جندي وضابط. وكانت الخطة الطموحة تقضي بعد النجاح في احتلال وادي السلوقي ووادي الحجير شرقاً والوصول إلى الليطاني، أن تندفع القوات المدرعة الإسرائيلية باتجاه الغرب صوب ساحل البحر ومدينة صور الساحلية المهمة جنوبي لبنان، وبذلك تكون قد طوقت الجنوب اللبناني من الشرق إلى الغرب، وعزلت منطقة جنوب الليطاني بالكامل عن شماله.
يقول قائد فصيلة دبابات إسرائيلية شارك في معركة وادي الحجير، في حديث له لقناة «i24» الإسرائيلية، في وثائقي عن الذكرى العاشرة لحرب 2006:
«لقد استمرت المعركة ثلاثة أيام، ولا أزال حتى الآن أتذكر كل شيء. كل ساعة، وكل تفصيلة صغيرة في تلك المعركة، إنها دائماً في رأسي، وفي رأس كل من شارك فيها. لقد انتحر اثنان من زملاء وحدتي العسكرية بعد نهاية الحرب. لا أنسى مشهد زملائي بعد وقف إطلاق النار عندما عبرنا الحدود إلى إسرائيل، عندما ألقينا أغراضنا أرضاً وانخرط أغلبنا يبكون في انهيار».
بين يومي 8 و10 أغسطس اقتحم اللواء 336 الإسرائيلي بلدة مرجعيون المحورية ذات الغالبية المسيحية، التي تقع على بعد أقل من أربعة كيلومترات من الليطاني، ولكن لم يخلُ هذا من مقاومة شرسة من قبل مقاتلي حزب الله ومعهم متطوعون من الحزب القومي السوري الاجتماعي، أسفرت عن إعطاب وتدمير سبع دبابات من أصل 21 هاجمت مرجعيون.
منذ مساء الجمعة 11 أغسطس 2006، تقدمت دبابات الميركافا-4 الحديثة من اللواء 401 المدرع في وادي السلوقي ووادي الحجير المتفرع منه، مدعومة بوحدات من لواء النخبة ناحال، أنزلت جواً في منطقة الغندورية القريبة جداً من الليطاني.
كان الهدف احتلال مناطق مرتفعة لتأمين عبور الدبابات صوب الليطاني، وكان عبور مثل هذا الوادي الصاعد، الذي تشرف عليه عديد من المرتفعات الجبلية هو مقامرة إسرائيلية كبرى.
تذكر صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية في أحد مقالاتها عن تلك المعركة، أن أكثر من 100 مقاتل من حزب الله، مسلحين بصواريخ الكورنيت الروسية الموجهة المضادة للدروع، كانوا على المرتفعات المشرفة بانتظار وصول الدبابات الإسرائيلية.
وفقاً للإعلان الرسمي الإسرائيلي، فقد أدى وابل الصواريخ المضادة للدروع التي أطلقها مقاتلو الحزب ضد القوات الإسرائيلية في وادي السلوقي إلى مقتل 12 جندياً وضابطاً إسرائيلياً، منهم ثمانية من طواقم الدبابات التي دمرت والتي بلغ عددها في أوسط التقديرات 11 دبابة، وأصيب قرابة 50 جندياً وضابطاً. وكان من بين القتلى أربعة في الأقل من قوات لواء النخية ناحال الذي نقل جوا، والذي تعرض لهجمات بقذائف الهاون والأسلحة الرشاشة والقذائف الصاروخية، مما عطله عن إسناد الدبابات وتأمين المرتفعات المشرفة على مواقع عبورها.
تذكر المصادر المحسوبة على حزب الله أن مقاتليه في هذا الوادي قد دمروا ما لا يقل عن 40 دبابة وجرافة إسرائيلية، وقتلوا أكثر من 22 جندياً وضابطاً وأصابوا قرابة 110 آخرين.
ذكرت المصادر الإسرائيلية أن قواتهم في معركة وادي الحجير قتلت قرابة 80 من مقاتلي حزب الله، بينما ذكر الحزب أن عدد شهدائه في المعارك مع قوات الإنزال الجوي في الغندورية، ومع الدبابات الإسرائيلية في وادي السلوقي والحجير، لم يزد على تسعة شهداء فحسب.
وتكريساً لإفساد لحظة الانتصار التي أرادها العدو بالعملية البرية الواسعة، أطلق حزب الله في الـ24 ساعة الأخيرة في الحرب، قبل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ صباح 14 أغسطس، أكثر من 250 صاروخاً على شمال الكيان المحتل، وكان هذا من أعلى معدلات إطلاق الصواريخ اليومية خلال الحرب، وأطلق بعض الصواريخ من مسافة كيلومتر واحد من الحدود قرب مستوطنة المطلة في إصبع الجليل. وشرعت القوات الإسرائيلية في الانسحاب جنوباً بعد وقف إطلاق النار.
كان من نتائج تلك المعركة في وادي الحجير والخسائر الكبيرة في دبابات الميركافا-4، أن شرع العدو في السنوات التالية في تحديثها وتطويرها وزيادة تدريعها، وتزويدها بمنظومة معطف الريح (تروفي) المضادة للصواريخ والقذائف.
وكان مما أعان حزب الله في تلك الحرب على توجيه ضربات مؤلمة للعدو الإسرائيلي في كافة المحاور، إلى جانب شبكات الأنفاق والخنادق الموزعة في مناطق حيوية واستراتيجية في الجنوب اللبناني ذي التضاريس المواتية للمدافعين، انتظام قدرات الاتصالات بين قياداته ووحداته على الأرض.
شهد العدو والصديق والمحايد لقدرات حزب الله في التجسس والرقابة والاتصال خلال هذه الحرب، ففي مذكراته المعنونة «بصيف من نار في لبنان»، يروي الجنرال الفرنسي آلان بيلليجريني، الذي كان قائد قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان يونيفيل إبان حرب 2006، كيف أن حزب الله أقام كثير من الأنفاق والتحصينات الحدودية تحت الأرض، ومواقع التجسس الأمامية المخفية جيداً بطول الحدود، للمراقبة المباشرة بالكاميرات، وللتصنت على الاتصالات اللاسلكية، والهواتف الجوالة، للجنود والضباط الإسرائيليين، مما منحه دائماً السبق في كشف تحركات إسرائيل وخطواتها الهجومية.
بينما امتلك حزب الله شبكة اتصالات سلكية تقليدية، يتعذر التجسس عليها إلكترونياً، وتغطى كل مواقعه في الجنوب اللبناني، وتتصل بقيادته شمالاً. هذه هي الشبكة التي احتل حزب الله من أجلها بيروت في السابع من مايو 2008 عندما أصدرت الحكومة اللبنانية قرارا بتفكيكها، فهي بالنسبة إليه خط أحمر استراتيجي.
إسرائيلياً، لا تزال تلك المعركة الحاسمة تثير الجدل والنقاشات الحامية، بين من يعدونها أكبر أخطاء إسرائيل في الحرب برمتها، ومن يرون أن تلك العملية البرية رغم خسائرها قد حسنت موقف إسرائيل التفاوضي، وجعلت مجلس الأمن يصدر القرار 1701 الذي أوقف الحرب، وحقق لإسرائيل بعض أهدافها مثل انسحاب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني (رأينا في الحرب الحالية 2023/2024 أن هذا المكسب نظري وليس عملياً، فعندما انخرط حزب الله منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في الاشتباك مع المواقع الحدودية الإسرائيلية، لم يمنع عن هذا لا القوات الدولية ولا الجيش اللبناني ولا إسرائيل).
هكذا انتهت تلك الحرب بثمن إنساني كبير على لبنان كدولة وكشعب وعلى الحاضنة الشعبية المؤيدة لحزب الله، لكن أيضاً بحصاد غير قليل من الألم للكيان الصهيوني، فقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية ذائعة الصيت يوم 15 أغسطس (آب) 2006 تحت عنوان الحرب في أرقام، جدولاً بخسائر إسرائيل المعلنة رسمياً، ورد فيه أنها فقدت 117 جندياً قتيلاً و39 مدنياً قتيلاً، وسقط لها خمسة آلاف جريح من العسكريين والمستوطنين، وتضرر بصورة جزئية أو كلية قرابة 12 ألف منزل، وأحرق ما يصل إلى ثلاثة أرباع مليون شجرة نتيجة اشتعال النيران في غابات الجليل شمال فلسطين المحتلة بفعل صواريخ المقاومة اللبنانية، وبلغت خسائرها المادية قرابة ستة مليارات دولار.
تخبرنا التهديدات الإسرائيلية المتكررة على مدار أشهر الحرب الحالية أن هناك تردداً كبيراً لدى الحكومة الإسرائيلية ولدى قيادات الجيش الإسرائيلي المنهك في غزة، في خوض مغامرة كبرى في لبنان، وكذلك لا تريد الولايات المتحدة حليفة إسرائيل وشريكتها وراعيتها مثل تلك الحرب المفتوحة، أن تجر المنطقة إلى مواجهة إقليمية كارثية بنكهة حرب عالمية.
لكن المعضلة أن كافة الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية على مدار 10 أشهر لم تنجح حتى الآن في فصل حزب الله عن المقاومة في غزة وعقد اتفاق أحادي معه، ولا يزال الحزب يشترط وقف إطلاق النار في غزة أولاً.
لذا، فلا شيء مستبعد في الأيام والأسابيع القادمة، لا سيما وفي قيادة الكيان الصهيوني مقامر سياسي محترف مثل بنيامين نتنياهو، يريد أن تستمر حالة الاستنفار والحرب الحالية لأشهر قادمة أو لسنوات، حتى يمحو ما استطاع من آثار هزة السابع من أكتوبر المزلزلة، وعله بمرور الوقت يحقق بعض الإنجازات الكبيرة مثل اغتيال القيادات الكبرى للمقاومة في غزة كالسنوار والضيف أو مزيد من قيادات حزب الله الرئيسة أو الوصول إلى الأنفاق الاستراتيجية الكبرى أو تحرير بعض الأسرى العسكريين المهمين أو دفع حزب الله عسكرياً للانكفاء شمالاً بعيداً من الحدود الفلسطينية اللبنانية. فتكون مثل هذه الإنجازات درعه ضد عواصف المحاسبة التي لا شك ستأتي على كوارث التقصير السياسي والأمني والاستخباري في السابع من أكتوبر.
ولا بد من الانتباه إلى أنه إذا وقعت تلك الحرب الشاملة الواسعة، فستكون معركة وادي الحجير 2006 ما ليست إلا اشتباكاً يومياً معتاداً في يوميات تلك الحرب المستقبلية المحتملة.