مجتمع

معركة كورسك 1943: تاريخ صنعته فوهات الدبابات

تتسم بعض الأماكن بحمولة تاريخية ثقيلة لأنها شهدت وقائع فاصلة في المواجهات الكبرى التي أعادت تشكيل العالم، ومنطقة كورسك الروسية تستحق أن توضع بينها.

future القوات السوفيتية من جبهة فورونيج تشن هجوماً مضاداً خلف دبابات تي-34 في بروخوروفكا أثناء معركة كورسك

تتسم بعض الأماكن بحمولة تاريخية ثقيلة لأنها شهدت وقائع فاصلة في المواجهات الكبرى التي أعادت تشكيل الإقليم والعالم، ومنطقة كورسك الروسية تستحق أن توضع بين تلك الأمكنة.

تصدرت كورسك عناوين الأخبار العالمية منذ السادس من أغسطس 2024 الحالي، عندما أقدمت القوات الأوكرانية بشكل مفاجئ على اقتحام الحدود الروسية انطلاقاً من منطقة سومي شمالي أوكرانيا، باتجاه مقاطعة كورسك الروسية. خلال الأسبوع الأول من غزو كورسك نزح قرابة 200 ألف روسي من مناطقهم، وادعى الجيش الأوكراني أن قواته سيطرت حتى الآن على قرابة ألف كم مربع من مقاطعة كورسك الروسية.

يُعيدنا اسم كورسك إلى واحدة من أضخم معارك التاريخ الإنساني، ولعلها الأهم في الحرب العالمية الثانية، وهي معركة كورسك في صيف عام 1943، والتي عادة ما تُوصف بأكبر معركة دبابات في التاريخ (وإن شكَّك بعض المؤرخين والباحثين لاحقاً في هذا الوصف)، والمفارقة أن الروس الذي قلبوا الموازين ضد الألمان في كورسك قبل 81 عاماً، يحاول الأوكرانيون الآن ومن خلفهم الولايات المتحدة والغرب أن يُذيقوهم من الكأس نفسها، مع الفارق الهائل بين المعركتين والوضعين، وتشكك العديد من المراقبين في الجدوى الاستراتيجية للمخاطرة الأوكرانية الحالية في كورسك.

والآن نعود أكثر من ثمانية عقود إلى الوراء، من معركة كورسك الحالية التي لا تزال تتأرجح وهي في علم الأقدار، إلى معركة كورسك الأولى التي أثبت التاريخ أنها كانت بالفعل حاسمة وفاصلة وغيرت مجراه إلى الأبد.

الطريق إلى كورسك

بانتهاء معركة ستالينجراد في فبراير عام 1943 بانتصار الروس واستسلام الجيش السادس الألماني، بعد مقتل وإصابة وأسر قرابة ثلاثة أرباع مليون من الألمان وحلفائهم في تلك المعركة الكبرى، بدا أن حظوظ ألمانيا الهتلرية انقلبت في الجبهة الشرقية خاصة، وفي الحرب العالمية بوجه عام، لا سيما وهزائم الألمان في 1942 - 1943 لم تقتصر على ستالينجراد.

فقد خسر الجنرال الألماني الأشهر روميل - ثعلب الصحراء - معركة العلمين الشهيرة ضد الحلفاء، الذين نجحوا في إخراج الفيلق الأفريقي الألماني من شمال أفريقيا، وأصبحت عيونهم على مناطق أوروبا التي يحتلها النازي. لكن لم يتخلَّ الألمان عن أحلامهم بعد، وقرروا محاولة استعادة المبادرة بأي ثمن، وفي الجبهة الشرقية تحديداً؛ لأنها الأخطر على ألمانيا لكونها الأقرب إلى برلين، عاصمة الرايخ الثالث.

بعد أسابيع من الهزيمة في ستالينجراد، حشد هتلر قوة ضاربة مكونة من مئات الآلاف من الجنود الألمان الذين قاربوا على المليون، يدعمهم الآلاف من أحدث ما أنتجته الماكينات الألمانية من الطائرات والدبابات، لا سيما دبابة تايجر، الأحدث والأقوى في العالم آنذاك. كان الهدف هو ما كان يُعرف بجيب كورسك الواقع على بعد 500 كم في اتجاه الجنوب الغربي من العاصمة الروسية موسكو. وكان جيب كورسك هو نتوء سوفييتي داخل خط الجبهة الشرقية في عمق الخطوط الألمانية بامتداد قرابة 160 كم، ويبلغ طوله من الشمال إلى الجنوب 240 كم، وتقع مدينة كورسك الروسية في القلب من هذا النتوء.

خريطة لـ جيب كورسك

في تلك لمنطقة المُستهدَفة، حشد الروس قوة ضاربة تضم قرابة مليوني جندي وضابط، يحتمون بأربعة خطوط دفاعية من المواقع المُحصَّنة وحقول الألغام والمدافع المضادة للدبابات. خطط الألمان للإطباق من الشمال ومن الجنوب على القواعد الخلفية للقوات الروسية في جيب كورسك، وذلك لقطع إمداداتها، وعزلها عن باقي الأراضي السوفييتية، والقضاء عليها قضاءً مبرماً أو إجبار الخمسة الجيوش الروسية المحصورة فيها على الاستسلام، وبالتالي الحصول على مئات الآلاف من الأسرى لاستخدامهم كعمالة إجبارية في المصانع الحربية الألمانية، والتي بدأت تعاني من نقص القوة البشرية مع تصاعد الخسائر الألمانية على جميع الجبهات.

رجح التفوق الاستخباري للحلفاء الكفة مبكراً لصالح الروس، فقبل أسابيع من بدء الهجوم المضاد الألماني الذي أُطلق عليه اسم «عملية الحصن - Citadel»، كانت الاستخبارات البريطانية قد نقلت لحليفتها السوفييتية معلوماتٍ بالغة الأهمية عن تفاصيله واتجاهاته، بعد نجاحها في فك شفرة المراسلات الألمانية (إينيجما) دون أن يعرف الألمان. وبذلك فقد الألمان عنصر المفاجأة، الذي كان يمثل لهم أكثر من شطر الانتصار.

كثَّف السوفييت حشودهم واستعداداتهم لامتصاص الضربة الألمانية الأولى، ثم أخذ زمام المبادرة، والقيام بهجمات مضادة، وخدمهم الألمان كثيراً عندما تأخروا لأسابيع في بدء الهجوم انتظاراً لإنتاج المزيد من دبابات بانثر وتايجر.

جحيم كورسك

وُضِعت القوات الألمانية في الجبهة الشرقية تحت إمرة القائد الألماني العسكري الفذ إريك فون مانشتاين، والذي قاد في ربيع 1943 بعض الانتصارات التكتيكية للألمان في منطقتي بلغورود الروسية وخاركيف الأوكرانية القريبتين من جيب كورسك. بذل فون مانشتاين جهداً مضاعفاً لإقناع هتلر باستغلال تلك التقدمات وشن الهجوم الكبير على كورسك قبل أن يستعيد السوفييت التوازن ويحشدوا المزيد من العدد والعتاد.

مساء الخامس من يوليو 1943 هاجم أكثر من 600 ألف جندي ألماني مدعومين بأكثر من ألفي دبابة جيب كورسك من الشمال والجنوب بشكل متزامن، بينما تمركز أكثر من مائة 100 جندي ألماني إلى الغرب بطول جبهة المواجهة كاحتياطي استراتيجي للمعركة. لكن قبل بدء الهجوم بساعات، ونتيجة الاختراق الاستخباري لصالح السوفييت، وجهت المدفعية الروسية ضربات مركزة استباقية ضد الحشودات الألمانية حول كورسك، فسببت لها خسائر فادحة، ولعل هذا عجل ببدء الهجوم الألماني قبل المزيد من الاستنزاف للقوات، فتقدم المشاة الألمانيون صوب الخط الدفاعي السوفييتي الأول، ونجحوا بصعوبة في احتلال بعض المواقع المُشرِفة، ونصبوا المدافع الثقيلة فوقها لاستهداف المواقع الروسية، بينما ردَّ السوفييت بقصف القوات الألمانية المتوغلة بالمدفعية، وأمطروها برشقات صواريخ الكاتيوشا التي كانت سلاحاً مذهلاً آنذاك.

حاول السوفييت أيضاً توجيه ضربة جوية للمطارات الألمانية القريبة من الجبهة لتقليل فاعلية الإسناد الجوي الألماني لقوات التوغل في كورسك، لكن كانت نتائج الضربة السوفييتية محدودة، وخسر الروس 200 طائرة حربية، بينما خسر الألمان أقل من 30.

في المحور الشمالي لجيب كورسك، توغل الفيلق التاسع الألماني لأكثر من 10 كيلومترات في اليوم الأول، لكن تباطأ التقدم الألماني لضراوة المقاومة السوفييتية - رغم الخسائر البشرية الفادحة – لا سيما في بلدة بونيري، والتي شهدت حرب مدن من منزل إلى منزل، وتمكَّن الألمان بصعوبة من السيطرة عليها لساعات، قبل أن يدفعهم الهجوم المضاد الروسي للانسحاب منها. توقَّف التقدم الألماني بشكل شبه تام بحلول العاشر من يوليو في القاطع الشمالي من الجبهة.

أما في المحور الجنوبي، فقد كان الاختراق الألماني أكثر نجاحاً، ووصل في ذروته إلى ما يقارب 50 كم، وتمكَّنت المشاة والدبابات الألمانية من الوصول إلى الخط الدفاعي السوفييتي الثالث، موقعين عشرات الآلاف من القتلى والجرحى في صفوف المدافعين السوفييت.

لكن بحلول يوم 12 يوليو تمكَّنت القوات السوفييتية من إيقاف التقدم الألماني، فقد تعرضت الدبابات الألمانية لخسائر فادحة نتيجة الوسائل العديدة المضادة للدبابات التي حضرها الروس، لا سيما الألغام المضادة للدبابات، وقذائف المدفعية الخارقة للدروع، وكذلك الاندفاع الهجومي المضاد من قبل القوات المدرعة الروسية المتعجلة لدحر الهجوم الألماني، فشهدت الحرب في جبهات جيب كورسك عدداً من كبريات معارك الدبابات في التاريخ الإنساني، تصادم خلالها ما يقارب خمسة آلاف دبابة سوفييتية وثلاثة آلاف دبابة ألمانية.

في هذا السياق، وقعت موقعة بورخوروفكا يوم 12 يوليو، على بعد قرابة 80 كم جنوب شرق مدينة كورسك، حيث تمكَّنت خمسة ألوية مدرَّعة روسية مدعومة بالمدفعية من إيقاف هجوم كتائب الدبابات الألمانية الساعية لاحتلال بلدة بورخوروفكا الحيوية، لكن كان ثمن هذا النجاح باهظاً، فقد خسر الروس الآلاف من القتلى، والمئات من دباباتهم. وقد اعتُبرت موقعة بورخوروفكا من أضخم معارك الدبابات في التاريخ، وإلى اليوم لم تقع مواجهات كبرى بالدبابات تنتزع منها هذا اللقب، رغم وقوع بعض معارك الدبابات الشرسة لاحقاً في حرب أكتوبر 1973 بين مصر وإسرائيل.

الهجوم الروسي المضاد

بعد قرابة أسبوع من بدء المعركة استعادت القوات الجوية السوفييتية توازنها في سماء كورسك، فبدأت تحرم القوات الألمانية المتوغلة من الإسناد الجوي الفعَّال الذي كان محورياً. ثم ابتداءً من يوم 12 يوليو 1943 بدأ السوفييت هجومهم المضاد الواسع ضد الألمان في جيب كورسك الذي كان شطره الأسبق العملية كوتوزوف، باتجاه القاطع الشمالي في جيب كورسك، وسُمِّيت تيمناً باسم الجنرال الروسي الشهير كوتوزوف الذي هزم نابليون عام 1812.

استُهِلَّت العملية بتمهيد نيراني مكثَّف بالمدفعية الثقيلة، والكاتيوشا، ثم انقض الروس بثلاثة جيوش كاملة، ونجحوا رغم الدفاع الألماني الشرس، في اليوم الأول، في الوصول إلى عمق 23 كم في بعض المحاور، مستغلين التفوق العددي الكبير، بما يقارب مليوناً وربع مليون مقاتل، مدعومين بأكثر من ألفي دبابة.

على مدى الأيام التالية، تمكَّن الروس بحلول 24 يوليو من دفع الألمان خارج خطوطهم التي بدأوا منها الهجوم على شمال جيب كورسك، ثم توغلوا غرباً فحرروا بلدة أوريل يوم 5 أغسطس بعد عامين من احتلالها، وأمر ستالين زعيم الاتحاد السوفييتي بضرب قذائف المدفعية في موسكو احتفالاً بالانتصار الكبير. ثم وصل الروس إلى شرق مدينة بريانسك بحلول 18 أغسطس واعتُبر هذا نهاية العملية كوتوزوف.

بالتوازي مع كوتوزوف بدأ السوفييت مطلع أغسطس 1943 في شن العملية روميانتسيف، وهي الهجوم المضاد باتجاه القاطع الجنوبي لكورسك، حيث التوغل الألماني الأكبر، وبحلول 23 أغسطس كان التوغل الألماني الجنوبي قد أصبح في خبر كان، وحُرر جيب كورسك بالكامل، وانتهت معركة الخمسين يوماً بانتصار سوفييتي استراتيجي حسم نتيجة الحرب على الجبهة الشرقية، لكن بثمن بالغ الفداحة.

وفقاً لأكثر الإحصاءات توسطاً، فقد قُتِل وأصيب وفُقِد ما يقارب 800 ألف جندي وضابط سوفييتي، بينما بلغت الخسائر البشرية الألمانية بين ربع ونصف هذا العدد. وفي العملية كوتوزوف فقط قُتِل أكثر من 100 ألف جندي وضابط سوفييتي، وأصيبَ وفُقِد ما يزيد عن 300 ألف، وفقد الروس أكثر من 2500 دبابة وآلية.

ما بعد كورسك

فقد الألمان المبادرة تماماً على الجبهة الشرقية بعد هزيمة كورسك، فقد تعرضوا لخسائر قاسية بشرياً ومادياً، واهتز موقعهم في الحرب كلها، لا سيما وقد شرع الحلفاء منذ منتصف يوليو 1943 في مهاجمة إيطاليا عبر جزيرة صقلية في الجنوب، وكان هذا الهجوم مُربكاً للقيادة النازية، التي اضطرت لسحب بعض القوات من الجبهة في كورسك للدفاع عن الحليف الفاشي في إيطاليا، موسوليني، الذي سقطت حكومته في الشهر نفسه بانقلاب دعمه الحلفاء، وشُكِّلت حكومة جديدة وقَّعت وقفاً لإطلاق النار في سبتمبر 1943، لكن عاد موسوليني إلى الواجهة بدعم ألماني، ليسيطر على شمال ووسط إيطاليا، قبل أن ينال الهزيمة مُجدداً بحلول منتصف العام التالي، ويُشنق في ميدان عام في أبريل 1945.

وفي منتصف عام 1944، وجَّه الحلفاء الضربة القاضية لألمانيا النازية، عندما شنُّوا العملية نورماندي لتحرير فرنسا، في أكبر إنزال جوي وبحري في التاريخ الإنساني. أما الروس، فبعد انتصارهم المر في كورسك، واصلوا التقدم تدريجياً باتجاه الغرب على مدى عامي 1944 و1945، فاستكملوا تحرير أوكرانيا وبولندا وغيرهما، وصولاً إلى البر الألماني؛ حيث اجتاحوا العاصمة برلين، التي كانوا أول الحلفاء وصولاً لها في أبريل 1945م، وكان لهم قصب السبق في إسقاط حكم النازي، وخرجوا من تلك الحرب الكبرى رغم الخسائر الفادحة غير المسبوقة في التاريخ (24 مليون قتيل على الأقل، منهم قرابة عشرة ملايين عسكري).

جوارديولا يمدح خصومه: هكذا أصبحت التيكي تاكا مذهباً
بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها

مجتمع