معرفة

كيف وصلت لنا أقدم مصنفات السير والمغازي؟

محاولة لإبراز أهم مصادر السير والمغازي وأوسعها مادة وأكثرها تأثيرًا في القرون التي تلتها وإلى يومنا هذا.

future من اليمين، أغلفة كتب: «المغازي» للواقدي، «مغازي سيدنا محمد ﷺ» لموسى بن عقبة المدني، و«سيرة النبي» لأبي محمد عبد الملك بن هشام

يورد ابن عساكر في تاريخ دمشق رواية مفادها أن عروة بن الزبير أحرق صحفه أيام موقعة الحرة؛ حتى لا يتخذ كتابًا مع القرآن، ويورد أيضًا أبو نعيم في حلية الأولياء ما يفيد ندم عروة على هذا الفعل.

وسواء صحت هذه الرواية أم لا فهي تحمل دلالة على أمرين: معرفة المسلمين للتدوين قبل أمر عمر بن عبد العزيز بجمع السنة بخلاف ما يتبادر إلى الذهن، والأمر الثاني أن هذا التدوين لم يكن يخلو من التحرج ولعل ذلك بسبب سبق الأمر النبوي بمحو ما كتب سوى القرآن، وهو الذي يختلف المحدثين بشأنه وهل نسخ بأمر نبوي آخر أم لا؟ وأيًّا كانت النتيجة التي ينتهي إليها المختلفين في هذا الأمر، فلم يك ذلك حائلًا دون وصول مرويات مبكرة من القرن الأولي الهجري عن فترة صدر الإسلام، التي تمتد من البعثة النبوية وحتى استشهاد الإمام علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين.

من بين مصادر صدر الإسلام تحتل كتب السير والمغازي أهمية قصوى، لارتباطها بالسيرة النبوية وما تمثله لدى المسلمين من أهمية، وبالتالي كان تدوين السيرة أحد أهداف المصنفين الأوائل في الإسلام، فهو في كثير من الأحيان كان قرينًا لتدوين السنة، ويجب التفرقة بين التدوين كنشاط فردي عرف إبان حياة الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وبين التدوين كنشاط جماعي أو بأمر من الدولة، إذ إن الأخير لم يشتهر إلا في نهاية القرن الأول الهجري. ويجب الانتباه كذلك إلى نقطة هامة، أن أوائل المدونين في السير والمغازي لم يجمع عليهم كافة أهل الجرح والتعديل، فتجد أحيانًا آراء تتهم بعضهم بالكذب والوضع من منظور حديثي، لكن فيما بعد سيحدث انفصال وتباين في معايير الحكم على الروايات حسب نوعها سواء كانت تاريخية أو حديثية وهو ما سيفعله أهل الحديث أنفسهم في أوقات متأخرة زمنيًا.

وفيما يلي عرض لمصنفات السير والمغازي الرئيسة ومؤلفيها وطبعاتها، وبطبيعة الحال لا يعد ذلك استقصاء لكل المؤلفات وإنما الأساسي والمصدري منها:

1. عروة بن الزبير (ت 93 هـ)

عروة بن الزبير بن العوام يعتبر من أوائل مدوني السير والمغازي ومن فقهاء المدينة، وكان ينتقي ما يكتب ويعرض الأسانيد ثم يمزج بين الروايات ليعطي صورة كاملة للحدث وكان يملي تلامذته، فإذا كان عروة توفي 93هـ، فنستطيع أن نقول إن تدوين السيرة قد بدأ على أقل تقدير في الثلث الأخير من القرن الأول الهجري.

وقد قام الدكتور محمد مصطفى الأعظمي بجمع مرويات عروة من بطون المصادر وصدرت تحت عنوان «مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير»، وقد بذل في سبيل ذلك مجهود ضخم وصدر هذا الكتاب عن مكتب التربية العربي لدول الخليج.

2. أبان بن عثمان بن عفان (ت 105 هـ)

تتفق جميع المصادر على كونه من أصحاب المصنفات المبكرة في السير والمغازي، وثمة قصة لا تخلو من دلالة يرويها صاحب الأخبار الموفقيات أنه قد ذكر فضائل الأنصار في كتابه عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ مما أثار سخط الأمويين نظرًا لموقف الأنصار من حصار الخليفة عثمان بن عفان ومقتله، لكن كان رد أبان أن موقفهم من الخليفة لا يمنع من إنصافهم، لكن في نهاية المطاف فقد كتب أبان واندرس أثره، وتجدر الإشارة إلى أن النقولات التاريخية الموجودة في المصادر التاريخية عن أبان بن عثمان ليست مرويات أبان الأموي، وإنما هو شخص آخر، أبان بن عثمان الأحمر (ت 170 هــ) من أصحاب الإمام جعفر الصادق، ويروي عنه، وقد صدرت مرويات أبان الأحمر هذا في كتاب بعنوان «المبعث والمغازي» بإعداد المؤرخ الشيعي المعروف رسول جعفريان.

3. موسى بن عقبة (ت 141 هـ)

من موالي آل الزبير ومن صغار التابعين، روى المغازي عن جماعة من ضمنهم جده لأمه وأمه نفسها مما يمثل دلالة على العناية بالسير والمغازي منذ وقت مبكر، وتعد مغازي موسى من المصادر الهامة لتلك الفترة المبكرة من عمر الإسلام، ويعتبر المحدثون مغازي موسى من أصح ما صنف في هذا الباب ومن أقدم ما دون، وتجد لمغازي موسى حضور واضح في كتابات مؤرخي الغرب الإسلامي مثل ابن عبد البر وغيره، وقد طبعت مغازي موسى مرتان: الأولى سنة 1994 م بتحقيق محمد باقشيش أبو مالك في جزء واحد، وصدرت طبعة أخرى سنة 2023 في ثلاثة أجزاء بتحقيق محمد الطبراني وقدم لها بدراسة موسعة.

4. الواقدي (ت 207 هـ)

محمد بن عمر بن وافد أحد موالي بطون بني سهم ولد سنة 130 هـ على ما ذكره تلميذه ابن سعد، ويمثل الواقدي إحدى الحلقات الهامة في سلسلة رواة المغازي، وقد استفاد منه ابن سعد في الطبقات وذكر ذلك في مواضع كثيرة، وقد استفاض الواقدي في رواية أحداث بدر وأحد والحديبية وفتح مكة، إذ يعد أوسع المصادر التي أرخت لتلك الأحداث، وقد صدرت مغازي الواقدي عدة مرات منها:

1. طبعة كلكتا صدرت 1855 م

2. طبعة مصرية صدرت عن دار السعادة في الإسكندرية سنة 1948 م

3. طبعة عالم الكتاب بتحقيق المستشرق مارسدن جونس مصورة عن طبعة لندن 1966 م

وللحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه‍ـ) كتاب بعنوان «تلخيص مغازي الواقدي» صدر كرسالة ماجستير بالمملكة العربية السعودية بتحقيق محمد رجا سعيد

وحول مغازي الواقدي لدينا دراستان:

1. «الوقداي وكتابه المغازي منهجه ومصادره» الدكتور عبد العزيز السلومي

2. «الواقدي ومنهجه في السير والطبقات هايل مضفي هلال»، رسالة ماجستير في أربع أجزاء عن الجامعة الأردنية وكانت تحت إشراف الدكتور عبد العزيز الدوري

5. ابن إسحاق (ت 151 هـ)

محمد بن إسحاق بن يسار كان جده من سبي العراق بعد معركة عين التمر مما فتح الباب للطعن في الرجل بسبب أصله غير العربي، غالب ما نعرفه من سيرة ابن إسحاق هو ما نقله لنا ابن هشام ويعرف بأنه صاحب أول مدون مستقل في السيرة والمغازي، لكن لا يعني ذلك عدم وجود مصنفات قبله لكنها لم تصل إلينا، وقد نقل ابن هشام عن ابن اسحاق في سيرته لكنه تصرف في أكثر من 700 موضوع سواء بالحذف أو الإضافة أو الإيجاز.

وقد أثيرت العديد من الطعون حول ابن إسحاق لكن في نهاية الأمر تبوأ الرجل مكانته كأحد أهم كتاب السير والمغازي، فسوف يستفيد منه السهيلي صاحب «الروض الأنف» أحد أوسع المؤلفات المتأخرة في السيرة والذي كان يشرح «سيرة ابن هشام»، لكن يبدو أنه كان يمتلك نسخة من «سيرة ابن إسحاق» في الأساس.

وقد عثر الدكتور محمد حميد الله على قطعة من «سيرة ابن إسحاق» تبدأ بنسب النبي صلى الله عليه وسلم وتنتهي بما بعد غزوة أحد، وهي الطبعة العلمية الوحيدة للجزء الموجود من السيرة وصدرت عن الدار العربية للأبحاث والتعريب.

6. ابن هشام (ت 218 هـ)

هو صاحب أكمل وأقدم كتاب وصل لنا في السيرة النبوية، وهو إن كان أراد اختصار «سيرة ابن إسحاق» إلا أنه قد تصرف في تلك السيرة بالحذف والاختصار والاستطراد في أكثر من 768 موضع، وعلى الرغم من أن حفظ لنا الكثير من هذه السيرة إلا أن ما فعله ابن هشام أثار استهجان كثير من الباحثين كالدكتور محمد حميد الله والدكتور حسين مؤنس، فما فعله ابن هشام تسبب في ضياع الكثير من نصوص ابن إسحاق.

وقد تعرضت «سيرة ابن هشام» للعبث التجاري فكثرت نسخها في الأسواق ومعظمها نشرات غير علمية باستثناء طبعات قليلة منها:

1. نشرة الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد، وصدرت عن مطبعة حجازي في القاهرة، وعلى الرغم من قدمها ما زالت أهم طبعات السيرة لدقة المحقق وأمانته ومكانته كأحد المحققين الرواد

2. نشرة دار الفاروق في عمان بالأردن صدرت عام 2022 م، بتحقيق همام عبد الرحمن وعادل مرشد وقد تم مقابلتها على نسخ خطية فلم تكن المسألة مجرد إعادة صف وتصوير فقد بذل المحققان جهدهما

بشكل عام لا يعتبر ما سبق حصر لكل مصادر السير والمغازي وإنما محاولة لإبراز أهمها وأوسعها مادة وأكثرها تأثيرًا في القرون التي تلتها وإلى يومنا هذا.

# تاريخ # التاريخ الإسلامي # السيرة النبوية # كتب

بابل في الوجدان الفني: من خمْرِها أُسْكِرَ الفنانون كلهم
الهجوم على مكة والمدينة: كيف حاول الصليبيون سرقة جسد النبي محمد؟
الآغا خان: بين العمارة والاستعمار

معرفة