مجتمع

مشاهدات وانطباعات عن فترة الاحتلال الصهيوني لقطاع غزة

غزة التي حاصرتها الجيوش وأغلقت في وجهها الحدود، بقيت تنبض بالمقاومة، وتزرع الأمل في كل جيل بأنها ستعود حرة مهما طال الزمن.

future القوات الإسرائيلية تحتجز أسرى فلسطينيين أثناء العدوان الثلاثي عام 1956

نُشر المقال لأول مرة بمجلة الآداب في 1 مارس 1958 وهي مجلة تعني بشؤون الفكر مقرها بيروت

كيف نكون أعداءً لخصومنا؟

أتاحت لي فرصة زيارة قطاع غزّة بعد أن أنعم الله عليه بانسحاب القوات الإسرائيلية، من بعد احتلالٍ غاشمٍ دام حوالي أربعة أشهر، وكنت موفدًا من قبل إدارة فلسطين بجامعة الدول العربية لجمع البيانات، والإحصاءات، والمعلومات، والصور التي تمثّل فترة الاحتلال الصهيوني، وما رافقها من اعتداءاتٍ وفظائع وخسائر في الأرواح والممتلكات. وقد قضيت في القطاع ثلاثة أسابيع، تيسّر لي خلالها عن طريق المسؤولين في الإدارة المصرية وبلدية غزّة وخان يونس، وفي وكالة الإغاثة، وعن طريق بعض شباب المنطقة، وبعد أن تجوّلت في القطاع، أن أقف على حقائقٍ ومعلوماتٍ وصور فوتوغرافية وإحصاءات كانت نواةً لكتابٍ جامعٍ تزمع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية إصداره عن هذه الفترة البغيضة من حياة الأمة العربية.

وقد أصدرت مؤقّتًا كتابًا مختصرًا، مدعّمًا بالصور، وعملت على توزيعه في معرض دمشق الدولي الأخير، كما قامت بترجمته إلى اللغة الإنجليزية، وأرسلته إلى نيويورك لتوزيعه أثناء انعقاد دورة الأمم المتحدة الأخيرة. لقد خرجت من زيارتي هذه بانطباعاتٍ، ونتائج، وحقائق رأيت أن أُجمِلها في بحثي هذا، ولن تفي هذه المعلومات بكل الغاية المنشودة؛ لأنّها مجرّد انطباعات من شخصٍ زار قطاع غزّة وهي تنعم بالحرّية، لأنّ التجربة الحقيقية هي تلك التي عاشها من وُجد أثناء فترة الاحتلال، وخاصةً من كان له شرف العمل الوطني في المقاومة الشعبية السلبيّة والإيجابيّة.

ومع ذلك، رأيت أنّه من المفيد أن أكتب عمّا خرجت به من زيارتي هذه؛ لأنّ مجرّد زيارة القطاع فرصة لم تتح إلّا للقليل من الشباب العربي المنتشر في وطننا الكبير، كما أنّ كوني موفدًا في مهمّة رسمية، وكوني أحد أبناء غزّة، أتاح لي الوقوف على معلومات لم تتيسّر للكثيرين ممّن زاروا هذا القطاع، كما أنّني قابلت الكثيرين ممّن عُذّبوا أو ممّن شاهدوا المآسي والكوارث، وكذلك بعض شباب المقاومة الشعبية.

أضف إلى ذلك إيماني بأنّ الدعاية ضدّ الصهيونية، وإظهار مدى فظاعة اعتداءاتها علينا، يجب أن يبدأ به أوّلًا في الوطن العربي، وأن يطّلع على ذلك كلّ عربي لكي ينمو في نفسه حقدٌ دائم على هذا العدوّ الذي فُرض علينا، وعلى ما اقترفه بحقّ عرب فلسطين خاصةً، والعرب أجمعهم عامةً. فمن الواجب أن نُرضع أطفالنا كره الصهيونية، وأن نعلّم أبناءنا أهداف الصهيونية، وما جرّته علينا من ويلاتٍ وكوارث، كما نعلّمهم مبادئ القراءة والكتابة، وأن يتناسب ذلك مع تطوّر مداركهم وعقولهم.

فنحن إن لم نتعلّم كيف نحقد، وكيف نكون أعداءً لخصومنا، فلن نعرف كيف نحارب، وبأيّ روحٍ، وبأيّ وازعٍ، وبأية وسائل. ونظرًا لما بيّنتُ في هذه المقدّمة، أردت أن أكتب هذا البحث، ورأيت أن أضعه بشكل نقاطٍ متعدّدة.

العدوان الثلاثي على غزة

دخل اليهود قطاع غزّة تنفيذًا لمؤامرةٍ ثلاثيةٍ غادرة، دخلوه تُظلّلهم الأساطيل الجوّيّة الفرنسيّة والإنجليزيّة، وتمهّد لزحفهم أساطيلها البحريّة، ويُخلي الطريق أمامهم الاعتداء البريطانيّ الفرنسيّ على بور سعيد؛ فوصلوا مدينة رفح في أوّل نوفمبر 1956، ومدينة غزّة في اليوم التالي، وهو يوم ذكرى وعد بلفور المشؤوم، ومدينة خان يونس في اليوم الثالث. ومن الثابت أنّ قوّات فرنسيّة ساعدت في احتلال مدينة رفح، فعزلت بذلك باقي قطاع غزّة.

وما أن استسلم القطاع إثر المؤامرة الثلاثيّة، ونتيجة الغلبة في العدد والعدّة، حتّى دخلت القوّات اليهوديّة تبثّ الذعر في النفوس، وتطلق الرصاص دون وعي، وفي كلّ اتّجاه، فتقتل وتهدم وتشوّه، ثمّ تنهب النقود والحُليّ والمجوهرات والمأكولات والملبوسات، فكان ذلك أسوأ بدايةٍ لأسوأ عهدٍ عاشه قطاع غزّة.

أبرز ما يخرج منه المرء بعد اطّلاعه على ما حصل عند احتلال القطاع وأثناء هذا الاحتلال، هو روح الشرّ والانتقام والحقد الكامنة في نفس كلّ صهيونيّ، والمسيطرة على كلّ تصرّفاته، وخاصّةً عندما جُوبِهَتْ هذه القوّات بمقاومةٍ باسلة في مدينة خان يونس من قوّات الفدائيّين، والجيش الفلسطينيّ، والجيش المصريّ.

لقد سقطت مدينة رفح، وهي تقع في جنوبي خان يونس، صباح يوم 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، ومع ذلك فقد استمرّت خان يونس في مقاومتها الباسلة بشجاعةٍ منقطعة النظير، وقاومت جحافل الجيش الإسرائيليّ حتّى ظهر 2 تشرين الثاني. وهنا بدت روح الشرّ جليّة في نفوس القوّات الإسرائيليّة؛ فقَصَفت المدينة بمدافع طائراتها وبمدافع الميدان دون أيّ تمييز، وما أن دخلت هذه القوّات حتّى ارتكبت أبشع أنواع الفظائع الّتي يعجز القلم عن تصويرها.

لقد دخل جنود إسرائيل مدينة خان يونس وهدفهم إفناء شباب المدينة، خاصّةً الجنود منهم، وكانت مجرّد مشاهدتهم لأحد رجال المدينة في الشارع أو على باب منزله كافيةً للقضاء عليه. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل توزّعت فرقهم على منازل المدينة تبحث عن الشباب فيها، وما أن ترى شابًّا حتّى ترديه قتيلًا دون أيّ تحقيق، أمام أهله وأطفاله.

ولم تكن تنفع معهم دموع وتوسّلات النساء ولا عويل الأطفال، وكانت بعض الفرق تجمع هؤلاء الشباب أمام المنازل وفي الساحات العامّة، وتوقفهم في طوابير، ثمّ تنهال عليهم برصاصها. وكان الضابط الإسرائيليّ بعد ذلك يُقلّب أجسام القتلى فيُكمل برصاصه على مَنْ لم يلفظ أنفاسه، بوحشيّةٍ بالغة.

وهناك عشرات من المآسي يندى لها جبين الإنسانيّة على مرّ الأجيال، وأرى أن أكتفي بسرد بعضها على سبيل المثال لا الحصر؛ فقد دخلت إحدى هذه الفرق مستشفى المدينة، فوجدت فيه 22 مريضًا في فراشهم، فقتلتهم جميعًا، كما وجدت ثلاثة أطبّاء مصريّين بلباسهم الطبّيّ، وعلى أذرعهم شعار «الهلال الأحمر»، ومع ذلك أردتهم قتلى في ساحات المدينة. ودخلت فرقةٌ منهم أحد المنازل، فوجدت فيه 22 شابًّا مدنيًّا، فأخذتهم إلى الخارج وأوقفتهم قرب جدار المنزل، وانهالت عليهم برصاصها الغادر، فأتت عليهم.

ودخل بعض جنودهم إلى منزل أحد أعيان المدينة، وهو شيخٌ طاعنٌ في السنّ، وله ابنان، عمر الأكبر فيهما 27 عامًا، وعمر الآخر 17 عامًا، فقتلوا الأوّل في عقر بيته وأمام والديه، ومنعوا والده من تقديم الماء له وكان يطلبه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ثمّ أخذوا الآخر إلى خارج المنزل، ووضعوه مع 28 شابًّا آخر، وقتلوهم أمام المنزل.

ودخل بعضهم إلى منزل أحد اللاجئين، وله 11 بنتًا وابنٌ واحد، وهو طالبٌ في «مدرسة خان يونس الثانويّة»، فتوسّل لهم الأب بأن يُبقوا على حياة وحيده، ومع ذلك أجلسوه على كرسيّ أمام والديه وشقيقاته، وأطلقوا الرصاص على عينيه فتوفّي في الحال.

هذا قليلٌ من كثيرٍ ممّا حصل في مدينة خان يونس، الّتي بلغ عدد شهدائها 450 شهيدًا، اسْتُشْهِدَ معظمهم بعد أن دخلت القوّات الإسرائيليّة المدينة، وكانت غالبيّتهم من المدنيّين. وقد حدث أن رأت قوّاتهم 25 جنديًّا مصريًّا بزيّهم العسكريّ، فقتلتهم في ساحة المدينة، بالرغم من أنّ قائدهم قد استسلم للقوّات الإسرائيليّة. ولم تكتفِ بذلك، بل منعت الأهالي من دفن جثثهم لمدّة ثلاثة أيّام، وكانت تجبر الأهالي على السير بقربهم.

غزّة ورفح تحت النار

أمّا في غزّة، فقد كانت الحوادث عند دخول القوّات الإسرائيليّة أقلّ من ذلك، إذ إنّ غضبها انصبّ على مدينة خان يونس نظرًا لما أبدته من مقاومةٍ فائقة، ولأنّها كانت موقع البقيّة الباقية من الجيش الفلسطينيّ. ومع ذلك، لم يَسْلَمْ أهل غزّة، وخاصّةً سكّان مشارفها، من فظائع الصهيونيّة.

ومن أمثلة ذلك أنّ فرقةً دخلت أحد المنازل في طرف المدينة، فوجدت فيه أحد عشر رجلًا، فأخذتهم إلى خارج المنزل واستبعدت أحدهم، وقتلتهم جميعًا، وقال قائدها لمَنْ اسْتُبْعِدَ: «عليك بدفن جثث هؤلاء». ومن المؤلم أنّ هذا الشابّ شاهد بذلك مصرع والده وأقاربه بعينيه. كما حصلت حوادث أخرى مشابهة في معسكرات اللاجئين العديدة، إلّا أنّها كانت على نطاقٍ ضيّق.

أمّا مدينة رفح، فإنّ ما حصل فيها يُضاف إلى سجلّ مآسي الشعب الفلسطينيّ الحافل بالضحايا والذكريات المؤلمة؛ فقد حصلت حوادث فرديّة عند احتلال القوّات الصهيونيّة لها في أوّل تشرين الثاني (نوفمبر) 1956، إلّا أنّ ما حصل فيها صباح يوم الـ 12 من تشرين الثاني (نوفمبر) يفوق ذلك بكثير. فقد أعلن الصهاينة بالمذياع ضرورة تجمّع جميع شباب المدينة والمخيّمات من سنّ 15 عامًا حتّى 45 عامًا في مراكز معيّنة خلال نصف ساعة لعمل تحقيقات وتحرّيات، فتسارع الشباب إلى هذه المراكز المحدّدة.

إلّا أنّه حصلت في ذلك اليوم عدّة مآسي، فبينما كانت زرافات الشباب تندفع نحو هذه المراكز، كان الرصاص ينهمر نحوهم وحولهم للإرهاب، ما تسبّب بقتل 11 شابًّا كانوا متّجهين نحو ساحة المدينة، ومن المؤلم أن يكون أربعةٌ منهم من عائلةٍ واحدة. ثمّ بعد ذلك، انطلقت جحافل جيشهم تبحث عن الرجال في خيام اللاجئين ومنازل السكّان، وكان الكثيرون بعيدين عن المدينة نظرًا لاتّساع رقعة مخيّمات اللاجئين، ولعدم سماع بعضهم للمذياع، ولقصر المدّة المحدّدة.

وكان نصيب مَنْ وُجِدَ في منزله القتل رأسًا دون أيّ استجواب، بل إنّهم قتلوا الشيوخ منهم مِمَّنْ لم يشملهم الأمر. وقد امتلأت الشوارع والمنازل بجثث الضحايا، وقَتَلوا في مراكز التجمّع مَنْ كانوا يشكّون في أنّه أحد رجال فرقة الفدائيّين، وكانت مجزرةً رهيبةً ذهب ضحيّتها 127 شهيدًا، معظمهم من الشباب.

وقد اعترف «بن غوريون» بهذه الواقعة، وذكر أنّ عدد القتلى كان 48 شخصًا، وأنّ سبب ذلك هو تمرّدهم على السلطات الإسرائيليّة. كما ذكر مدير «وكالة الغوث» أنّ عدد ضحايا ذلك اليوم بلغ 111 شهيدًا، وسيرد ذلك عندما أسرد بعض ما جاء في تقرير «وكالة الغوث» عن هذه الفترة الكئيبة وهذا اليوم المشهود. ومن المؤلم أنّ السلطات منعت الأهالي من دفن جثث الضحايا عدّة أيّام، لتبثّ الذعر في نفوسهم، والضعف في معنويّاتهم، ولتدفعهم إلى اليأس والرهبة والاستسلام.

أمّا وسائل الإهانة والتعذيب الّتي استعملتها السلطات الإسرائيليّة بعد أن استتبّ لها الأمر في قطاع غزّة، فهي عديدة، متنوّعة، وموغلة في الوحشيّة والقسوة. وقد كان هذا التعذيب ينصبّ على تلك الفئات الّتي كان اليهود يعتقدون أنّها كانت في الجيش الفلسطينيّ، أو في قوّات الفدائيّين، أو ممّنْ كانت تتعاون مع الجيش المصريّ، أو ممّنْ عَمِلَتْ على إخفاء الجنود والضبّاط وتهريبهم عبر الصحراء إلى الأردنّ.

وهذه الحوادث عديدة، أودّ أن أذكر بعضها، ومنها ما حصل مع أحد سكّان غزّة، وهو «عمر الحلبي» الّذي كان يقوم بتوصيل الجنود إلى الأردنّ، فعلمت بذلك السلطات الإسرائيليّة، واعتقلته، واستعملت معه أقسى وسائل الشدّة وأشدّ أنواع التعذيب، لكي يعترف بعمله وبشركائه فيه، وبأماكن اختفاء الجنود. لقد ضُرِبَ هذا الرجل ضربًا مبرّحًا بالأحذية والكرابيج، وسُلِّطَ عليه التيّار الكهربائيّ بعد ربطه بكرسيّ، ثمّ أُطْلِقَتْ عليه الكلاب تنهش في لحمه، وكان إذا ما أُغْمِيَ عليه من شدّة الضرب والألم صبّوا عليه المياه، ثمّ ضربوه ثانية.

وبعد ذلك هدّدوه بالشنق، بل إنّهم أخذوه إلى غرفة الإعدام، وربطوا الحبل حول عنقه ليحملوه على الاعتراف، ومع ذلك بَقِي صامدًا كالطود، ولم يعترف، وبَقِي سجينًا يعاني الألم، تنزف دماؤه وتتقيّح جراحاته إلى أن أخرجته قوّات الطوارئ عند انسحاب اليهود من غزّة.

وفي قرية دير البلح، بحثت قوّاتهم عن «محمّد عبد الرحمن خليل»، أحد أفراد الجيش الفلسطينيّ، ولمّا لم تجده جنّ جنونها، وأخذت تضرب والده، وعمره 55 عامًا، ليعترف عن مكان ابنه، ولم يكن هذا يعرف مكانه. وكانوا يتردّدون على منزله بين حينٍ وآخر، وعندما لا يجدون الابن ينهالون على أبيه ضربًا، واستمرّ الحال على ذلك عدّة مرّات، إلى أن توفّي هذا الأب نتيجة الضرب المبرّح، كما أنّ والدته لم تسلم من الضرب والأذى والإهانة.

وفي معسكر النصيرات، قبضوا على اللاجئ «عبد الله جاد الحقّ»، وطلبوا منه الاعتراف بأنّه فدائيّ، فأنكر ذلك، فانهالوا عليه ضربًا أمام بقيّة اللاجئين، واستمرّ حالهم على ذلك بضعة أيّام، إلى أن قتلوه برصاصهم أمام جمعٍ من الأهالي. وفي غزّة، قبضوا على اللاجئ «عبد الرزّاق الفيّومي» بتهمة إيواء جنود مصريّين، فأنكر ذلك، وتعرّض لأنواعٍ عديدة من الضرب والجلد والتيّار الكهربائيّ، وبقي في السجن 45 يومًا.

أطفال ونساء وشيوخ تحت بطش الاحتلال

لم تكن الفظائع قاصرةً على الشباب والرجال، بل تجاوزتهم إلى الأطفال؛ فقد قُتِلَ الكثيرون منهم عند احتلال القطاع. فعند دخولهم مدينة غزّة، كان خوري الطائفة اللاتينيّة في غزّة يقتاد طفلةً صغيرة إلى منزلها، فأطلقوا عليها الرصاص وقتلوها وهي ممسكة بيده. وفي مدينة خان يونس، وبعد سقوط المدينة، كان اللاجئ «محمّد سعدون» يسير وعلى ذراعه ابنه البالغ من العمر 3 أعوام، فأطلق اليهود الرصاص فقتلوه، وأصابوا ابنه الطفل في ساقه الّتي بُتِرَتْ فيما بعد.

وفي معسكر النصيرات، وبعد الاحتلال بأسبوع، كانت إحدى السيّدات تسير حاملةً على ذراعها ابنها وعمره 4 شهور، فأطلقوا عليه الرصاص فقُتِلَ على ذراع أمّه. وقُتِلَ بعض الأطفال والصبية وهم يلعبون حول منازلهم دون أيّ سبب؛ فبينما كانت إحدى دوريّات اليهود تسير في مخيّم الشاطئ في مدينة غزّة، شاهدت بعض الصبية يلعبون، فقذفتهم بقنبلةٍ يدويّةٍ أصابتهم بجراحاتٍ مختلفة، وكان نصيب الطفل «حسن أبو حجر» بتر ساقيه وذراعيه وعمره 9 سنوات.

كما استعمل اليهود طرقًا جهنميّةً لإيذاء الأطفال؛ فقد نثروا في مخيّمات اللاجئين ألغامًا صغيرة على شكل أقلام الحبر، ما أن يفتحها الشخص حتّى تنفجر في يديه فتقطع أصابعه أو بعضها. وقد حصلت عدّة حوادث من هذا القبيل، منها الطفل «سليمان موسى» في مخيّم رفح، والطفل «داوود إبراهيم» في مخيّم المغازي. وهكذا خلّفت قوّاتهم وراءها عشرات المشوّهين من الأطفال الأبرياء.

وكما لم يسلم الأطفال من ظلم الإسرائيليّين، لم يسلم الشيوخ أيضًا؛ فقد اسْتُشْهِدَ منهم العشرات. ففي قرية بيت حانون، دخلت القوّات الصهيونيّة أحد المنازل، ووجدت فيه ستّة شيوخٍ طاعنين في السنّ لم يستطيعوا الهرب من وجههم، فأردوهم قتلى في الحال. وفي مناطق أخرى، أصابوا عددًا من الشيوخ بجراح، وفي مدينة رفح، وأثناء يومها المشهود، دخل بعض الجنود إلى أحد منازل اللاجئين، فوجدوا فيه شيخًا بلغ من العمر 110 سنوات، ومع ذلك أطلقوا عليه الرصاص وأصابوه بإصاباتٍ تسبّبت في بتر ساقه فيما بعد.

أمّا حوادث هتك العرض، فبالرغم من قلّة عددها، إلّا أنّها سبّبت جراحاتٍ لا تندمل، وآلامًا نفسيّةً لا تزول، وأحدثت ذعرًا لدى الأهالي. وقد عُرِفَت بعض الحوادث، وهناك حوادث أخرى لم تُعْرَف، ولم ينتشر خبرها حرصًا على سمعة الضحايا وعائلاتهم وستراً للفضيحة. ولقد أثبتت المرأة العربيّة حرصها المعروف على الشرف واستشهادها في سبيله. وأبرز هذه الحوادث حادثة المرحوم الشابّ «صلاح اللبابيدي» المعلّم بمدرسة «وكالة الإغاثة»، والّتي ذهب ضحيّتها هو وزوجته دفاعًا عن شرف الأمّة العربيّة.

في يوم 17 نوفمبر 1956، طرقت فئة من الجنود الآثمين منزل اللبابيدي الكائن قرب شاطئ بحر غزّة، ففتح الباب، واتّجه أحدهم نحو زوجة الشابّ يريد أن يغتصبها، فقاومتهما هي وزوجها بكلّ ما لديهما من قوّةٍ جسمانيّة، فلم يكن لديهما السلاح يدافعان به عن عرضهما. ولمّا يئس هؤلاء الجنود من نيل مأربهم الدنيء، قتلوا الزوج، واستمرّت الزوجة في مقاومتها اليائسة إلى أن قتلوها، وسقط الزوج وزوجته شهيدين مضرّجين بالدماء، وحول جثّتيهما ربض طفلاهما البالغان من العمر 3 أعوام وعامًا واحدًا.

وبَقِي هذان الطفلان فوق دماء أبويهما حتّى الصباح، إذ لم يستطع الأهالي الوصول إلى منزلهما بالرغم من سماعهم استغاثة الوالدين، نظرًا لنظام منع التجوّل وانتشار الجنود الإسرائيليّين البرابرة. وقد شاهد هذا الحادث «الكولونيل بيارد»، رئيس «لجنة الهدنة» في غزّة، واحتجّ على ذلك لدى الحاكم اليهوديّ الّذي منعه من أخذ صورةٍ للضحايا، والّذي عمل بنفوذ الصهيونيّة المعروف على إخراجه من قطاع غزّة واستبداله بغيره.

وقد حصلت حوادث أخرى في مخيّم البحر بغزّة، حيث حاول الجنود الاعتداء على إحدى اللاجئات الّتي رفضت أن تفتح باب منزلها، فألقى اليهود عليها من نافذة المنزل قنبلةً يدويّةً قتلتها وهي حامل في الشهر الثامن. وتكرّرت هذه الحوادث في نفس المعسكر، ممّا جعل أهل المعسكر يعمدون إلى تهريب نسائهم وبناتهم إلى داخل المدينة، والنوم في منازل الأهالي أثناء الليل. كما قام اللاجئون واللاجئات بمظاهرةٍ صاخبةٍ توجّهت نحو مبنى الحاكم العامّ، وهي تهتف بسقوط إسرائيل وبن غوريون وعصاباته.

وفي المخيّمات الأخرى الّتي وقعت فيها حوادث، عُرِفَ بعضها، وكان بعض الأهالي يذهبون إلى الحاكم للاحتجاج على هذه الأعمال، فكان هذا يدّعي أنّهم يبحثون عن الجناة أو أنّهم أنزلوا القصاص بهم وأبعدوهم عن قطاع غزّة.

وكما لم يسلم الشيوخ والأطفال والنساء من فظائع الصهيونيّة، لم تسلم أيضًا الأماكن المقدّسة؛ ففي غزّة قصف جنود إسرائيل «دير اللاتين»، مع أنّ العلم البابويّ كان مرفوعًا فوقه، ولا تزال أماكن هذا القصف ظاهرةً حتّى الآن.

إنّ مثل هذه الحوادث العديدة ليست بمستغرَبة على شعبٍ عُرِفَ بالغدر والخيانة والوحشيّة. كما أنّ تعاليم التلمود اليهوديّ تتمشّى، بل وتأمرهم، بارتكاب هذه الفظائع، فالتلمود يذكر أنّ اليهوديّ الذي يعتدي على امرأةٍ غير يهوديّة فكأنّه اعتدى على حشرةٍ سامّة، وأنّ دم كلّ غير يهوديّ مستباح، وأنّ على اليهود أن يقتلوا أعداءهم قبل أن يتكاثر هؤلاء عليهم، وأنّ كلّ من هو غير يهوديّ فهو كافر.

إنّ هذه الأعمال الوحشيّة تعكس صورةً واضحة عن نفسيّة هذا الشعب وهذه العصابات، وعن الحقد الدفين في نفوسهم، والشرّ الكامن فيها، والكراهية المتأصّلة لكلّ مَنْ هو غير يهوديّ.

نهب المؤسسات والأفراد

أمّا بالنسبة لما رافق هذه الفترة العصيبة من اعتداءٍ على الممتلكات، ومن أعمال النهب والسلب، فهذه وقائع عديدة يصعب حصرها. وقد ألّفت لجنةٌ في غزّة لتسجيل وتقدير الأضرار والتلفيّات، ولعلّها الآن أنهت مهمّتها وأعدّت تقريرها، إلّا أنّه مع ذلك هناك حوادث عديدة شاهدها الكثيرون، وأصبحت معلومة.

كما أنّ السلب لم يكن قاصرًا على أموال الإدارة المصريّة والدوائر المتعدّدة؛ بل كان عددٌ كبير من الأفراد، رجالًا ونساءً وأطفالًا، ضحايا لأعمال السلب والنهب. كما أنّ هذه الأعمال لم تكن تصدر عن الجنود كأفرادٍ فقط، بل كان هناك أيضًا سلبٌ جماعيّ، ومن قبل نفس السلطات الإسرائيليّة المسؤولة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ بعض مخازن وممتلكات «وكالة الإغاثة الدوليّة» أيضًا تعرّضت للنهب والسلب والتدمير.

لقد حملت السلطات الإسرائيليّة معها عند انسحابها كلّ ما وجدته في الدوائر الحكوميّة في قطاع غزّة من مكاتبٍ، وكراسي، وخزانات، وسيّارات؛ بل إنّهم حملوا معهم المغاسل، والأدوات الصحيّة، واللمبات الكهربائيّة، كما حملوا معهم معظم مفروشات مدرسة الحكومة في خان يونس. كما نهبت السلطات 147 ألف جنيهٍ مصريّ من «البنك العربي» في غزّة، ومن المضحك أنّها أعطت وصلًا باستلام المبلغ لمدير البنك.

وكذلك لم تسلم «وكالة الإغاثة» من لصوصيّة إسرائيل؛ ففي معسكر دير البلح نهب اليهود مخازن التموين، وأتلفوا العنابر بعد أن نهبوا ما فيها. وفي خان يونس، نهبوا بعض مفروشات مدرسة الوكالة، وعندما احتجّ مندوب الوكالة على ذلك، ذكر له حاكم المدينة أنّه لا يستطيع إرجاعها؛ لأنّها شُحنت إلى تل أبيب. وفي رفح، نُهِبت بعض الموادّ التموينيّة من مخزن الوكالة، وفي معسكر المغازي دخل بعض الجنود إلى العيادة الطبيّة فيه، وسألوا الممرّض «محمود أبو نصّار» عن مفتاح خزانة الأدوية، فأنكر وجوده معه، فقتلوه رأسًا أمام جميع الممرّضات وفي وسط مركز «وكالة الإغاثة» هناك، ثمّ نهبوا ما كان فيه من أدويةٍ وعقاقير.

أمّا عن خسائر الأهالي المادّيّة، فكانت عديدة؛ فعند دخول القوّات الإسرائيليّة جَمَعت سيّارات جميع الأهالي واستعملتها بضعة أيّام، ثمّ أعادت معظمها بعد أخذ بعض قطع غيارها، وبعد إصابتها بتلفيّات مختلفة. كما نُهِبت بعض المحلّات التجاريّة من قبل فرق الجنود، الذين كانوا يحملون البضائع لأنفسهم ولبلدانهم.

وبعض هذه المحلّات تبيع الأدوات الكهربائيّة كالراديوات، أو تبيع أنواعًا مختلفة من الأقمشة والخضروات، وقد نُهِبت عدّة محلّات من هذا القبيل. كما نَهبت إحدى الفرق محلًّا لبيع الأسلحة المرخّصة، وأعطت صاحب المحلّ وصلًا بأسلحة الصيد، أمّا الأسلحة الحربيّة فأنكرت استلامها، ثمّ أتت على ما في المحلّ من بضائع أخرى غير حربيّة.

أمّا بالنسبة للمنازل، فقد كان تفتيشها بقصد البحث عن الأسلحة والفدائيّين فرصةً سانحةً للجنود للنهب والسلب، فخسر الأهالي الآلاف من الجنيهات، والكثير من الحُليّ والمجوهرات، والساعات، والراديوات، والملابس؛ بل ومن المأكولات أيضًا. ولولا أنّ معظم الأهالي قد احتاطوا الأمر، وأخفوا المجوهرات والنقود في باطن الأرض، لتضاعفت الخسائر. وكان الجنود يبتزّون أموال الناس بتهديدهم بالقتل، وإشهار السلاح في وجوههم، وكثيرًا ما سلبوا الأطفال ساعاتهم، والبنات حُليّهن ومجوهراتهن، بعد انتزاعها قسرًا منهن.

ولم تقتصر هذه الأعمال على المدن؛ بل تجاوزتها إلى معسكرات اللاجئين، فقد نُهِبَ منهم الملابس، والمأكولات، وبعض ما وُجد من نقودٍ ومجوهرات قليلة وساعات. وعندما اشتكى بعض لاجئي معسكر البريج للعالم اليهوديّ من ذلك، وبّخهم وطردهم، وذكر لهم أنّ من واجبهم أن يعتبروا كلّ ما لديهم، حتّى ملابسهم، لجنود إسرائيل. ولم يكن الأمر يقتصر على مجرّد السلب والنهب؛ بل كان يرافق ذلك الضرب والإهانة، وتوجيه فاحش القول للأهالي عند نهبهم، في مشهدٍ يجمع بين بشاعة الجُرم ودناءة الوسائل.

وكذلك لم يقتصر الأمر على السلب والنهب حبًّا في الكسب المعهود لدى اليهود، بل إنّ ذلك تجاوز إلى التخريب والإتلاف؛ فقد أتلفت وأعدمت السلطات الإسرائيليّة جميع سجلات وملفّات الحكومة في غزّة، ومنها سجلات الطابو. كما أتلفوا ما لم يستطيعوا حمله، كالأبواب والنوافذ، وحرفوا وأتلفوا الطرق المعبّدة بجرّاراتهم، ونسفوا عُدَد الهاتف والكهرباء، وكانوا أثناء تفتيش المنازل يعدمون أحيانًا الأوراق الشخصيّة القيّمة، كالشهادات المدرسيّة، وشهادات الخدمة، والصور العائليّة، ممّا يدلّ على روح الشرّ والنقمة والإيذاء عندهم.

كان من نتيجة فترة الاحتلال هذه أن عرف الناس مدى الفوضى، والفساد، والرشوة، والجوع لدى الأفراد اليهود. وأوّل ما لاحظه الأهالي هو عدم تجانس أفراد القوّات الإسرائيليّة في طلعاتهم وتصرفاتهم وطبائعهم، كما لاحظوا مشاركة المرأة الإسرائيليّة في الحياة العسكريّة، وأنّ كلّ مَنْ يعيش في إسرائيل هو جنديّ عند الحاجة.

أمّا مدى ما يعانيه اليهود من جوعٍ وحرمان، فقد بدا ذلك جليًّا من تصرّفات هؤلاء؛ فقد كان الجنود يلتهمون المأكولات بشراسة، وينهبون الموادّ الغذائيّة، وخاصّة البنّ والسكر، ثمّ السجائر. كما ظهر غير ذلك من المحاولات التي قام بها أفراد اليهود لتهريب هذه المواد وغيرها إلى داخل إسرائيل، ومنها الدقيق. وكان الجنود يدخلون خيام اللاجئين، ويشاركونهم في غدائهم، وأوّل ما كانوا يبحثون عنه الدجاج والبيض. وعندما استعطفت إحدى اللاجئات أحد الجنود بعدم أخذ دجاجاتها، ذكر لها أنّه لم يتذوّق طعم الدجاج منذ سبع سنوات، في حين أنّها لاجئة ولديها دجاج.

كما بدا للأهالي الانحلال والتفسّخ الخُلقي عند اليهود، وقد شاهد بعض الأهالي حوادث خُلقيّة مشينة بين الجنود والمجنّدات.

أمّا الرشوة، فقد كانت منتشرةً انتشارًا كبيرًا، وقد تمكّن الكثيرون من الأهالي من افتداء حياتهم، أو تجنّب الألم والإهانات عن طريق دفع بضعة جنيهاتٍ للجنود، أو تقديم الأشياء العينيّة لهم كالساعات والكلابيب وغيرها. بل تمكّنت عائلات المعتقلين من الأهالي من توصيل المأكولات والسجائر للمعتقلين عن طريق رشوة الجنود بالمال وبغيره؛ بل منهم من تمكّن من الخروج من السجن نظير دفع رشوةٍ للمسؤولين عن نسف منازلهم.

كما ظهر للأهالي جبن الجنود الإسرائيليّين، فقد كانوا يتجوّلون جماعاتٍ كبيرة، وإذا ما دخلوا المنازل لتفتيشها دخلوا جماعات، والرعب ظاهرٌ عليهم. ناحيةٌ هامّة ظهرت جليّة نتيجة هذه اللجنة، وهي أثر الفدائيّين العرب البالغ في إرهاب اليهود، وقضّ مضاجعهم، وإضعاف معنويّاتهم، وقد ظهر ذلك من محادثات الأهالي مع الجنود وفي أثناء تفتيش المنازل؛ فقد كان الجنود يبحثون في كلّ شبرٍ في القطاع عن الفدائيّين ورجال الجيش الفلسطيني، وكانوا يقولون: «إنّنا أتينا لننتقم لضحايانا من هؤلاء».

وقد كان مجرّد الشكّ في أنّ أحد الأهالي من الفدائيّين كافيًا للقضاء عليه، أو لسجنه في إسرائيل، أو لتعرّضه للضرب والإهانة. وبلغ من شدّة حقدهم أنّهم نسفوا نصب الشهداء التذكاريّ في مدينة غزّة. كما ظهر هذا الرعب من حديث اليهود المدنيّين الذين كانوا يأتون لزيارة القطاع، وكان مجرّد النطق بكلمة «فدائي» أمامهم كافيًا لبثّ الرعب في نفوسهم.

وكان في اعتقاد اليهود أنّ كلّ شابٍّ في القطاع هو فدائيّ أو جنديّ، وإن لم يكن كذلك فسيكون يومًا ما؛ ولذلك انصبّت فظائعهم على الشباب، واعتقل المئات منهم في سجون إسرائيل وغزّة، وتعرّضوا للتعذيب والإرهاب. وقد اكتُشفت جثثٌ عديدة بعد انسحاب اليهود من غزّة يوم 7-2-1957. ففي 24-2-1957 اكتُشفت شمال غزّة جثث 26 شخصًا من أبنائها الشباب الذين أُخذوا للتحقيق، كان منهم نسبة شبابٍ من عائلةٍ واحدة، وكان اكتشافها نتيجة سيول الأمطار الغزيرة، وظهر أنّ هؤلاء الضحايا قد قُتِلوا وعيونهم معصوبة، ودُفنوا في حفرةٍ واحدة. كما اكتُشفت قرب مطار غزّة بتاريخ 4-6-1957 جثث 26 أخرى، وفي قرية دير البلح اكتُشفت جثث 29 جنديًّا مصريًّا، وبلغ عدد الجثث التي اكتُشفت منذ انسحاب اليهود حوالي 220 جثّة.

وهكذا قُتل عشرات من الشباب بتهمة الفدائيّة، أمّا الذين عُذّبوا لنفس السبب فعددهم أيضًا كبير. وهناك حوادث عديدة، منها ما حصل مع اللاجئ «إبراهيم أبو طعمة» الذي اتُّهم بأنّه فدائيّ، وتعرّض لتعذيبٍ فظيع؛ فقد انهال عليه الجنود في السجن ضربًا بالنعال والسياط، وأطلقوا عليه كلابهم تنهش في لحمه، وتركوه دون علاج بعد أن تسلّخت قدماه وتسمّمت، ممّا اضطرّ الطبيب فيما بعد لبتر إحدى ساقيه. كما سلّطوا أحد وحوشهم الآدميّين على الطالب «عبد الله عوض الله» الذي أخذ يسومه العذاب، وينهش بأسنانه في جسده، وقد رأيت آثار ذلك بعد خروج اليهود من غزّة بثلاثة أشهر.

كما قُتل أحد اللاجئين، وهو «محمّد خليل» وعمره ٥٥ سنة، نتيجةً للضرب المبرّح؛ لأنّ ابنه كان فدائيًّا، وكان قد هرب إلى الأردن عند الاحتلال. ومع كلّ ما حصل، فمن الواجب توجيه الاهتمام نحو جعل شباب القطاع محاربين دائمًا، وإعداد فرق الفدائيّين منهم للاستمرار في قضّ مضاجع سكّان المستعمرات المجاورة، وإنشاء نَوَادٍ جيّدة فلسطينيّة عامّة، وتحويل آلاف اللاجئين إلى مجاهدين.

ويطيب لي أن أستشهد بما جاء في خطاب الرئيس «جمال عبد الناصر» عن الشعب الفلسطيني في غزّة وعن جيش فلسطين، فقد ذكر الرئيس في خطابه في المؤتمر التعاوني في 7 ديسمبر 1957 ما يلي:

«وفي غزّة حارب شعب فلسطين في ظروف بربريّة وقاسية، وأثبت هذا الشعب المقاتل أنّه متمسّك بحقّه في الحياة، وبحقوق فلسطين التي سبقتها الدول الكبرى، وبحقّه في وطنه. حارب الشعب الفلسطيني وهو يعلم أنّ الجيش المصريّ ينسحب ليجابه هجوم بريطانيا وفرنسا، ولكنّهم حاربوا دفاعًا عن شرفهم وكرامتهم. وقد أثبت هذا الشعب أنّه لم تؤثّر فيه الأحداث والمحن، وأنّه متمسّكٌ بقوميّته وعروبته وبقدرته على القتال».

كما ذكر «البكباشي علي السوري» الضابط العربي ونائب قائد الجيش الفلسطيني أنّ أيّام معركة خان يونس كانت أيّام مجدٍ وفخارٍ للجيش الفلسطيني وللشعب الفلسطيني.

لاحظ الكثيرون من الأهالي ومن المعتقلين الخلافات المستحكمة بين اليهود الشرقيّين واليهود الغربيّين، الذين ينظرون إلى اليهود الشرقيّين نظرة احتقارٍ وعدم تقدير، والذين يسيطرون على المراكز الهامّة في الجيش والإدارة، ويسكنون المدن ويسيطرون على الصناعة والتجارة، بعكس الشرقيّين الذين يعيشون في القرى، وخاصّةً في النقب، ويتعاطون الزراعة، ويعانون شظف العيش. كما صرّح الكثيرون من هؤلاء الشرقيّين بحقدهم على الغربيّين، وبألمهم من الظلم الواقع عليهم، وأسفهم لمغادرة البلاد العربيّة، ومدى الرفاهيّة التي كانوا ينعمون بها. بل منهم من تمنّى أن تتّحد كلمة العرب لتخلّصهم من إسرائيل.

وأعتقد أنّ هذه الناحية يجدر بنا استغلالها بطرقٍ عديدة، منها توجيه إذاعاتٍ خاصّة لهذه الفئات. كما لاحظ الأهالي أنّ هناك خلافًا شديدًا بين سكّان إسرائيل الأصليّين وبين هؤلاء الذين دخلوها سنة 1918؛ إذ يشعر الأوّلون بأنّ وطنهم قام على أكتافهم في الحياة والمدنيّة والحرّيّة، في حين يشاركهم القادمون الجدد ويهيمنون على مقدّراتهم، بل منهم من صرّح بذلك بجلاءٍ لمن يعرفه من الأهالي من قبل.

ناحية هامّة أودّ إبرازها، وهي موقف وكالة إغاثة اللاجئين كمنظّمةٍ دوليّة من هذه الحوادث في هذه الفترة، وبصفتها مسؤولة عن 220 ألف لاجئٍ يسكنون قطاع غزّة. لقد أصدر المدير العام تقريرًا عن هذه الفترة يبدو منه أنّه كان منصفًا فيه، وقد جاء فيه عدّة نواحٍ أودّ أن أذكرها.

لقد ذكر المدير العام أنّ القوات الإسرائيليّة عرقلت سير أعمال الوكالة، و«وجب على الوكالة تزويد الموظّفين العرب بتراخيص عملٍ تصدرها قوات الاحتلال، وأصيبت بعض سيارات الوكالة بالتلف أثناء القتال، واستولت قوات الاحتلال على بعضها الآخر ونهبت قطع غيار السيارات والإطارات والبطاريات». كما ذكر التقرير أنّ سير التعليم في مدارس الوكالة قد تعطل «إذ إنّ السلطات الإسرائيليّة قرّرت التحري عن المدرسين، وهم يزيدون على الألف، قبل السماح باستئناف العمل، كما قرّرت إعادة النظر في المنهج الدراسي».

والواقع أنّه كان من الواجب على وكالة الإغاثة أن تحمي هؤلاء اللاجئين، وأن تحتجّ احتجاجًا صارخًا على نهب ممتلكاتها، وأن تتعهّد بحماية اللاجئين، وأن يكون موقفها حازمًا مع السلطات الإسرائيليّة، خاصّةً وأنّها وكالةٌ منبثقة عن الأمم المتّحدة. وقد ذكر «لابويس» نفسه أنّ اللاجئين أصبحوا يطلبون حماية الوكالة لأرواحهم أكثر من توفير الإغاثة لهم.

موقف هامّ يجدر الإشارة إليه، وهو الاتّفاق الذي عُقد بين الوكالة والسلطات الإسرائيليّة للاستمرار في أعمال الإغاثة، وهو موقف جدير بالذكر، فقد جاء في هذا الاتّفاق النقاط الرئيسيّة التالية:

1. لا يتضمّن قيام الوكالة بالأعمال الطارئة في قطاع غزّة أيّ اعترافٍ منها بوضعٍ يخرق اتفاقيّة الهدنة المعقودة بين مصر وإسرائيل، أو مخالفٍ للقرار الذي اتّخذته الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة في دورتها الاستثنائيّة بتاريخ 1 نوفمبر 1956.
2. تخضع أعمال الوكالة في قطاع غزّة للتعليمات أو القرارات التي تصدرها الهيئات الرئيسيّة للأمم المتحدة.
3. تكفل الحكومة – جهد استطاعتها – حماية موظّفي الوكالة ومنشآتها وأموالها، وتسمح لموظّفي الوكالة المحلّيين بالتنقّل داخل القطاع وفقًا لأنظمة السلطات العسكريّة.

وعندما استعرض المدير الحوادث التي حصلت، ذكر أنّ هناك تقاربًا في تفسير وقوعها، وذكر بالنسبة لمدينة خان يونس: «إنّ المدير تلقّى من مصادر يثق بها قوائم بأشخاص قيل إنّهم قُتلوا يوم 3 نوفمبر 1956، وعددهم 275 شخصًا، منهم 140 لاجئًا و135 من السكّان المحليّين». وعندما أتى على ذكر مدينة رفح، ذكر أنّه في 12 نوفمبر وقع حادث خطير في معسكرات اللاجئين في رفح، وإنّ السلطات الإسرائيليّة ومصادر الوكالة تتفق على أنّ قوات الاحتلال قتلت وجرحت عددًا من اللاجئين في ذلك اليوم.

وعند استعراض هذه الحوادث، أذكر أنّ هناك اختلافًا في تفسير أسبابها، إلا أنّ الآراء متفقة على أنّها وقعت أثناء عمليّة تحقيقٍ قامت بها القوات الإسرائيليّة، وإنّ السلطات الإسرائيليّة تقول إنّ اللاجئين أبدوا مقاومةً لعمليّة التحقيق والبحث عن الفدائيّين وأفراد الجيش الفلسطيني. ويضيف التقرير: «إنّ عدد القتلى في ذلك اليوم بلغ 111 شخصًا، منهم 103 من اللاجئين، و7 من السكّان المحليّين، ومصريّ واحد».

ويذكر التقرير أنّ الوكالة احتجّت على هذه الحوادث لدى الحكومة الإسرائيليّة، وذكرت أنّه ما لم يُوضع حدٌّ لمثل هذه الحوادث، فيستحيل على الوكالة الاستمرار في أعمالها بين اللاجئين، وأنّ وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة وعدت بأن تعمل جهدها كي تضمن عدم تكرار وقوع مثل تلك الحوادث.

يبدو من استعراض التقرير المشار إليه أنّ موقف الوكالة الرسمي كان منصفًا وحياديًّا، إلا أنّ الواجب كان يتطلّب أن يكون هذا الموقف أكثر قوّة، وألا يقف عند الاحتجاج، خاصّةً وأنّ عدّة مراكز للوكالة تعرّضت للسلب والنهب، وإنّ الوكالة مسؤولة عن توفير التموين والخدمات الصحيّة والتعليمية والحماية للاجئين، خصوصًا بعد انتهاء القتال.

وقد كان موقف بعض موظّفي الوكالة الأجانب – في الفرد – موقفًا غير حيادي؛ فمنهم من اهتمّ بحماية موظّفيه، ومنهم من منعته السلطات الإسرائيليّة من الوصول إلى معسكرات اللاجئين، كما لم تقم الوكالة بتوفير أسباب المعيشة الطبيعيّة لموظّفيها من المصريّين المدنيّين. كما كان البعض منهم يدعو لتدويل القطاع، بل إنّ أحدهم – واسمه «Jameson» – طلب من كبار الموظّفين تهيئة أنفسهم لإنشاء إدارةٍ خاصّة بالسكان الأصليّين في القطاع برئاسته للإشراف على شؤونهم، كجزءٍ من برنامج تدويل القطاع.

أمّا رجال مراقبة الهدنة، فقد سلبتهم السلطات الإسرائيليّة سياراتهم وآلات اللاسلكي لديهم، إلا أنّ موقف رئيسهم «Bayard» كان رائعًا، فقد آلمه ما شاهد من حوادث، وخاصّة حادث اللبابيدي، فاصطدم بالحاكم اليهودي، كما اتصل ببعض أعيان وشباب المدينة، وعمل على إيصال استغاثة الأهالي بشكل رسالتين موجّهتين إلى «هامرشولد» نفسه. وقد أرسل هذا مندوبين للتحقيق في الفظائع، إلا أنّ هذين المندوبين لم يقوما بالتحقيقات الوافية، كما كان يرافقهما ضباط المخابرات الإسرائيليّة، ممّا لم يتح للأهالي الإعراب عن آلامهم. ومع ذلك، تمكّن مدير معسكر رفح للاجئين من سرد الفظائع والويلات أمامهم لعدم وجود آخرين معهم.

وكان يتردّد على القطاع صحفيّون أجانب، إلا أنّ معظمهم لم يتمكّن من أن ينفرد بالأهالي للوقوف على الحقائق الفعليّة، بل منهم من عمل على إضعاف معنويّات الأهالي. وأبرز ما حصل هو عند زيارة «Dorothy Thompson» الرئيسة السابقة لجمعية أصدقاء الشرق الأوسط، فقد زارت معسكر قرية جباليا، وتحدّثت مع المخاتير، وكان يقوم بالترجمة أحد موظّفي الوكالة الذي ذكر لي أنّها صرّحت للأهالي بأنّ عليهم الاستسلام للأمر الواقع، والقبول بحكم إسرائيل، لأنّ مصر والدول العربيّة قد تخلّت عنهم، ولا أملَ لهم، وإنّهم قد هُزموا من إسرائيل وحدها، وأنّهم يجب ألّا يعتمدوا على مصر أو أمريكا أو الأمم المتحدة التي لن تستطيع عمل شيء بالنسبة لهم.

ناحية هامّة يجدر ذكرها، وهي تلك الروح المعنويّة الرائعة التي كان يتحلّى بها أهل القطاع؛ فبالرغم من هذه الويلات، فإنّ إيمانهم لم يتزعزع، فقد شاءت ظروفهم النفسيّة أن تحكمهم عصابات إسرائيل نتيجة مؤامرةٍ غادرة، ومع أنّهم كانوا يعيشون في سجنٍ رهيب وفي ظلّ حكمٍ شديد، ومع انعزالهم عن العالم العربي، فإنّهم كانوا يؤمنون في قرارة نفوسهم بأنّ يوم النصر آتٍ وإن طال به الأمد، وأنّ من ورائهم الشعوب والحكومات العربيّة تشدّ أزرهم وتهدّد مصالح الغرب لأجلهم. كما لعبت الإذاعات، وركن فلسطين، دورًا هامًّا في تقوية عزائمهم، وخاصّةً إذاعة «صوت العرب» وركن فلسطين فيها، وكذلك اتّصال إدارة المخابرات المصريّة ببعض الأهالي بعد انسحاب المعتدين من منطقة الفخّار.

ولقد ألّفت النكبة الفادحة بين قلوب الأهالي ووحّدت مشاعرهم، فتضامنوا لخير القطاع وتساعدوا في مؤازرة عائلات الشهداء والمعتقلين قدر المستطاع. كما كان موقفهم من العائلات المصريّة في القطاع موقفًا رائعًا، فقد اعتقل اليهود جميع المصريّين من مدنيّين وعسكريّين، ثم أسكنوا عائلاتهم في منطقةٍ محدّدة في مدينة غزّة، وأحاطوها بالأسلاك الشائكة، وفرضوا عليها الحراسة، ومنعوا اتّصال الأهالي بها. ومع ذلك استطاع الأهالي – بوسائل عدّة، منها الرشوة والحيلة والشجاعة – أن يستمرّوا في مدّ هذه العائلات بالمأكولات والنقود، وأن يشدّدوا من أزرها، ويقوّوا من عزيمتها، وأن ينقلوا أخبارها ورسائلها لأربابها. وقد ذكرت الصحافة المصريّة الكثير عن ذلك على لسان العائدين من المدنيّين المصريّين، ومن ذلك ما جاء في جريدة «الأهرام» المصريّة بتاريخ 29 يناير 1957 – حيث كانت غزّة لا تزال تحت الحكم الإسرائيلي – تحت عنوان «ما قلّ ودلّ» بقلم الأستاذ أحمد الصاوي: «تحيّة لأهل غزّة الأبطال، تحيّة لرجالها ونسائها، وتحيّة لأطفالها».

حدثني القاضي الأستاذ صلاح عبد المجيد بما يجعلنا مدينين لهم على الدوام؛ إذ كانوا خلال الاعتقال يحرِمون أنفسهم ويزوّدون الأسرى بالملبوسات والطعام والنقود، وكانوا يلقون إليهم بعشرات بل بمئات الجنيهات أحيانًا من وراء الأسلاك الشائكة، ليتمكّنوا من شراء ما هم في حاجةٍ إليه. أمّا يوم علموا بإبعادهم عن غزّة، فقد سرى النبأ بينهم، وكان يوم حداد، وخرجوا من الساعة الخامسة صباحًا يودّعون المصريّين ويهتفون لمصر والعروبة وجمال عبد الناصر. كما بذل الأهالي جهدهم في إخفاء عشرات الجنود، وإخفاء أسلحتهم.

إلا أنّ الناحية الهامّة التي أودّ ذكرها تحت هذا البند هي الحركة الوطنيّة والمقاومة الشعبيّة التي نُظّمت في غزّة أثناء الاحتلال اليهودي، والتي شملت شباب القطاع المثقّف، ولعبت دورًا هامًّا في رفع معنويّات الأهالي وفي المقاومة السلبيّة لإسرائيل الغاشمة.

تألّفت الحركة الوطنيّة – في بداية أمرها – من بعض شباب المدينة المثقّف بعد دخول اليهود بأربعة أيّام، بغرض تكتيل جهود الأهالي وتوحيد اتّجاهاتهم وتصرفاتهم نحو السلطات الحاكمة، وذلك عن طريق الاجتماعات والاتصالات الشخصيّة. ثم اتّسعت هذه الحركة، وألّفت لجنة وطنيّة تضمّ حوالي ألفَي شاب، تكوّنت منهم لجنة تعمل على طبع المنشورات السرّية، وعلى توجيه الأهالي، والرّد على الدعايات الصهيونيّة السامّة، ومهاجمة أصحاب النفوس الضعيفة.

فصدر أوّل منشور يدعو للأمل، ولعدم الاستسلام لليأس، وعدم التسلّل من القطاع، ويوضّح قرارات الأمم المتحدة وقوّة الرأي العام العربي والعالمي. ثم صدر المنشور الثاني يدحض فكرة التعديل، ويدعو لعودة القطاع إلى سابق عهده، وللجلاء التامّ غير المشروط. وكان المنشور الثالث يدعو للمقاومة السلبيّة، ويوضّح العلاقات الوثيقة التي تربط القطاع بمصر. وبعده صدر المنشور الرابع، ويحتوي على ميثاق وطني، كان أهمّ ما جاء فيه الاتّفاق والإصرار على عودة مصر إلى غزّة، وانسحاب إسرائيل، ومقاومة التعديل والاستعمار والصهيونيّة، والمطالبة بالحكم الذاتي عند عودة الإدارة المصريّة إلى القطاع، وتأييد الوحدة الفدراليّة العربيّة.

وقد كانت المنشورات تُعلّق في شوارع غزّة في الليل، وساهم أطفال في ذلك، كما انتشرت بين صفوف الأهالي. ثم اتّجهت هذه المنشورات نحو إذكاء روح المقاومة الشعبيّة السلمية، وكانت تدعو التجّار لعدم فتح محلاتهم، والموظفين لعدم تأدية واجباتهم، والطلاب لعدم الذهاب إلى المدارس، وتحذّر من تضعف نفسه وتخاذل عزيمته. وكان ذلك ردًّا على مختلف الوسائل التي اتّبعتها السلطات الإسرائيليّة لكسب ودّ الأهالي بعد استقرار الأمور، ولإعادة الحياة المدنيّة الطبيعيّة؛ فقد ضغطت على أولياء أمور الطلاب لإرسال أبنائهم إلى المدارس، وهدّدت بقطع بطاقات الإعاشة عنهم، واستحضرت مندوبًا عن وزارة المعارف الإسرائيليّة، وعقدت اجتماعًا في مدرسة فلسطين حضره بعض الرجال بالقوّة، ووعد الحاكم بفتح المدارس، ثم فتح أبواب الجامعة العبريّة أمام الطلاب.

ومع ذلك، وقف أحد وجهاء المدينة خطيبًا في الناس، وذكر لهم أنّ المدرسة عربيّة بُنيت بأموالٍ عربيّة وأيادٍ عربيّة، وأنّها لن تفتح أبوابها إلا عند عودة الإدارة العربيّة لغزّة. وكانت نسبة حضور الطلاب لا تتجاوز ١٠٪، وحتى المرضى في المستشفيات رفضوا أن يعالجهم الأطباء اليهود، كما استجاب معظم التجّار للنداء، أو عمد الجنود إلى فتح محلاتهم بالقوّة.

كما عمدت السلطات الإسرائيليّة إلى الضغط على أعيان خان يونس وغزّة لإصدار بياناتٍ يؤيّدون فيها حكومة «بن غوريون» ويطلبون منها البقاء في القطاع، فرفض الأهالي رغم الوعيد. كما طلبوا من رئيس بلدية غزّة السيّد رشدي السقّا أن يسافر إلى الأمم المتحدة ويدعو لذلك، فقدم استقالته للحاكم. وكانوا يجبرون الأعيان على حضور الحفلات أو مشاهدة الاستعراضات.

لقد جنّ جنون السلطات الإسرائيليّة نظرًا لقوّة هذه الجبهة الوطنيّة، وعمدت إلى مكافحتها، فاعتقلت حوالي 70 شابًا مثقّفًا من أعضائها، وزجّت بهم في السجون يتعرّضون لأفظع أنواع الضرب والإهانة، وينامون على الأرض، ويعانون الجوع. وكان رجال المخابرات اليهوديّة يحاولون بالحيلة الوصول إلى معلوماتٍ عن هذه الحركة فلم يستطيعوا، فعمدوا إلى الشدّة والضرب.

وقد حصلت عدّة حوادث – معظمها مع هؤلاء الشباب المثقّفين – منهم الشاب «عيسى سابا» الذي حاولوا إغراؤه بإثارة النعرة الطائفيّة، وعندما فشلوا معه ذكروا له بأنّ اليهود صلبوا المسيح، وليس هناك ما يمنعهم من قتله. واستمرّوا في ضربه وتعذيبه إلى أن استحلّهم بأن يقتلوه ليستريح، فرفضوا. كما ضربوا أحد هؤلاء الشباب وهو «سعيد فليفل» من موظفي وكالة الإغاثة ضربًا مبرّحًا في ساحة السجن أمام المعتقلين ومنهم والده، ومع ذلك لم يعترف.

كما اعتقلوا نائب رئيس البلدية الأستاذ «منير الريّس» وقاضي صلح غزّة «فاروق الحسيني» بتهمة التعاون مع الجبهة الوطنيّة ولرفضهم تلبية الدعوة لزيارة تل أبيب، وبقي هؤلاء 62 يومًا في السجن يعانون الشدّة والبرد، ولم يُسمح لهم خلالها بتغيير ملابسهم. وكان الحاكم اليهودي يحقّق معهم وهو يداعب مسدّسه بيده.

واتّجه الحاكم نحو خوري الطائفة اللاتينيّة الأب «يوحنا النمري» يحاول استمالته، ولكنه ثار في وجهه وأظهر شجاعةً فائقة، ورفض إقامة صلاة عيد الميلاد احتجاجًا على الإرهاب، وحدادًا على أرواح الشهداء الأبرياء، بالرغم من تهديد ووعيد الحاكم؛ بل إنّه أقام صلاة شكر عند انسحاب القوات الفرنسيّة والبريطانيّة من بور سعيد، ودعا لمصر ولرئيسها بالنصر، ودعا الله أن ينعم على غزّة بنعمة الجلاء والحرّية. وممّا هو جدير بالذكر أنّ هذا الراهب كان يُخفي عشرات الضباط المصريين في سرداب الكنيسة.

لقد نجحت حركة المقاومة السلبيّة وأعمال الجبهة الوطنيّة في غزّة، ولعبت دورًا هامًّا، وتعرّض الكثيرون من أعضائها للتعذيب، وبقي عشراتٌ منهم في السجن إلى أن أخرجتهم منه قوات الطوارئ الدوليّة.

وإذا ما ذكرتُ هذه الوقائع فلا بدّ من ذكر الواقع، وهو أنّ هناك بعض الأشخاص ممّن ضعفت نفوسهم وقلّ إيمانهم، قد تعاونوا مع القوات الإسرائيليّة لأسبابٍ مختلفة، منها الحاجة إلى المال، أو أنّهم سجناء أطلق اليهود سراحهم، أو من بعض العرب القاطنين في إسرائيل المتعاونين مع اليهود، ومعظمهم من البدو الجهلة. كما أنّ بعض الأهالي لم تكن لديهم قوّة العزيمة ورباطة الجأش، فاستسلموا للواقع وجرفهم التيّار. وهؤلاء قد نجد لهم العذر فيما شاهدوه من فظائع ووحشيّة، وفي غريزة حبّ البقاء، وهي غريزة إنسانيّة طبيعيّة. كما أنّ كلّ أمّةٍ في كلّ زمن لا تخلو من ضعاف النفوس ومن الخونة المارقين، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة، إلا أنّ هؤلاء قلّة، ويجب ألّا نأخذ المجموع بجريمتهم.

ولقد بلغت من قوّة الجبهة الوطنيّة أن استطاع بعض أفرادها اغتيال أحد المتعاونين مع اليهود في وضح النهار، وفي وسط مدينة غزّة، ممّا أفقد اليهود صوابهم، فبحثوا عن الجناة بعد أن عرفوا أسماءهم من بعض أعوانهم، فلمّا لم يجدوهم أحرقوا منزل أحدهم، واعتقلوا أخا الآخر، وأخذوه معهم إلى إسرائيل، وأفرجوا عنه بعد انسحابهم بأربعة أشهر، واسمه «محيي الدين الجمل»، بعد أن ساموه ألوان العذاب، وأحرقوا شعر جلده، وانتزعوا شعر رأسه، وكانوا يجبرونه على أكل شعره، وبعد أن سلّطوا التيار الكهربائي عليه، وضعوه في ثلّاجة عدّة ساعات إلى أن أشرف على الموت، ثم أطلقوا عليه الكلاب، وكلّ ذلك انتقامًا من أخيه.

أمّا اسم الخائن الذي لقي حتفه فهو «محمد العرايشي» من أهالي مدينة العريش، وكان محكومًا عليه بالسجن المؤبّد للاتجار بالمخدرات، فأطلق اليهود سراحه ليتعاون معهم، بعد أن كان يتعاون معهم في بيع المخدّرات.

كلمة أخيرة أرغب في ذكرها، وهي أنّ السلطات الإسرائيليّة كانت تعتقد أنّها باقية في جزءٍ من القطاع، يعاضدها في ذلك الغرب، وقد عمدت إلى البدء في أعمالٍ توحي للناس بذلك، فاستقدمت مندوبين من وزارات المعارف والصحّة والتجارة وغيرها، وبدأت في رسم المشاريع العمرانية، وتعيين أعضاء البلديات والمجالس الفردية، واستبدلت النقود المصرية، وسهّلت هرب بعض الشباب من القطاع الذين هربوا خوفًا على حياتهم. وهي بذلك كانت تعهد لحكم غزّة إمّا متفردة أو تحت نظام التدويل، وأيّدت اتجاهها ببثّ الدعاية لذلك، وبإضعاف الروح المعنوية لدى الأهالي، والقضاء على العناصر المقاومة، وإظهار مصر والدول العربيّة بموقف المتخلّي عن قطاع غزّة.

ولكن مقاومة الأهالي، واتّحاد الشعوب والحكومات العربيّة، وضغط الرأي العام العالمي، والتهديدات الروسيّة، وتهديد مصالح الغرب البترولية والملاحية، كلّ ذلك أدّى إلى تحرير هذه البقعة الغالية من الوطن العربي، بعد أن عاشت فترةً عصيبة أحسّ بها الأهالي وكأنّها سنوات طويلة، وبعد أن عانت من حكمٍ وحشيٍّ إرهابيّ لم يَرَ له التاريخ مثيلًا، وبعد أن مرّت بتجربة فريدة مريرة في حياة الأمّة العربيّة.

لقد علّمتنا هذه المحنة القاسية أن نثق بأنفسنا وبإمكانياتنا وبقدرتنا، خاصّة إذا ما اتّحدنا، كما علّمتنا المقاومة الشعبيّة والروح المعنويّة، وكذلك زادت من تصميمنا على الثأر والانتقام لضحايانا العديدين من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء.

لقد قدّم الشعب الفلسطيني مواكب من الشهداء، وقد آن لنا أن نثأر وأن نستعيد وطننا السليب إلى الوطن العربي الكبير، ويوم نزول إسرائيل نطمئن أرواح الشهداء في مقرّها الأخير، ويجد المشوّهون والمُعذّبون عزاءً لمصابهم، وتهدأ نفوس عائلات الضحايا والشهداء.

فكم من زوجة فُجعت بزوجها أمام ناظريها! وكم من أب فُجع بوحيده بين يديه! وكم من طفلٍ فقد والده أمام عينيه!

وإذا ما أنعم الله على قطاع غزّة بالحرّية، فهل ننسى ما خلفته هذه النكبة من مآسٍ ونكبات؟! وهل ننسى أنّ كلّ شهيدٍ سقط هو شهيد العروبة، وأنّ كلّ شرفٍ انتُهك هو شرف الأمّة العربيّة؟!

لقد جلَت إسرائيل، إلا أنّها خلّفت وراءها في قطاع غزّة حوالي 850 شهيدًا، و650 مشوّهًا وجريحًا، و2000 مفقودٍ لا يُعلم أمرهم، وأغلب الظن أنّهم أضيفوا إلى سجلّ شرف الاستشهاد، ولحقوا بمواطنيهم، أو أنّهم لا يزالون يلاقون صنوف العذاب.

هل ننسى عائلات الشهداء، وهل ننسى مئات الجرحى والمشوّهين؟!

ألا يجدر بنا أن نمدّ يد العون لهم، فنكفكف دموعهم، ونوفّر لهم سُبل العيش، فنقوم بأقلّ ما يفرضه الواجب تجاه من افتدوا العروبة بدمائهم وأجسادهم؟!

لعلّنا نفعل ذلك، ولعلّ هذه المحنة تذكّرنا بواقع قطاع غزّة الذي يضمّ 250 ألف شخص، منهم 220 ألف لاجئ، ضاقت في وجههم سُبل العيش، وأحاط بهم العدو من الشمال والشرق.

لا بدّ من تعاون العالم العربي لإغاثة أهالي هذا القطاع، وهو البقيّة الباقية التي تحمل اسم فلسطين، فلنكفكف دموع عائلات الشهداء، ولنساعد هؤلاء مع مئات الجرحى المُعذّبين، ولنمدّ يد العون لأهالي القطاع، فنصنع منهم جنودًا وفدائيين، ويوم تحين معركة الثأر يسير هؤلاء في طليعة ركب التحرير، فيثأرون لشهدائهم، وينتقمون لجراحاتهم.

يجب علينا ألّا ننسى هؤلاء، فمن عللنا – وما أكثرها – النسيان، وعلينا أن نذكر أبناءنا بمآسينا وشهدائنا، وأن ندرّس أبناءنا تجاربنا وآلامنا، وأن تتعاون في ذلك الحكومات والشعوب عن طريق الكتب المدرسية وغير المدرسية، والمعارض، والصور الفوتوغرافيّة، واللوحات الزيتية التي تُعلّق في المدارس والنوادي، وعن طريق أدبنا القومي الذي يصوّر آلامنا وتجاربنا وأمانينا، وما أكثرها! وما أقلّ ما نعمل نحوها!

# طوفان الأقصى # حرب غزة # تاريخ # غزة # فلسطين

ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزة
ماثيو دي ليسبس: أبو فردينان الذي أوصل محمد علي لعرش مصر
الفسطاط: المدينة الأم بين يقظة النص وذاكرة الحجر

مجتمع