فن

مسلسل «لام شمسية»: العنف الجنسي كأزمة فردية

«لام شمسية».. دراما نفسية تفتّش في العنف الجنسي كخلل مجتمعي، وتكشف كيف يتحوّل السر إلى لحظة تعرٍّ تفضح العائلة والسلطة والوعي الزائف.

future الملصق الدعائي لمسلسل «لام شمسية»

ضمن الأعمال الدرامية المعروضة في النصف الثاني من رمضان، هيمن مسلسل «لام شمسية» على النقاش المجتمعي، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي.

العمل الذي يأتي كتعاون جديد بين ورشة سرد بإشراف مريم نعوم كتابةً، وكريم الشناوي إخراجًا، حاز على القدر الأكبر من الإعجاب والرفض، والقبول والسخط النقدي والجماهيري من أصحاب أيديولوجيات وخلفيات متنوعة.

يدور «لام شمسية» حول قضية محددة كعادة الأعمال التي تتولى كتابتها ورشة سرد. القضية هنا ومحور الأحداث هو التحرش أو الاعتداء الجنسي على الأطفال، في حالة العمل الذكور منهم، وتحديدًا الطفل يوسف (علي البيلي) الذي تتمحور حوله الأحداث في دراما عائلية متشابكة ومشدودة.

اختيار القضية الحريص والعاجل والمثير للجدل في الآن نفسه، جعل «لام شمسية» عملًا منتظرًا، مع تخوفات مسبقة من تحوّله إلى محاضرة توعوية حول موضوعه. لكن في حلقاته الأولى، جاء العمل في صورة دراما أشبه بالرعب النفسي، يضع لغزًا في وسط أحداثه، لغزًا محلولًا لكن تحيط به خطوط مفتوحة وأسرار مكتومة تنكشف، بكشفها صورة عائلية وطبقية تبدو مثالية على السطح.

طيلة مدته قبل حلقتيه الأخيرتين، أثار «لام شمسية» خطابًا اجتماعيًا ونفسيًا وأيديولوجيًا حوله، بشكل جاد ومشتبك مع ما يقدمه من المزج بين التوعية باستخدام أطباء نفسيين حقيقيين، ورسم خطوات للفعل السريع في حال تعرّض أحد المشاهدين لحالة مشابهة من داخل سياق الكتابة الدرامية نفسها. لكن مع اقتراب نهايته، تحوّل مزاج العمل ومعه مزاج الخطاب حوله، بين تكهنات بتدخلات رقابية أفسدت عملًا فنيًا جادًا، ونفي لتلك التدخلات.

السر كمحرّك للأحداث

يدور «لام شمسية» حول عائلة ذات خيوط وأطراف متداخلة، تتوسطها أسرة نيللي (أمينة خليل) وزوجها طارق (أحمد السعدني) ويوسف (علي البيلي) ابن طارق الذي تعتبره نيللي ابنها. يؤسس العمل لعلاقاته بافتتاحية تقع أحداثها في حفل عيد ميلاد يوسف. من خلال الحفل، يُقدَّم أفراد الأسرة والعالم بالتدريج، وتُعطى نبذة عن حياة كلٍّ منهم وعلاقته بالآخر.

بعد إرساء الأسرة الرئيسية، تأتي فروعها: والدة يوسف البيولوجية هبة (أسيل عمران)، وصديق طارق المقرّب وسام (محمد شاهين) وزوجته رباب (يسرا اللوزي) وابنته زينة (ياسمينا العبد) ووالدته نادية (صفاء الطوخي). تتعقّد شبكة العلاقات أكثر بظهور إيمان (يارا جبران) زوجة والد نيللي وابنتها الصغيرة أخت نيللي، وما ينتج عن تلك الديناميكية من توترات.

ترسم الحلقة الأولى والعمل هيئة عائلية مثالية تختبئ خلفها أسرار وضغائن خفية. حفل عيد الميلاد يُعنى بخلق تلك الصورة والشكل الذي ترغب الأسرة المحورية في أن تظهر به. تعمل كل الخلافات والتوترات الجانبية كمنغصات هامشية، حتى تنتهي الحلقة بالحدث المحوري: شهادة نيللي على فعل تعدٍّ جنسي – أو هكذا تراه – من وسام تجاه يوسف من خلال باب زجاجي مضبب، يتسبب انهيارها ومواجهتها لصديق زوجها المقرب في عراك ينتهي برقود وسام في المستشفى بإصابة دماغية، يمكن أن يتخطاها أو تنهي حياته، وحبس طارق بتهمة التعدي عليه بالضرب.

محمد شاهين في دور وسام من مسلسل «لام شمسية» 2025

في الحلقات الأولى، التي يخرج فيها السر إلى العلن ويبقى صاحب السر في غيبوبة، يعمل «لام شمسية» كمسلسل رعب نفسي، عبر الترقب والتشكك والصور الكابوسية. يخلق الكشف مواجهات تهدّد تناغم الحياة الأسرية مرتفعة المستوى المادي والاجتماعي، كما يخلق خطابًا حول صعوبة تصديق الشهادات، خاصة الصادرة من أفواه النساء.

في هذا الإطار، تظهر شخصية طارق، الذي يكذّب زوجته ويعاملها كشخص فاقد للأهلية. يمثل طارق نموذجًا متنحيًا عن الأسرة المثالية، يخوض علاقة خارج الزواج مع نهال (ثراء جبيل) زميلته في العمل، ينتج عنها حمل. يظهر طارق ووسام متورطين في أخطاء بعضهما، حافظَين لأسرار بعضهما، في علاقة تعاضد رجالية تخفي وتحمي، وتوهم وسام بالأمان.

بعدما يستفيق وسام – الذي يطرح العمل بشكل غير حاسم إمكانية براءته – تتعقد العلاقات أكثر. فيتخذ «لام شمسية» من مفهوم السر/الكتمان منهجًا لتحريك السرد. عندما ينكشف السر الأكبر، وتخرج بقية الأسرار من إطار الكتمان إلى البوح، تصبح الخلافات كلها في حالة من الانكشاف.

يبدأ يوسف في استيعاب حقيقة السر الذي يحتفظ به لحماية وسام، وأنه ليس دليلًا على الحب. تبدأ نيللي في استيعاب حجم مشكلاتها مع طارق، ومشكلاتها مع ماضيها وعلاقتها المعقدة بجسدها. تتحول حال الشخصيات من الداخلي إلى الخارجي، وتهدم الحوائط الساترة لحياة كلٍّ منهم السرية/المزدوجة.

حياة وسام السرية كأستاذ جامعي محبوب ولطيف ومتعدٍّ جنسي متسلسل في الخفاء، يستهدف المستضعفين من الأطفال والمراهقين. علاقات طارق خارج إطار الزواج، وتجاهل نيللي لمشكلاتها الزوجية وعلاقتها بجسدها وماضيها الصادم. مع صدمة السر المروّع، يسقط شكل من التهذيب الطبقي، لتصبح العلاقات الاجتماعية والجروح الذاتية أكثر وضوحًا وصدامية.

أحمد السعدني وعلي البيلي من مسلسل «لام شمسية» 2025

عالم منغلق على ذاته

في عالم «لام شمسية» تنشأ العلاقات بين أفراد محدّدين في دوائر واحدة، وكأنه يدور في قرية صغيرة، الجميع على معرفة بالجميع. نيللي تعمل في مدرسة تديرها نادية، والدة وسام صديق طارق، وتتولّى قضية طارق ثم قضية يوسف، إيمان زوجة والد نيللي. يقدّم «لام شمسية» حكايته في عالم اجتماعي شديد الانغلاق والتقارب، على الرغم من اختياره الطبقي بجعل المنازل في منطقة ليست مسوّرة في كومباوند سكني، بل في المعادي، مما يموضع العائلة بتفرعاتها في مكان وسط بين الطبقة العليا المنفصلة تمامًا عن متن المدينة، والطبقة المتوسطة المتورطة بها بالكامل.

يعمل اختيار الطبقة كذلك على تكثيف الجهود السردية والتوعوية في إطار ما يجب فعله، لا في إطار ما هو متاح. في عالم الأسرة، يمكن بسهولة التوصّل لأفضل الممارسات المتعلقة بالتعامل مع طفل مُعتدى عليه، من خلال أولًا: أخصائية اجتماعية تعمل في المدرسة تنصح وتقلق وتهتم، ومن خلالها تتصرف الأم/ولية الأمر الحالية حسب ما يجب، دون مشكلات مادية أو وصمية، إلا في إطارات محدودة. تعرض طفلها على طبيب نفسي، ثم تلجأ للقضاء.

يتناول كريم الشناوي ومدير التصوير مصطفى فهمي بصريًا الحياة خارج عالم العائلة المنغلق على ذاته بشكل مجرّد. تظهر المباني المسكونة في صفوف هندسية تخلق شكلًا من الفوضى الجمالية، بخطوط رأسية وأفقية تشير إلى وجود حيوات أخرى خلف تلك المكعبات المصمتة. تظهر الشوارع المتحرّكة بكباريها وسياراتها دون أصواتها، وكأنها تحليلات لحركة مدينية تقع خارج عالم الشخصيات، حياة تعمل بشكل ميكانيكي حولهم، لكنهم ليسوا جزءًا منها. بينما تتحرك الشخصيات في مساحاتها الداخلية -داخل المنازل المصمّمة والمضاءة بعناية- والمدارس والمكاتب والحدائق، دون تورّط في الحياة خارج إطار القرية الصغيرة التي خلقوها لأنفسهم.

العنف الجنسي كخلل في النظام

يتراوح «لام شمسية» في طرحه لامتيازات طبقته المختارة، وامتيازات النوع/الجنس، بين الخيارات المغامرة والخيارات المحافظة. يرسم شخصية وسام في حلقاته الأولى بواقعية ملموسة: رجل لطيف، ودود، حريص على خلق شبكة متفرعة ومعقدة من العلاقات الاجتماعية التي تؤمّن ممارساته السرية. كما يموضع نفسه كأستاذ جامعة ومدرّب مسرحي ومدرّس لغة عربية خاص، في الأطر التي تمكّنه من الوصول إلى الأطفال والمراهقين، بثقة تامة من الأهالي، وثقة أكبر بالطبع في صديقه المقرّب، الذي يخضع ابنه لعلاقة صداقة/تلاعب يظن الطفل أنها حب ورعاية.

تُعدّ هذه العلاقة، في بدايتها، إحدى الخيارات المغامرة في العمل: ميل يوسف للجاني، شعوره الحقيقي بالحب والغيرة تجاهه حين يسحب اهتمامه بعد تهديده بالكشف، التورّط في شكل من الرغبة الطفولية في الرعاية من رجل من جنس أبيه كبديل عن أب مهمل.

يتعامل «لام شمسية» بحساسية ودقة مع يوسف، الضحية، الطفل القادم من عائلة مفككة. يدخل في أعماقه وميله للمعتدي عليه، كما يرسمه كطفل بالغ الرقة والتفهم، ذو حساسية لطاقة من حوله، وهو ما يجعله ضحية ملائمة لوسام. يظهر يوسف كذلك كطفل ذكر غير عنيف وغير ساخر، بتوقٍ للحب والرفق، قادر على الاحتواء والتعاطف. في مشاهد تجمعه مع نيللي زوجة أبيه أو زينة ابنة وسام، يظهر يوسف قدرة على المواساة والتقمص الشعوري، ويعبّر عن ذلك من خلال العناق والغناء. يُنتج العمل إطارات حميمة لأشكال من التعاضد العابر للسن وصِلة القرابة، ويشكّله بصريًا من خلال تأطير الأجساد المتقاربة في تفهّم، كطفل يحتضن والدته في قلب للأدوار، أو يحتضن فتاة تكبره بسنوات لأنه يشعر بثقل تجربته الشخصية عليها.

يتخطّى العمل خياراته المغامرة سريعًا، بإصدار التشخيصات النفسية والتعريفات العلم نفسية، عن طبيعة العنف الجنسي والفرق بينه وبين البيدوفيليا، بالإشارة إلى فرط الرغبة الجنسية أو إدمان الجنس كمفسّر رئيسي للتعدي على الأطفال. بعد طرح الأسباب القادمة من أخصائيين حقيقيين، يبدأ العمل، ومعه شخصية وسام، في أخذ أشكال جديدة. يظهر حلقة بعد حلقة عدم اقتصار وسام على الأطفال، أي علاقة بالغ قادر على الموافقة بقاصر غير قادر. يظهر وسام كرجل مهووس بالحصول على المتعة بشكل خفي، في بيوت البغاء المستترة، وبمراقبة المراهقات. تصبح الشخصية جامعة لأشكال متنوعة من التصرفات الهوسية، لم تعد تقتصر على علاقات القوى غير المتوازنة بينه، كبالغ، وبين تلاميذه من الأطفال على عتبة الصبا.

يتوازى الحدث الرئيسي مع خط اعتباري في ذكريات نيللي عن تعدٍّ تعرّضت له في طفولتها، وحاضرها المحتجز في زواج مرتبك نتيجة إصابتها بقلق وألم يصاحب العلاقة الحميمة. يكشف ذلك الخط شكلًا آخر من التعدّي، بممارسات جنسية طفولية بين نيللي وجارتها التي تكبرها بأعوام قليلة. بمواجهتها، تتحرر من كوابيسها. يوازي العمل، بغرابة، بين معضلته الأساسية -أي العنف الجنسي الذي ينتج بطبيعته عن اختلال موازين القوى/الرغبة في الهيمنة والانتهاك- وبين ممارسات يمكن الخوض في تفاصيلها في عمل آخر، تتضمن شكلًا مختلفًا من الموازين والمسبّبات.

بموازاة جريمة بانتهاك مراهق غير مدرك تمامًا لحجم انتهاكه، يبدأ «لام شمسية» في فقد حدّته. يتلاشى النقد المجتمعي، ليصبح فرديًا بالكامل. يصبح هوس وسام الجنسي ثمرة فاسدة، يتطهّر المجتمع المصغّر للعائلة بإزالتها. جرم وسام هو استثناء، عنصر ملوّث في عالم متناغم. يخرج من كونه ممثلًا لمجموعة من السلطات الذكورية/الرسمية، إلى مريض مهووس غير قادر على السيطرة على رغباته.

في بداية الكشف، يبدو عالم العائلة المثالي وكأنه على وشك الانهيار. لكن، بالتدريج، يندمج الجميع في عملية من التصالح وإعادة التوازن. يعترف طارق بأخطائه، ويصبح أبًا أفضل لأبنائه، وزوجًا أفضل لنيللي. يتجاوز أنانيته، وتتجاوز هي خيانته. لا يمثّل كشف خطر وسام تهديدًا حقيقيًا لشكل زائف من الحياة المثالية، بل محركًا لتعافي الجميع، بعد إزالة الشر -أي وسام نفسه- من الصورة.

في الوقت نفسه، يظهر وسام كشخصية تراجيدية وحيدة في العالم، في خيار مغامر جريء باستدعاء إمكانية التعاطف مع رجل مُنتهَك في طفولته، سقط عنه فجأة ستار الحماية، مع كشف أسباب فساد وعوار عالم العائلة/الطبقة المتوسطة العليا.

تصبح إزالة الشر ممكنة، بالتكاتف والبوح، وإظهار الشجاعة. يتحوّل العمل نوعيًا من الرعب النفسي إلى دراما غرفة المحاكمة (Courtroom Drama)، ومعها يتغيّر شكل التناول البصري، بإدراج زوم مفاجئ على الشخصيات، كأنها في تلفزيون الواقع، حيث ننتظر كمتلقين نتائج محاكاة لمحاكمة، تنهي الشر المتمثل في شخص واحد، وتُنقذ براءة المجتمع المغلق وتعيد له تناغمه.

تعمل المحاكمات ونتائجها كمشهدية، لا تعني بنقد عوار القوانين والعقوبات المتعلقة بجرائم العنف الجنسي، بل كشكل انتصار مطلق للمشاهدين والأبطال. انتصار يمضي في مسارات قانونية نظيفة ورسمية، دون تعقيدات أو شكوك أو منغصات ورقية أو إجرائية، بل وتطبيق حكم قاسٍ غير موجود في الواقع المصري القانوني الحالي.

عمل «لام شمسية» كدراما نفسية مشدودة، وكدراسة مقرّبة على طبقة محدّدة وعامة في الوقت نفسه. فكك علاقاتها الداخلية، ومن خلالها فكّك الانتهاك الجنسي كجزء من سلسلة من التراتبيات تبدأ من السلطة بشكلها السياسي، إلى شكلها الأبوي، ثم الذكوري، ثم عاد مرة أخرى إلى تقليص زاوية رؤيته إلى الجاني كفرد واستثناء. يمكن التخلص منه، وعقابه بأشد العقوبات الممكنة من خلال الأنظمة القادرة على خلقه من الأساس. وبالتخلّص منه، يمكن للأسرة، والطبقة، بل وللدولة بأكملها، استعادة سلامها من جديد.

# فن # مسلسلات رمضان # لام شمسية # أمينة خليل # دراما رمضان 2025 # دراما رمضان

«ANORA» لشون بيكر: لا أريد لهذا الخيال أن ينتهي
فيلم «6 أيام»: رحلة ما بين الزمن واللانهاية بحثًا عن النجاة بالحب
مسلسل النص: أحمد أمين والكوميديا من الوضع جالسًا

فن