فن

مسلسل «أعلى نسبة مشاهدة»: مشاهدة آلام الآخرين

عُرض مسلسل «أعلى نسبة مشاهدة» في رمضان الماضي ليحوز نصيبًا من اسمه بنسبة عالية من المشاهدة وجدل واسع حوله.

future مشهد من مسلسل أعلى نسبة مشاهدة

عرض مسلسل أعلى نسبة مشاهدة في رمضان الماضي ليحوز نصيبًا من اسمه بنسبة عالية من المشاهدة وجدل واسع حوله، يستعير العمل الذي كتبته سمر طاهر وأخرجته ياسمين أحمد كامل قصص معاشة معاصرة لفتيات من خلفيات اجتماعية ومادية متواضعة ينجرفن في عوالم الإنترنت التي تودي بهن لمصائر حالكة أحلك حتى من الفقر الذي يهربن منه.

أثار العمل ردود أفعال واسعة ومتنوعة من إعجابات بأداءات الممثلات اللاتي خرجن من جلودهن بأداء أدوار فتيات من طبقة اجتماعية مختلفة عنهن، والإعجاب بمجهود التصوير الخارجي في مناطق مدينية أثرية في منطقة القلعة والحطابة وهو ما ندر ظهوره في العشر سنوات الأخيرة ثم عاد بشكل أو آخر للشاشات.

وبجانب الآراء الإيجابية على النصف الأول من العمل، ظهرت مخاوف في نصفه الثاني واقترابًا من الحلقة الأخيرة بأنه يأخذ اتجاهًا توعويًا يحكم أخلاقيًا وقضائيًا على الفتيات اللاتي صورهن كضحايا طيلة خمس عشرة حلقة، بل وشكك البعض بأن هذا حدث نتيجة تدخلات رقابية وأنه منفصل دراميًا وجماليًا عن خط سير المسلسل في حلقاته الأولى.

يعمل مسلسل أعلى نسبة مشاهدة في إطار واقعي اجتماعي، حيث يظهر مشكلات طبقات مهمشة ويستكشف ما يقع خلف الظاهر، بل يأخذ شخصيات ذات وجوه معروفة ويعين لها حيوات داخلية في إطار من التخييل أو التبرير وتفسير المآلات التي جعلت حكاياتها تأخذ شكلها الأخير، ويخلق ديناميكات عائلية داخلية وخارجية ويربطها بالخروج من النسق الأخلاقي المسموح به داخل أطر الطبقة والجنس.

في الوقت نفسه يعتمد المسلسل على شكل إثاري في تصوير حياة الأسر الفقيرة، فإذا كانت مظلة نوعه هي الواقعية الاجتماعية فإنه ينحو أكثر إلى خلق تتابع مكثف من المآسي والتراجيديا التي تسمح للمشاهد الذي لا يختبر الحياة نفسها أن يتطهر جزئيًا، وأن يكون ممتنًا لكونه ليس جزءًا من تلك الحياة أو تلك الخيارات، فهو عمل إرشادي وتحذيري أكثر منه عملًا واقعيًا، موجهًا تحذيره للآباء وللفتيات بشكل رئيسي، دون التطرق لأي عوار مجتمعي أو سياسي، بل يلقي اللوم كله على مؤسسات اعتبارية غير مسماة دون نقد مؤسسي  لشكل التراتبية الطبقية من الأساس.

الإنترنت كمفسد خارجي

يحكي أعلى نسبة مشاهدة قصة اجتماعية مكثفة لأسرة تسكن منزلًا مكتظًا بالحياة والهموم في منطقة الحطابة، الأم (انتصار) تسعى بكل قوتها لكسب جنيهات إضافية لمساعدة الأب (محمد محمود) الذي يتنقل بين الوظائف بعد أن لفظه عالم الفن والحرف لأن لوحاته من الخط العربي لم تعد رائجة، وثلاث فتيات أكبرهما آمال (فرح يوسف) متزوجة من علي (إسلام إبراهيم) رجل دنيء مستغل ولديها منه طفل لكنها لا تزال منغمسة في حياة أسرتها الممتدة نظرًا لكثرة خلافاتها الزوجية وقربها من والدتها، وأختان في سن أصغر: شيماء (سلمى أبوضيف) ونسمة (ليلى زاهر)، تجمعهما غرفة وصداقة وشخصيتان متناقضتان، شيماء الأكبر التي ترسب كثيرًا أثناء دراستها في معهد الخدمة الاجتماعية، تملك آمالًا كبرى وقلب يتسع لأحلام خارج غرفتها الصغيرة، ونسمة الأكثر دهاء طالبة في المدرسة الثانوية ومهووسة بمواقع التواصل الاجتماعي والتلاعب الممنهج بمن حولها بمن فيهم أختها، تنزلق شيماء رغمًا عنها إلى عالم الإنترنت لتمتعها بكاريزما وقبول وصدفة عابرة تحدث يوميًا، فهو عالم لا يعلم أحد من سيتربع على عرشه اليوم ويسقط غدًا، تأخذ شيماء أيامها المعدودة من الشهرة، وتنجرف إلى عوالم أكثر قتامة تودي بها إلى نهاية تراجيدية.


الإنترنت في أعلى نسبة مشاهدة هو عنصر مفسد، ومهدد خارجي، يلائم الطبقات التي تحتمل مخاطره لكنه يلفظ الطبقات التي تعتمد عليه للتكسب، يعمل المسلسل مثل أعمال عديدة تتناول تهديد الثقافة والقيم الأسرية للمجتمعات المنغلقة عن طريق طرح ثنائيات داخلية وخارجية، مشابهة لثنائيات الريف والمدينة أو العلم والجهل، لكن الإفساد هنا بشكله المعاصر لا يتطلب مغادرة المنزل بل يدخله عن طريق تكنولوجيا أصبح من الصعب تحجيمها، ومن ذلك المنطلق بعد دخول المفسد إلى البيئة المغلقة، بيئة البيت والأسرة يصبح الخروج من تلك البيئة أسهل وأكثر ضرورية لتحقيق مكسب حقيقي، ومن ذلك الخروج يحدث الاحتكاك بين الطبقات.

لكن أعلى نسبة مشاهدة يرسخ من بدايته انفصالًا تامًا بين الطبقات، تصهره المجتمعات الافتراضية، في تصور لا يقارب الشكل الحقيقي لعمل تلك المجتمعات، فإذا كان الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي يصهر الطبقات افتراضيًا ويقرب الشخوص من الخلفيات المختلفة في أطر رقمية فإنه لا يقربهم في الواقع بالضرورة، بل تظل هنالك جزر متباعدة رقمية تضم كل منها مجتمعًا طبقيًا مغلقًا حتى وإن تشابهت الوظائف التي ولدها الإنترنت مثل وظيفة المؤثر/ المؤثرة وعمت أكثر من طبقة.

في أعلى نسبة مشاهدة الإنترنت هو الشرير الحقيقي بجانب الفقر وعيوب التربية، لا يتطرق العمل لانتقاد ديناميكة تحرك الطبقات داخل المساحات الرقمية أو خارجها أو الاستغلال الناتج عن ذلك أو الفرق الجوهري بين شهرة فتاة ذات امتيازات طبقية وفتاة دونها، والمخاطر الحقيقية التي تقع على طبقة دون أخرى، ليس بسبب الإنترنت كمفسد خارجي بل بسبب انعدام العدالة الطبقية، لكنه ينشغل أكثر بحسب تصريحات مخرجته بتخويف الفتيات بخاصة صغيرات السن من الطبقات الفقيرة من ولوج العالم الرقمي.

الإنترنت كأداة تسويقية

تسهم ثقافة الإنترنت نفسها التي ينتقدها ويحللها أعلى نسبة مشاهدة في نجاح المسلسل ماديًا وجماهيريًا، فالعلاقة بين المحتوى التلفزيوني والمحتوى الرقمي أصبحت متشابكة وقابلة للاستبدال.

تتوالى ردود الأفعال بموازاة عرض العمل ويصبح هناك أخذ ورد بين النص المعروض ومواقع التواصل الاجتماعي، كما أن أغنية العمل التي يؤديها فريق المدفعجية بجانب سلمى أبوضيف، التي تمثل هبوطًا أخلاقيًا وفنيًا بالنسبة لبطلته وبالنسبة للتوجه العام للمسلسل تصبح جزءًا من الأغنيات الرائجة على موقع تيك توك في العالم الحقيقي ويحتفي بها صناعها، كما أن الحملة الإعلانية للملابس ذات الطابع الفرعوني التي تشارك بها شيماء عندما تتعرف إلى أفراد من طبقة أعلى منها هي حملة دعائية حقيقية بطلتها سلمى أبوضيف الممثلة نفسها، يمثل ذلك التبادل والاستفادة المادية من الانتقاد نفسه أو الحكم الأخلاقي حالة مربكة بين رسائل العمل وكيفية وصولها، فطيلة أحداثه تكون شيماء بطلة تراجيدية بريئة وساذجة تمامًا لذلك يصبح وقوعها في محظور ما معنيًا بعدم توجيهها من البداية، وذلك المحظور يصبح مقبولًا بل ومحمودًا في إطارات طبقة مختلفة تنتمي لها بطلة العمل نفسها.

شخصية شيماء ضحية ظروف فقرها وإهمال أبيها وبالطبع ضحية المؤثر الخارجي الذي يخترق البيوت المغلقة، يرتبط ذلك في النهاية بالإدانة القضائية في مشهد محاكمة موسع موجه للجمهور، في كسر كامل للإيهام ومحاولة للتخويف والنصح والتحذير من النصيب المحتوم.

بعد عرض الحلقة صرح الممثلين والممثلات بآرائهم في تلك الإدانة وضرورتها، محمد محمود في دور الأب صرح بأنه أدلى بكلماته الخاصة بشكل فيه دفق شعوري حيث قال إن الإنترنت يمثل حربًا أعتى من الأسلحة والدبابات، كما صرحت ليلى زاهر بأن كل مخطئ يجب أن يعاقب ولا داعي للتعاطف الأعمى مع شخصيات مثل شيماء، كذلك صرحت ياسمين أحمد كامل المخرجة أنها لو بيدها تغليظ العقوبة ستفعل ذلك، تنقل نوايا وأفكار المشاركين بالعمل بجانب جمالياته المختارة من موسيقى جنائزية مكثفة وتركيز على إظهار العنف الجسدي والمعنوي من كونه عملًا واقعيًا حساسًا أو متعاطفًا، وتجعله أشبه بدرس استغلالي، موجه بشكل ما للفرجة، بمعناها الفوقي، تصبح الحيوات المأساوية عينة معملية للتعلم وإثارة الشفقة وليس للفهم والتوحد مع الشخصيات بل لتجنب مصائرهم، دون وعي حقيقي بدلالات أو تأثيرات تلك التوجهات على الأفراد المهمشين في العالم الحقيقي.

جلا هشام، سلمى أبو ضيف وليلى زاهر من كواليش تصوير أعلى نسبة مشاهدة 2024

عالم النجوم الجديد

تحوي الدراما المرئية الجماهيرية من سينما وتلفزيون ومسرح تناقض داخلي جوهري، وهي أنها تستدعي قصص الآخرين من كل الخلفيات الاجتماعية والنفسية، في حين أن من يجسد تلك القصص هو نجم أو نجمة يعيش حياة في أعلى السلم المجتمعي وفرها له تجسيد حيوات الآخرين، منهم بالطبع من هم أقل منه حظًا ماديًا واجتماعيًا، ذلك التعقيد الجوهري يتم التحايل عليه أو التعامل معه في السينما الأقل شعبية وجماهيرية عن طريق إشراك أفراد من المجتمعات التي يتم تمثيلها في عملية صناعة الأفلام أو المسلسلات، لكن في السياقات التجارية العامة غالبًا ما يتم الاعتماد الكامل على الأسماء ذات الجماهيرية أو الوجود الإعلامي المسبق، فيصبح التمثيل أو التجسيد أشبه بتنكر غير واعي بالدلالات الاجتماعية والتناقض الجوهري بين حقيقة النجم ووعيه بما يقدمه.

يعزز من ذلك الانفصال اندثار الحالة الكلاسيكية لنجوم السينما والتلفزيون كنماذج غامضة يصعب معرفة حقيقتها، في الوقت الحالي يتعاطى النجم أو الممثل بشكل مباشر مع جمهوره ويختار ما يظهره من حياته الاجتماعية التي تتضمن بالطبع الرخاء المادي، بل أن الفاصل الذي يفرق بين النجم العامل بالتمثيل والمؤثر على الإنترنت أصبح شعرة ضئيلة، كثير من المؤثرين يستخدمون المنصات للقفز بعدها لعالم التمثيل، وإذا كانوا من خلفيات طبقية واجتماعية مهمشة فإنه لا يتم قبولهم أو صهرهم في أوساط الممثلين، مثال على ذلك مشاركة كروان مشاكل الشاب الذي اشتهر على تطبيق تيك توك في مسلسل بطن الحوت من إخراج أحمد فوزي صالح، وعلى الرغم من ضآلة دوره فإن العمل وقع تحت نقد وازدراء شديدن بل وتهديد بسحب العضوية النقابية من المخرج بسبب تلك المشاركة.

يتجنب أعلى نسبة مشاهدة إشراك أبطال الانترنت الذي يحكي قصصهم في نسيج عمله، يكتفي بمحاكاتهم وتصور حيواتهم المخفية والمخيفة، تحدث من حين لآخر تداخلات تموه الخط الفاصل بين الواقع والنص الخيالي مثل توحد سوزي الأردنية إحدى المؤثرات الشهيرات مع شخصية نسمة من المسلسل، فيصبح العمل جزء من وضع قائم ومستمر يشتبك معه أثناء حدوثه مجيئًا وذهابًا، مما يثير تساؤل رئيسي حول شكل وطبيعة التمثيل واختيار الممثلين للأدوار، خاصة عندما يكون الموضوع الرئيسي للعمل يخص أفراد يمرون به بشكل يومي، فارتباط الفقر باللجوء للإنترنت لكسب المال أو الخروج من ضيق الحياة اليومية لمساحات أكثر تحررًا ورحابة هو وضع قائم تمر به فتيات مرئيات على تيك توك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي.

كما أن العقدة والخاتمة النهاية الرئيسية للعمل تتضمن عقاب واجب وحكم أخلاقي، عقاب يتم التمهيد له في بداية كل حلقة بشكل تراجيدي كسقوط بطل يحاول الوصول إلى الشمس التي ستحرقه في النهاية، مما يفرض على الأشخاص الذين يتمردون على الوضع القائم (احتكار طبقة محددة لوظيفة المؤثر) نهاية حتمية مأسوية.

سلمى أبو ضيف من أعلى نسبة مشاهدة 2024

التمثيل كتنكر

يعمق من التوتر في اختيار الممثلين والتعاطي مع المؤثرين من خلفيات اجتماعية مختلفة ظهور الممثلين أنفسهم على مواقع التواصل الاجتماعي أثناء عرض المسلسل كاسرين الإيهام وربما الحائط الرابع بإطلاق النكات على الطبيعة اللغوية لسكان المناطق الشعبية، والمزاح حول شخصيات مصيرها السجن أو ما هو أسوأ.

لم يعد الممثل يسعى لأن يتلبس شخصيته بالكامل بل يظهر بشكل متوازي بشخصيته الحقيقية موضحًا أن قيامه بلعب الشخصية هو تنكر، يضم هذا التنكر استعارة لكنة ثقيلة مصطنعة وهوية لغوية تخص طبقة وخلفية اجتماعية مختلفة وملابس تخص تلك الطبقة، مع التأكيد على الطبيعة التراجيدية للتواجد على الإنترنت إذا كنت فرد ليس ذو امتيازات، يستخدم ذلك التنكر لصنع الإيهام خاصة مع التناقض الشديد بين الشخصيات والممثلات المعروفات وأصلهن الطبقي والمادي، فكلما ازداد التضاد زادت جدية الممثل وتفانيه في عمله، فهو بعد كل شيء زيّ سيتم خلعه بعد انتهاء التصوير، دون وضع اعتبار لدلالات ذلك وتأثيره في الحياة الحقيقية فيما يخص الفتيات اللاتي يمكن ملاحقتهن قضائيًا لأسباب أوهن كثيرًا من الأسباب التي يختارها المسلسل والمبنية على سبب حقيقي، وهو الاشتراك في تطبيق يدعو للدعارة والاتجار في البشر.

في أعلى نسبة مشاهدة تتحول الشخصيات من نماذج بشرية إلى دروس، دروس موجهة لنظرة الطبقة المتوسطة أو العليا التي تشاهد مصائر أناس بعيدون كل البعد عن حيواتهم، في السينما والمسلسلات المصرية كثير من الأعمال التي تخدم تلك النظرة التي تولد الخوف والشفقة وثم التطهير والابتعاد، نظرة توهم المتلقي أنه يعرف أو يتعاطف لا أنه يتفرج أو يستهلك.

قصص الفتيات في أعلى نسبة مشاهدة هي محتوى استهلاكي لا يمكن تفرقته كثيرًا عن المحتوى الذي ينتقده، فمخرجته نفسها لا ترى الشخصيات باعتبارهم أناس كاملي الأهلية بل عظة يتعلم منها الآخرون من الأطفال والمراهقين، لكن على الرغم من ذلك شوهد المسسلسل من قبل كثيرين باعتباره قصة تراجيدية وتعاطف الكثيرون مع شخصية شيماء الفتاة واسعة العينين الذي لا يعطيها العالم فسحة من الأمل في الحب أو المال، وهو ما يسهل حدوثه لأن الشخصية نفسها هربت من مؤلفيها وأصبحت عرضة للتأويل الجماهيري المنفصل عن نوايا الصناع الأصلية، لذلك ظن الكثيرون أن نهاية العمل هي تدخل رقابي لأنها غير متسقة مع الشخصية المثيرة للتعاطف التي أحبها المشاهدين بينما هي في واقع الأمر نهاية مزروعة في كل مشهد وكل منعطف تأخذه الأحداث حتى مشهد النهاية.

# دراما مصرية # مسلسلات

مسلسل «بدون سابق إنذار»: إعادة نظر في معنى الأسرة
مسلسل «دواعي السفر»: كيف تجد الأنس في نادي الوحدة؟
دراما المعطف الأبيض: أفضل 7 مسلسلات طبية أمريكية

فن