مدام نفيخة الشخصية الأكثر غموضاً في سبونج بوب. من بعيد يبدو أن كل شيء حولها طبيعي، لكن عندما نقترب قليلاً تبدأ علامات الاستفهام بالتشكل، رأينا عائلات لجميع الشخصيات الرئيسة في المسلسل، حتى من فقد والديه شاهدناه معه جده وجدته، أما مدام نفيخة فلم يظهر لها عائلة أو أقرباء خلال المسلسل، الأكثر غرابة من كونها ورقة سقطت من شجرة العائلة هو محاولتها المستمرة لتعليم سبونج بوب، على الرغم من تحويله حياتها إلى جحيم، يصطدم بها في كل الاختبارات لدرجة أنه يغير شكلها الخارجي، لا الداخلي فحسب، فهي تعاني بسببه فسيولوجياً ونفسياً، ومع ذلك مستمرة وتحاول معه، مع أنه الطالب الوحيد الذي لم يستطع أن يحصل على رخصة، قد تعتقد أن هذه الأمور مجرد صدفة، وأشياء سطحية في مسلسل كرتوني، لكن هيا نبدد هذا الاعتقاد من السطر الأول.
الحلقة العاشرة من الموسم الثاني «No Free Rides; I'm Your Biggest Fanatic» يأخذ سبونج بوب اختبار القيادة كالعادة ويفشل به، لكن مدام نفيخة اكتفت من هذا الأمر، ولا تريد أن تظل حياتها بهذه الصورة، وهنا تخرج رخصة قيادة جاهزة لسبونج بوب وتعطيها له، رخصة جاهزة تحملها معها! ولم تصدر من مكان مختص، بعد لحظات من هذا التصرف تدرك الكارثة التي فعلتها، وتتخيل سبونج بوب وهو يهدم المدينة بأكملها، ويدهس سكان قاع الهامور، وهنا تقول بالنص: «ماذا فعلت؟ سيعرف الجميع أني تركته يتجاوز الاختبار، علي أن أجد مدينة جديدة، وأن أجد مدرسة جديدة لتعليم القيادة، باسم جديد، لا ليس مجدداً». الآن نعرف أن مدام نفيخة ليست من سكان قاع الهامور، بل مدام نفيخة أو «Mrs. Puff» ليس اسمها الحقيقي، لماذا فعلت هذا في المرة الأولى؟
مدام نفيخة في الخلفية تتحدث إلى تمثال جليدي لسبونج بوب
سؤال جيد لكن يجب قبل ذلك أن تعرف أن علاقتها بسبونج بوب ليست علاقة طبيعية بين طالب ومعلمته، فهو مصدر لكوابيسها، وأحلامها السيئة، وهناك حلقات بالكامل في المسلسل أجزم أنها لم تحدث إلا في رأسها، وهذه الحلقات تدور تحديداً حول سبونج بوب، يخرج لها من كل مكان ويطارده، بل نراها في أحد المشاهد وهي تقوم بحساب وقت ستقضيه في السجن بكل سعادة، فهي تريد أن تبقى في السجن لتهرب من العالم الخارجي وما يحدث فيه، لكن حتى هذا لا يستقيم لها، وعلى رغم دخولها السجن عشرات المرات فإنها تخرج بسرعة.
في هذه الصورة تحديداً، نرى مدام نفيخة في حفل يجتمع فيه جميع سكان قاع الهامور، كل شخص يتحدث إلى شخص آخر، الجميع مندمج في الأجواء وسعيد، أما هي فجالسة مع فقاعة من سبونج بوب، تحدثها وكأنها حقيقية، تجلس أمامها وتراها رأي العين!
أحلام مزعجة لمدام نفيخة ترى فيها سبونج بوب
كثيراً ما كانت تستيقظ من نومها على أحلام مزعجة لسبونج بوب وهو يدمر قاع الهامور، أو وهو ينجح مع معلم آخر ويأخذ رخصة القيادة، الأمر أكبر بكثير من مجرد تعليم طالب مصاب بفرط الحركة يعمل في محل برجر.
وأعتقد أن حياة مدام نفيخة في المسلسل تتلخص في بعض الصور المعلقة على حوائط منزلها التي كانت تظهر في المسلسل، وهي اللعبة التي يحبها صناع المسلسل عموماً، فكثير من الشخصيات والنظريات تتكشف خيوطها الأولى وتبدأ علامات الاستفهام بالظهور من الصور المعلقة حول الأبطال، بعض المهتمين بتفاصيل المسلسل كانوا يصفون الصورة المعلقة على بابها بأنها واحدة من أكبر ألغاز المسلسل، لكن الصور في منزلها متشابهة، صورة لمدام نفيخة في حالة شعورية معينة، وإلى جانبها داخل الصورة صورة أخرى تشبه الصورة الأصلية، وبداخل الصورة الصغيرة صورة ثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية، تكرارات داخل بعضها بعضاً، وأرى ببساطة أن الصور مجرد مفتاح لفهم عقلية مدام نفيخة التائهة والغريبة في قاع الهامور، المعلمة التي تهرب من ماض أليم، وأمام واقع قاسٍ، وإجبار لا نهائي لتعليم سبونج بوب، يصل لدرجة تهديد حياتها بالكامل!
مشاهد من مسلسل «سبونج بوب»
في الموسم الثاني عشر، الحلقة الحادية والعشرون «Lighthouse Louie»، يذهب سبونج بوب لمنارة مدرسة القيادة، وذلك لترتيب الأشياء الكثيرة التي تحتفظ بها مدام نفيخة، وفي الحلقة عديد من المشاهد التي تجعلنا نفتح باب النظريات على مصراعيها، ونكتب بلا توقف عن الأشياء المخفية في هذا المسلسل، لكن وعلى الرغم من أننا قد نختلف في فهم وتفسير بعض الرموز الجلية، مثل الصورة المعلقة على الحائط، فهناك أدلة أخرى يصعب دحضها. ومنها هذا المشهد في الصورة الأولى، بالطبع كان من الصعب أن نوقف مشهداً كهذا على التلفاز ونحن صغار، لكن ها نحن نتحرك في المسلسل بأكمله بسهولة.
في هذه الصورة ثلاثة أشياء مهمة، أولاً الخبر نفسه، وهو أن هناك معلمة قيادة مختلة قامت بالفرار، لم يكتفِ الخبر بالقول إنها هربت بل ووصف حالتها العقلية.
ثانياً مصدر الخبر، لو نظرنا في بداية الصحيفة سنجد أنها صادرة من مدينة New Kelp، وإن لم تعرفها فهي مدينة قريبة من قاع الهامور، أشير إليها أكثر من مرة في أكثر من حلقة، هكذا نعرف يقيناً أن المدينة القديمة التي هربت منها مدام نفيخة قبل أن تشكل هويتها المزيفة هي New Kelp، وفي الحلقة نفسها يظهر من بين أغراضها ملف بالكامل عليه اسمها، وكأنها تضع فيه جميع الملفات التي تخفيها.
ثالثاً تحت الخبر الرئيس معلومة أخرى عنها، وهي أنها تضلل السلطات بحيوانات بالونية، وهذا قد رأيناه خلال المسلسل بالفعل، ففي المرات التي كانت تلبس فيها مدام نفيخة قناعاً أسود وتقوم بجريمة ما، كانت تترك وراءها بالوناً على صورة حيوان في مسرح الجريمة. إذاً عادتها القديمة لم تغيرها، فها هي لا تزال تقوم ببعض الجرائم أحياناً. ففي الحلقة الحادية والعشرين نفسها نرى من بين أغراضها غرضاً لكل شخصية في قاع الهامور، وفي حلقة الفقرة السابقة، تحدثنا عن أنها قامت بتزوير رخصة قيادة لسبونج بوب وإخراجها له عندما أرادت، هذا غير أنها فارة من السلطات بسبب جريمة قديمة، الآن نحتاج نقطة يلتقي بها كل الخيوط حتى نرى الصورة الكاملة.
لحظات مواعدة بين السيد كرابس والسيدة باف
لكن تبقى نقطة واحدة وهي العلاقات الغرامية لمدام نفيخة الشخصية الأساسية التي كانت تقابلها هي مستر سلطع، وكان يحاول التقرب منها، حتى إنه سأل سبونج بوب عن زوجها، لكنه أخبره أنها لا تحب الحديث عن الأمر، وبالطبع يمكن الآن أن نفهم أنها هربت من حياتها القديمة ومن زوجها، بالتالي لا يعرف أنها في قاع الهامور، لماذا لم تذهب لإخباره بعد ذلك أو لم تقابله في مكان مختلف؟ سيتضح بعد قليل، المهم الآن هي العلاقة الثانية، مع المجرم دورسال الذي ستقع في حبه، لكنه سيقبض عليه في النهاية ويلقى في السجن، وتبقى هي وحيدة وحزينة، لكن الغريب هنا الشخصية الرئيسة التي جاءت مع الشرطة لإلقائه في السجن.
لقطات من مسلسل «سبونج بوب» وإلقاء الشرطة القبض على دورسال
الشخص الذي ظهر مع الشرطة هو نفسه الذي ظهر في إحدى الحلقات مع مستر سلطع حينما أخبره أنه يعمل في المحاماة، وسبب ظهوره وقتها أن شمشون تزحلق على ماء كانت على أرض مطعم سلطع برجر وقت تنظيفه، وبسبب إصابة شمشون قرر محاكمته، لكن الغريب هو ظهور هذا الشخص فجأة وإخباره مستر سلطع أنه سيدافع عنه مجاناً حتى يغريه أكثر، ووقت المحاكمة وقع هو أيضاً على الأرض فأرسل سبونج بوب مكانه وأخبره ألا يقلق لأن حقيبته بها أوراق الفوز، وفي قاعة المحكمة يكتشف سبونج بوب أنه لم يعطه كلمة السر التي يفتح بها الحقيبة، ما نعرفه الآن أن هذا الرجل ظهر مع مستر سطلع وكان يريد أن يدمر حياته ويجعله يخسر القضية ويدخل السجن، أم المرة الثانية فكانت مع دورسال وقد كان سبب دخوله السجن أيضاً، وكأن هذا الرجل يقوم بتخريب أي مصدر يمكن أن يجلب السعادة لمدام نفيخة.
مشهد لسكان مدينة New Kelp، والثاني في منزل مدام نفيخة
وقد لاحظ Alex Bale الذي يبحث في المسلسل مشهداً مشهداً على ما يبدو، أن هذا الرجل يشبه بالضبط صورتين، واحدة تظهر في منتصفه وهي لسكان مدينة New Kelp، والثانية في منزل مدام نفيخة، ويبدو أن الصورة في منزلها هي لأحد أقربائه، للشخص الذي كانت تعلمه القيادة في المدينة ثم قام بحادثة مروعة فقد حياته فيها بسبب أنها أعطته رخصة أو علمته بصورة خطأ، وهذا الحادث المروع الذي انتشر في الصحف والتلفاز، كان السبب في أن تترك مدام نفيخة المدينة بأكملها، وتبدأ حياة جديدة بهوية جديدة.
مدام نفيخة بعد أن تركت المدينة
لكن الهرب من الحياة القديمة لم يتم لها بصورة كاملة، لأن هذا الرجل بحث عنها وجاء خلفها وكل هدفه الآن هو التأكد من أنها تعيش حياة مزرية وحزينة، كما قلنا من قبل هي تحب السجن، لذلك هو يحرص على ألا يفضح أسرارها ويسجنها مقابل ما يعرفه عن جرائمها وحقائقها، لكنه يريد أن يتأكد من أنها تتعذب خارج السجن، وأفضل طريقة لهذا العذاب هو إبعاد من تحبهم من حولها، وثانياً إبقاءها قريبة قدر المستطاع من سبونج بوب، طالب آخر يمكن أن يتسبب في جريمة جديدة وموت آخر لها.
وللأمر إشارتان مباشرة في العمل، الأولى حينما ذهب لها سبونج بوب السجن وأخبرها أنهم قد يتركونها تخرج مبكراً إذا قامت بمعروف، وحينما استفسرت منه أخبرها أن هذا المعروف هو دروس قيادة مجانية، أما الإشارة الثانية، فكانت تجلس في منزلها وإلى جانبها صورة لا نهائية تعبر عن حالتها، وتتحدث أن لو سبونج بوب يتمكن من اجتياز اختبار القيادة لكان خارج حياتي، لكني للأسف لا أزال أتذكر العواقب، ونرى مع هذا المشهد سوار تحديد المواقع حول قدمها، وهو الذي يمنعها من مغادرة قاع الهامور.
سوار تحديد المواقع حول قدم مدام نفيخة
إذاً مدام نفيخة تعيش من دون إرادة منها في قاع الهامور، وتعلم سبونج بوب بالقوة، وهي تكره هذا بل وتتعذب به نفسياً وجسدياً، وكلما أحبت شخصاً ظهر هذا الرجل الغامض وأفسد لها علاقتها، وزوجها لا تستطع أن تصل إليه.
وفي المسلسل العشرات من الإشارات الأخرى لأمور في حياتها وعن حالتها النفسية والعقلية. ويمكن أن نكتب أكثر من مقال عن التشخيصات النفسية لشخصيات المسلسل، لكن ما يهم الآن أننا لو ركزنا أكثر قليلاً، لو طرحنا عدة أسئلة فحسب، ربما نخرج بقصص أكثر بكثير من الذي نراها، وهذه متعة الفن الحقيقية، الطبقات التي يمكن أن تغرق بداخلها ما دام العمل موجوداً وقابلاً للقراءة.